[التوبة : 5] فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
5 - (فإذا انسلخ) خرج (الأشهر الحرم) وهي آخر مدة التأجيل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) في حل أو حرم (وخذوهم) بالأسر (واحصروهم) في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام (واقعدوا لهم كل مرصد) طريق يسلكونه ونصب كل على نزع الخافض (فإن تابوا) من الكفر (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ولا تتعرضوا لهم (إن الله غفور رحيم) لمن تاب
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "، فإذا انقضى ومضى وخرج.
يقال منه: ((سلخنا شهر كذا نسلخه سلخاً وسلوخاً))، بمعنى، خرجنا منه. ومنه قولهم: ((شاة مسلوخة))، بمعنى: المنزوعة من جلدها، المخرجة منه.
ويعني بـ " الأشهر الحرم "، ذا القعدة وذا الحجة، والمحرم.
وإنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحج الأكبر، فمعلوم أنهم لم يكونوا أجلوا الأشهر الحرم كلها - وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى - ولكنه لما كان متصلاً بالشهرين الآخرين قبله الحرامين، وكان هو لهما ثالثاً، وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "، ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غير معلوم.
" فاقتلوا المشركين "، يقول: فاقتلوهم، " حيث وجدتموهم "، يقول: حيث لقيتموهم من الأرض، في الحرم، وغير الحرم، في الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم، " وخذوهم " يقول: وأسروهم، " واحصروهم "، يقول: وامنعوهم التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة، " واقعدوا لهم كل مرصد "، يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم، " كل مرصد "، يعني: كل طريق ومرقب.
وهو ((مفعل))، من قول القائل: ((رصدت فلاناً أرصده رصداً))، بمعنى: رقبته.
" فإن تابوا "، يقول فإن رجعوا عما هم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، " وأقاموا الصلاة "، يقول: وأدوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها، وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها، " فخلوا سبيلهم "، يقول: فدعوهم يتصرفون في أمصاركم، ويدخلون البيت الحرام، " إن الله غفور رحيم "، لمن تاب من عباده، فأناب إلى طاعته بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به، أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أجلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا يشرك به شيئاً، فارقها والله عنه راض ". قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث، واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله، " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم "، قال: توبتهم، خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية آخرى: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " [التوبة: 11].
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "، حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة: رهط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عشور ماله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "، وهي الأربعة التي عددت لك، يعني: عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيعاً الأول وعشراً من شهر ربيع الآخر.
وقال قائلوا هذه المقالة: قيل لهذه: " الأشهر الحرم "، لأن الله عز وجل حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، والعرض لهم إلا بسبيل خير.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن إبراهيم بن أبي بكر: أنه أخبره عن مجاهد وعمرو بن شعيب في قوله: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "، أنها الأربعة التي قال الله: " فسيحوا في الأرض "، قال: هي " الحرم "، من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر "، قال: ضرب لهم أجل أربعة أشهر، وتبرأ من كل مشرك. ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم، " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد "، لا تتركوهم يضربون في البلاد، ولا يخرجوا لتجارة، ضيقوا عليهم بعدها. ثم أمر بالعفو: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "، يعني: الأربعة التي ضرب لهم أجلاً - لأهل العهد العام من المشركين - " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد "، الآية.
فيه ست مسائل:
الأولى -قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم" - أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي
وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته. وفي التنزيل: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار" [يس:37]. ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسرها أخضر.
والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الأصم: أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوماً على ما ذكره ابن عباس، لأن النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل: شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير.
الثانية -قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين" عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة البقرة من امرأة وراهب وصبي وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب "حتى يعطوا الجزية" [التوبة:29]. إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله: "فاقتلوا المشركين" يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوماً من أهل الردة يجوز أن يكون ميلاً إلى هذا المذهب، واعتماداً على عموم اللفظ. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: "حيث وجدتموهم" عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة البقرة ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال الضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة بقوله: "فإما منا بعد وإما فداء" [محمد:4]. وأنه لا يقتل أسير صبراً، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى. وقال مجاهد وقتادة. بل هي ناسخة لقوله تعالى: "فإما منا بعد وإما فداء" وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. وهو الصحيح، لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق. وقوله: "وخذوهم" يدل عليه. والأخذ هو الأسر. والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام. ومعنى "واحصروهم" يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان.
الرابعة - قوله تعالى: "واقعدوا لهم كل مرصد" المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلاناً أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدوا. قال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما إخالك ناسياً أن المنية للفتى بالمرصد
وقال عدي:
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد
وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة. ونصب كل على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال: ذهبت طريقاً وذهبت كل طريق. أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسماً للطريق. وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفاً وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعاً، كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل:
كما عسل الطريق الثعلب
الخامسة -قوله تعالى: "فإن تابوا" أي من الشرك. "وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال: "فإن تابوا". والأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هذا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره قوله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطردا. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر، ومن ترك السنن متهاوناً فسق، ومن ترك النوافل لم يخرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير راداً على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه. واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول: قال مالك: من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي. وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع. وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن علي. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وقالوا: حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس". وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبي من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا. وقال ابن خويزمنداد: واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك. وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس. وقال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس، والمغرب إلى طلوع الفجر.
السادسة -هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة. وقال في آية الربا: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" [البقرة:279]. وقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة.
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى: "منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم" الاية, قال أبو جعفر الباقر, ولكن قال ابن جرير: آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم, وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإليه ذهب الضحاك أيضاً وفيه نظر, والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه, وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" ثم قال: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم" أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر, ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة. وقوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" أي من الأرض وهذا عام, والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم, بقوله: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" وقوله: "وخذوهم" أي وأسروهم إن شئتم قتلاً وإن شئتم أسراً, وقوله: "واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد" أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم, بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام, ولهذا قال: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم" ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الاية الكريمة وأمثالها, حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته, ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عز وجل, وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين, ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة. وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" الحديث, وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله بن المبارك, أنبأنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها, لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم" ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه, من حديث عبد الله بن المبارك به, وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي, حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئاً فارقها والله عنه راض" قال: وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل، قال الله تعالى "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين" ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له. حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أنبأنا حكام بن سلمة، حدثنا أبو جعفر الرازي به سواء، وهذه الاية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم: إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة، وقال العوفي: عن ابن عباس في هذه الاية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الاخر، وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في هذه الاية قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام، ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق، وأذهب الشرط الأول . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان بن عيينة : قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف سيف في المشركين من العرب، قال الله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" هكذا رواه مختصراً، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب لقوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " والسيف الثالث قتال المنافقين في قوله "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" الاية, والرابع قتال الباغين في قوله "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فقال الضحاك والسدي هي منسوخة بقوله تعالى: "فإما مناً بعد وإما فداء" وقال قتادة بالعكس .
قوله: 5- "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" انسلاخ الشهر: تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال: سلخت الشهر تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى خرجت منه، ومنه قول الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي
ويقال: سلخت المرأة درعها: نزعته، وفي التنزيل "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار".
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة، ومحرم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر. وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير، وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" وسميت حرماً لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب، وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله. ومعنى "حيث وجدتموهم" في أي مكان وجدتموهم من حل أو حرم. ومعنى "خذوهم" الأسر فإن الأخيذ هو الأسير. ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلاناً أرصده: أي رقبته، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها. قال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما إخالك عالماً أن المنية للفتى بالمرصــد
وقال النابغة:
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد
وكل في "كل مرصد" ينتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج، وقيل: هو منتصب بنزع الخافض: أي في كل مرصد، وخطأ أبو علي الفارسي الزجاج في جعله ظرفاً. وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة، وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم. وقال الضحاك وعطاء والسدي: هي منسوخة بقوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" وأن الأسير لا يقتل صبراً بل يمن عليه أو يفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخه لقوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. قال القرطبي: وهي الصحيح لأن المن والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب جاء بهم وهو يوم بدر. قوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة" أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها "فخلوا سبيلهم" أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم "إن الله غفور" لهم "رحيم" بهم.
5-قوله تعالى "فإذا انسلخ"، انقضى ومضى "الأشهر الحرم"، قيل: هي الأشهر الأربعة: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وقال مجاهد وابن إسحاق: هي شهور العهد، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له: فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما، وقيل لها حرم لأن الله تعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم.
فإن قيل: هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم"؟.
قيل: لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه: مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.
وقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، في الحل والحرم، "وخذوهم"، وأسروهم، "واحصروهم"، أي: احبسوهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد إن تحصنوا فاحصروهم، أي: امنعوهم من الخروج.
وقيل: امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام.
"واقعدوا لهم كل مرصد"، أي: على كل طريق، والمرصد: الموضع الذى يرقب فيه العدو، من رصدت الشيء أرصده: إذا ترقبته، يريد: كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا.
وقيل: اقعدوا لهم بطريق مكة، حتى لا يدخلوها.
"فإن تابوا"، من الشرك، "وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم"، يقول: دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة، "إن الله غفور"، لمن تاب، "رحيم"به.
وقالالحسين بن الفضل: هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
5." فإذا انسلخ " انقضى ،وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة . " الأشهر الحرم " التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها . وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليش فيما نزل بعد ما ينسخها. " فاقتلوا المشركين " الناكثين ز"حيث وجدتموهم " من حل أو حرم ." وخذوهم " واسروهم ن والأخيذ الأسير ز "و احصروهم " واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام ." واقعدوا لهم كل مرصد" كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد ،وانتصابه على الظرف . " فإن تابوا" عن الشرك بالإيمان . " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة " تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم . " فخلوا سبيلهم " فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك ،وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ." إن الله غفور رحيم " تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة .
5. Then, when the sacred months have passed, slay the idolaters wherever ye find them, and take them (captive), and besiege them, and prepare for them each ambush. But if they repent and establish worship and pay the poor due, then leave their way free. Lo! Allah is Forgiving, Merciful.
5 - But when the forbidden months are past, then fight and slay the pagans wherever ye find them, and seize them, beleaguer them, and lie in wait for them in every stratagem (of war); but if they repent, and establish regular prayers and practise regular charity, then open the way for them: for God is oft forgiving, most merciful.