[الشمس : 10] وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا
10 - (وقد خاب) خسر (من دساها) أخفاها بالمعصية وأصله دسسها أبدلت السين الثانية ألفاً تخفيفاً
وقوله : "وقد خاب من دساها" يقول تعالى ذكره : وقد خاب في طلبته ، فلم يدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح من دساها ، يعني : من دس الله نفسه فأحملها ، ووضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي ، وترك طاعة الله وقيل : دساها وهي دسها ، فقلبت إحدى سيناتها ياء ، كما قال العجاج :
تقضي البازي إذا البازي كسر
يريد : تقضض وتظنيت هذا الأمر ، بمعنى : تظننت ، والعرب تفعل ذلك كثيراً ، فتبدل في الحرف المشدد بعض حروفه ، ياء أيحاناً ، أحياناً ، وواواً أحياناً ، ومنه قول الآخر :
يذهب يي في الشعر كل فن حتى يرد عني التظني يريد التظنن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس" وقد خاب من دساها" يقول : وقد خاب من دسى الله نفسه فأضله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال :ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " وقد خاب من دساها" يعين : تكذيبها .
حدثنا أبو كريب ، قال: ثنا وكيع ، عن سفيان عن خصيف ، عن مجاهد ، و سعيد بن جبير " وقد خاب من دساها" قال أحدهما : أغواها ، وقال الآخر : أضلها .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد "وقد خاب من دساها" قال : أضلها ، وقال سعيد : من أغواها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " من دساها " قال : أغواها .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " وقد خاب من دساها" قال أثمها وأفجرها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن يزيد ، في قوله " وقد خاب " يقول : وقد خاب من دسى الله نفسه .
قوله تعالى:" وقد خاب من دساها" أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قاله قتادة وغيره. وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة (البقرة) مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء اخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجرأبدا خفي المكان، زمر المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال:
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت حلائله من أرامل ضيعا
قال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياء، كما يقال: قصيت اظفاري، وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضى. وقال ابن الاعرابي:" وقد خاب من دساها" أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.
قال مجاهد "والشمس وضحاها" أي وضوئها. وقال قتادة "وضحاها" النهار كله. قال ابن جرير : والصواب أن يقال: أقسم الله بالشمس ونهارها لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار "والقمر إذا تلاها" قال مجاهد : تبعها, وقال العوفي عن ابن عباس "والقمر إذا تلاها" قال: يتلو النهار, وقال قتادة : إذا تلاها ليلة الهلال إذا سقطت الشمس رؤي الهلال, وقال ابن زيد , هو يتلوها في النصف الأول من الشهر ثم هي تتلوه وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر, وقال مالك عن زيد بن أسلم : إذا تلاها ليلة القدر. وقوله تعالى: "والنهار إذا جلاها" قال مجاهد : أضاء. وقال قتادة "والنهار إذا جلاها" إذا غشيها النهار, وقال ابن جرير : وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك بمعنى والنهار إذا جلا الظلمة لدلالة الكلام عليها.
(قلت) ولو أن هذا القائل تأول ذلك بمعنى "والنهار إذا جلاها" أي البسيطة لكان أولى ولصح تأويله في قوله تعالى: " والليل إذا يغشاها " فكان أجود وأقوى, والله أعلم. ولهذا قال مجاهد "والنهار إذا جلاها" إنه كقوله تعالى: "والنهار إذا تجلى" وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله على الشمس لجريان ذكرها, وقالوا في قوله تعالى: "والليل إذا يغشاها" يعني إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الافاق.
وقال بقية بن الوليد عن صفوان : حدثني يزيد بن ذي حمامة قال: إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله غشى عبادي خلقي العظيم فالليل يهابه والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم , وقوله تعالى: "والسماء وما بناها" يحتمل أن تكون ما ههنا مصدرية بمعنى والسماء وبنائها, وهو قول قتادة : ويحتمل أن تكون بمعنى من يعني والسماء وبانيها, وهو قول مجاهد , وكلاهما متلازم والبناء هو الرفع كقوله تعالى: " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون " وهكذا قوله تعالى: "والأرض وما طحاها" قال مجاهد : طحاها دحاها, وقال العوفي عن ابن عباس "وما طحاها" أي خلق فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : طحاها قسمها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبو صالح وابن زيد "طحاها" بسطها, وهذا أشهر الأقوال وعليه الأكثر من المفسرين, وهو المعروف عند أهل اللغة, قال الجوهري : طحوته مثل دحوته أي بسطته.
وقوله تعالى: "ونفس وما سواها" أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟" أخرجاه من رواية أبي هريرة , وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حماد المجاشعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم", وقوله تعالى: "فألهمها فجورها وتقواها" أي فأرشدها إلى فجورها أي بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها. قال ابن عباس "فألهمها فجورها وتقواها" بين لها الخير والشر, وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثوري , وقال سعيد بن جبير : ألهمها الخير والشر, وقال ابن زيد : جعل فيها فجورها وتقواها, وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار , حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل قالا: حدثنا عزرة بن ثابت , حدثني يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي قال: قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وأكدت عليهم الحجة ؟ قلت: بل شيء قضي عليهم, قال: فهل يكون ذلك ظلماً ؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً قال: قلت له ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, قال: سددك الله إنما سألتك لأخبر عقلك, " إن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون, أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وأكدت به عليهم الحجة ؟ قال: بل شيء قد قضي عليهم قال: ففيم نعمل ؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: "ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها" " رواه أحمد ومسلم من حديث عزرة بن ثابت به.
وقوله تعالى: " قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها " يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى نفسه أي بطاعة الله كما قال قتادة : وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل, ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وكقوله تعالى: "قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى" "وقد خاب من دساها" أي دسسها أي أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل, وقد يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه, وقد خاب من دسى الله نفسه كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس , وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زرعة قالا: حدثنا سهل بن عثمان , حدثنا أبو مالك يعني عمرو بن هشام عن جويبر , عن الضحاك عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قول الله عز وجل: "قد أفلح من زكاها" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلحت نفس زكاها الله عز وجل" ورواه ابن أبي حاتم من حديث مالك به, و جويبر هذا هو ابن سعيد متروك الحديث, و الضحاك لم يلق ابن عباس , وقال الطبراني , حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح , حدثنا أبي , حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الاية "ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها" وقف ثم قال: "اللهم آت نفسي تقواها, أنت وليها ومولاها, وخير من زكاها".
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يعقوب بن حميد المدني , حدثنا عبد الله الأموي , حدثنا معن بن محمد الغفاري عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "فألهمها فجورها وتقواها" قال : اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها" لم يخرجوه من هذا الوجه, وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن صالح بن سعيد عن عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول "رب أعط نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها" تفرد به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا عبد الواحد بن زياد , حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث عن زيد بن أرقم , قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل, والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع. وعلم لا ينفع ودعوة لا يستجاب لها" قال زيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن, رواه مسلم من حديث أبي معاوية عن عاصم الأحول , عن عبد الله بن الحارث وأبي عثمان النهدي عن زيد بن أرقم به.
10- "وقد خاب من دساها" أي خسر من أضلها وأغواها. قال أهل اللغة: دساها أصله دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فمعنى دساها في الآية: أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح، وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها فيقصدها الضيوف، وكانت لئام العرب تنزل الخضاب والأمكنة المنخفضة ليخفى مكانها عن الوافدين. وقيل معنى دساها: أغواها. ومنه قول الشاعر:
وأنت الذي دسيت عمراً فأصبحت حلائله منه أرامل ضيعا
وقال ابن الأعرابي "وقد خاب من دساها" أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.
10- "وقد خاب من دساها"، أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها.
وقال الحسن: معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل، "وقد خاب من دساها" أهلكها وأضلها وحملها على المعصية، فجعل الفعل للنفس.
و "دساها" أصله: دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلت السين الثانية ياءً. والمعنى ها هنا: أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية.
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي، حدثنا أحمد بن حرب، حدثنا أبو معاوية عن عاصم، عن أبي عثمان وعبد الله بن الحارث، عن زيد بن أرقم قال: "لا أقول لكم إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها".
10-" وقد خاب من دساها " نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق ، وأصل دسى دسس كتقضى وتقضض .
10. And he is indeed a failure who stunteth it.
10 - And he fails that corrupts it!