[التوبة : 40] إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
40 - (إلا تنصروه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فقد نصره الله إذ) حين (أخرجه الذين كفروا) من مكة أي الجأوه إلى الخروج لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه بدار الندوة (ثاني اثنين) حال أي أحد اثنين والآخر أبو بكر المعنى نصره الله في مثل تلك الحالة فلا يخذله في غيرها (إذ) بدل من إذ قبله (هما في الغار) نقب في جبل ثور (إذ) بدل ثان (يقول لصاحبه) أبي بكر وقد قال له لما رأى أقدام المشركين : لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا (لا تحزن إن الله معنا) بنصره (فأنزل الله سكينته) طمأنينته (عليه) قيل على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل على أبي بكر (وأيده) أي النبي صلى الله عليه وسلم (بجنود لم تروها) ملائكة في الغار ومواطن قتاله (وجعل كلمة الذين كفروا) أي دعوة الشرك (السفلى) المغلوبة (وكلمة الله) أي كلمه الشهادة (هي العليا) الظاهرة الغالبة (والله عزيز) في ملكه (حكيم) في صنعه
قال أبو جعفر: وهذا إعلام من الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وأظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدو في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟
يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوه، ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم، كما نصره، " إذ أخرجه الذين كفروا "، بالله من قريش من وطنه وداره، " ثاني اثنين "، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.
وكذلك تقول العرب: ((هو ثاني اثنين))، يعني: أحد الاثنين، و((ثالث ثلاثة، ورابع أربعة))، يعني: أحد الثلاثة، وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: ((هو أخو ستة، وغلام سبعة))، لأن ((الأخ))، و((الغلام)) غير الستة والسبعة، ((وثالث الثلاثة))، أحد الثلاثة.
وإنما عنى جل ثناؤه بقول: " ثاني اثنين "، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختفيا في الغار.
وقوله: " إذ هما في الغار "، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه، في الغار.
و((الغار))، النقب العظيم يكون في الجبل.
" إذ يقول لصاحبه "، يقول:إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر، " لا تحزن "، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحزن "، لأن الله معنا والله ناصرنا، فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويحوجه إليكم، وقد كثر الله أنصاره وعدد جنوده؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " إلا تنصروه "، ذكر من كان في أول شأنه حين بعثه، يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله: " إلا تنصروه فقد نصره الله "، قال: ذكر ما كان أول شأنه حين بعث، فالله فاعل به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك، " ثاني اثنين إذ هما في الغار ".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " إلا تنصروه فقد نصره الله " الآية، قال: فكان صاحبه أبو بكر، وأما " الغار "، فجبل بمكة يقال له: ((ثور)).
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله، فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور، وهو " الغار " الذي سماه الله في القرآن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وجبان قالا، حدثنا همام، عن ثابت، عن أنس، " أن أبا بكر رضي الله عنه حدثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدام المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا! فقال:يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ "
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري : " إذ هما في الغار "، قال:في الجبل الذي يسمى ثوراً، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه:أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيكم يقرأ ((سورة التوبة))؟ قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن "، بكى أبو بكر وقال:أنا والله صاحبه.
القول في تأويل قوله:" فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله - وقد قيل: على أبي بكر -، " وأيده بجنود لم تروها "، يقول: وقواه بجنود من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم، " وجعل كلمة الذين كفروا "، وهي كلمة الشرك، " السفلى "، لأنها قهرت وأذلت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها، وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى، " وكلمة الله هي العليا "، يقول:ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله، وهي كلمته،" العليا "، على الشرك وأهله، الغالبة، كما:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى "، وهي الشرك بالله، " وكلمة الله هي العليا "، وهي: لا إله إلا الله.
وقوله:" وكلمة الله هي العليا "، خبر مبتدأ، غير مردود على قوله: " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى "، لأن ذلك لو كان معطوفاً على ((الكلمة)) الأولى، لكان نصباً.
وأما قوله: " والله عزيز حكيم "، فإنه يعني: " والله عزيز "، في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر، " حكيم "، في تدبيره خلقه، وتصريفه إياهم في مشيئته.
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: "إلا تنصروه" يقول: تعينوه بالنفر معه في غزوة تبوك. عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك. قال النقاش: هذه أول آية نزلت من سورة براءة. والمعنى: إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة. وقيل: فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق. وقال سفيان بن عيينة. خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: "إلا تنصروه".
الثانية: قوله تعالى: "إذ أخرجه الذين كفروا" وهو خرج بنفسه فاراً، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه، لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف.
الثالثة: قوله تعالى: "ثاني اثنين" أي أحد اثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة. وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفرداً من جميع الناس إلا من أبي بكر. والعامل فيها "نصره الله" أي نصره منفرداً ونصره أحد اثنين. وقال علي بن سليمان: التقدير فخرج ثاني اثنين، مثل "والله أنبتكم من الأرض نباتا" [نوح:17]. وقرأ جمهور الناس ثاني بنصب الياء. قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا. وقرأت فرقة ثاني بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن [ما بقي من الربا] وكقوله جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
الرابعة- قوله تعالى: "إذ هما في الغار" الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثور. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتوه ورصدوه على باب منزل طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض، فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط. ويقال ابن أريقط، وكان كافراً لكنهما وثقا به، وكان دليلاً بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلاً فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفى آثارهما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال: هنا انقطع الأثر. فنظروا فإذا بالعنكبوتقد نسج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم. الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة. وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.
الخامسة -"روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بهم طريق الساحل".
قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق. وقال البخاري في ترجمته: (باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام). قال ابن بطال: إنما قال البخاري في ترجمته (أو إذا لم يوجد أهل الإسلام) من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها. وفيه: استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما. وفيه: دليل على جواز الفرار بالدين خوفاً من العدو، والاستخفاء في الغيران وغيرها، ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاماً له. ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم، ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال: من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصاً في توكله، ولم يؤمن بالقدر. وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية.
السادسة- قوله تعالى: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه. روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك "ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" هو الصديق. فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه. قال بعض العلماء: من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع. ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه رد نص القرآن. ومعنى "إن الله معنا" أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة. روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا: حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال:
"قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما". قال المحاسبي: يعني معهما بالنصر والدفاع، لا على معنى ما عم به الخلائق، فقال: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" [المجادلة: 7]. فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين.
السابعة- قال ابن العربي: قالت الإمامية -قبحها الله-: حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه، وضعف قلبه وخرقه. وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه: "نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف" [هود:70]. ولم ينقص موسى قوله: "فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف" [طه: 67-68]. وفي لوط: "ولا تحزن إنا منجوك وأهلك" [العنكبوت: 33]. فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصاً، ولم يكن ذلك طعناً عليهم ووصفاً لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر. ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. جواب ثان -إن حزن الصديق إنما كان خوفاً على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوماً، وإنما نزل عليه "والله يعصمك من الناس" [المائدة:67] بالمدينة.
الثامنة- قال ابن العربي: قال لنا أبو الفضائل العدل: قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم: قال موسى صلى الله عليه وسلم: "كلا إن معي ربي سيهدين" [الشعراء: 62] وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل. ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم "لا تحزن إن الله معنا" بقي أبو بكر مهتدياً موحداً عالماً جازماً قائماً بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال.
التاسعة- خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد -له صحبة- قال:
أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، الحديث. وفيه: واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر. فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث "ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" من هما؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة.
قلت: ولهذا قال بعض العلماء: في قوله تعالى: "ثاني اثنين إذ هما في الغار" ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، لأن الخليفة لا يكون أبداً إلا ثانياً. وسمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولاً. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة ومكة وجواثا، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين.
قلت- وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم خالف. والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه. وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والأظهر تكفيره. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة الفتح إن شاء الله. والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة: فضل الصديق على جميع الصحابة. ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته. ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان. روى البخاري عن ابن عمر قال:
كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان. وروي عن مالك أنه توقف في ذلك. وروي عنه أيضاً أنه رجع إلى ما عليه الجمهور. وهو الأصح إن شاء الله.
العاشرة- قوله تعالى: "فأنزل الله سكينته عليه" فيه قولان: أحدهما -على النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني -على أبي بكر. ابن العربي: قال علماؤنا وهو الأقوى، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم، فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن، وأنبت الله سبحانه ثمامة، وألهم الوكر هناك حمامة، وأرسل العنكبوت فنسجت بيتاً عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى! ولها المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق:
"هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت، وقال أبو بكر: صدقت" رواه أبو الدرداء.
الحادية عشر- قوله تعالى: "وأيده بجنود لم تروها" أي من الملائكة. والكناية في قوله وأيده ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى" أي كلمة الشرك. "وكلمة الله هي العليا" قيل: لا إله إلا الله. وقيل: وعد النصر. وقرأ الأعمش ويعقوب وكلمة الله بالنصب حملاً على جعل. والباقون بالرفع على الاستئناف. وزعم الفراء: أن قراءة النصب بعيدة، قال: لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول غلام أبي فلان. وقال أبو حاتم: نحواً من هذا. قال: كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا. قال النحاس: الذي ذكره الفراءلا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشده سيبويه:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فهذا حسن جيد لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق: في إعادة الذكر في مثل هذه فائدة، وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله تعالى: "إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها" [الزلزلة: 1-2] فهذا لا إشكال فيه. وجمع الكلمة كلم. وتميم تقول: هي كلمة بكسر الكاف. وحكى الفراء فيها ثلاث لغات: كلمة وكلمة وكلمة مثل كبد وكبد وكبد، وورق وورق وورق. والكلمة أيضاً القصيدة بطولها، قاله الجوهري.
يقول تعالى: "إلا تنصروه" أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره "إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين" أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال: فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" أخرجاه في الصحيحين, ولهذا قال تعالى: "فأنزل الله سكينته عليه" أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر, وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال: "وأيده بجنود لم تروها" أي الملائكة " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا " قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقوله: "والله عزيز" أي في انتقامه وانتصاره, منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه, واحتمى بالتمسك بخطابه "حكيم" في أقواله وأفعاله.
قوله: 40- "إلا تنصروه فقد نصره الله" أي إن تركتم نصره فالله متكفل به، فقد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر، أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه "ثاني اثنين" أي أحد اثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقرئ بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهها أن تسكن الياء تشبيهاً بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن "ما بقي من الربا"، وكقول جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
قوله: "إذ هما في الغار" بدل من "إذ أخرجه" بدل بعض، والغار: ثقب في الجبل المسمى ثوراً، وهو المشهور بغار ثور، وهو جبل قريب من مكة، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث. قوله: "إذ يقول لصاحبه" بدل ثان: أي وقت قوله لأبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا" أي دع الحزن فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا، ومن كان الله معه فلن يغلب، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن. قوله: "فأنزل الله سكينته عليه" السكينة: تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن، على أن الضمير في "عليه" لأبي بكر، وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له، ويؤيد كون الضمير في "عليه" للنبي صلى الله عليه وسلم الضمير في "أيده بجنود لم تروها" فإنه للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة كما كان في يوم بدر، وقيل: إنه لا محذور في رجوع الضمير من "عليه" إلى أبي بكر ومن "وأيده" إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى" أي كلمة الشرك، وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام " وكلمة الله هي العليا ". قرأ الأعمش ويعقوب بنصب "كلمة" حملاً على "جعل"، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف. وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم، وفي ضمير الفصل، أعني "هي" تأكيد لفضل كلمته في العلو وأنها المختصة به دون غيرها، وكلمة الله هي كلمة التوحيد، والدعوة إلى الإسلام "والله عزيز حكيم" أي غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.
40-قوله تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله"، هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد، "إذ أخرجه الذين كفروا"، من مكة حين مكروا به وأرادوا تبييته وهموا بقتله، "ثاني اثنين" أي هو أحد الاثنين، والاثنان: أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، "إذ هما في الغار"، وهو نقب في جبل ثور بمكة، "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" قال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان، أنبأنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن عبد الله الدورقي، حدثنا سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم عن كثير النواء عن جميع بن عمير قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض".
قال الحسين بن الفضل: من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن. وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا، لا يكون كافرا.
وقوله عز وجل: "لا تحزن إن الله معنا" لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه، وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة/.
وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ قال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلام انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
أخبرنا أبو المظفر التميمي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا حيان بن هلال، حدثنا همام بن يحي، حدثنا ثابت البناني، حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثهم، قال: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:" لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا، فلما ابتلي المسلمون. قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين:إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل، بين لابتين وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين -كانتا عنده- ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر".
قال ابن شهاب. قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: "فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله: بالثمن قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين،قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهماعبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة، كبائت فيها، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام،ويرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهماعامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا، والخريت: الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل".
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم: أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذى أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت
من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلام، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته: هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
فتمثل ببيت رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسجت بيتا، وفي القصة أنبت يمامة على فم الغار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم/ عنا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون: لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت
قوله عز وجل: "فأنزل الله سكينته عليه"، قيل: على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: على أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل، "وأيده بجنود لم تروها"، وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته. وقيل: ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا. وقال مجاهد و الكلبي: أعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر.
"وجعل كلمة الذين كفروا السفلى"، وكلمتهم الشرك، وهي السفلى إلى يوم القيامة، "وكلمة الله هي العليا"، إلى يوم القيامة. قال ابن عباس: هي قول لا إله إلا الله. وقيل كلمة الذين كفروا: ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: وعد الله أنه ناصره. وقرأ يعقوب: "وكلمة الله" بنصب التاء على العطف "والله عزيز حكيم".
40."إلا تنصروه فقد نصره الله"أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره : " إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين" ولم يكن معه إلا رجل واحد، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ،وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج.وقرئ "ثاني اثنين " بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال ." إذ هما في الغار " بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثاً . "إذ يقول " بدل ثان أو ظرف لثاني . " لصاحبه" وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه " لا تحزن إن الله معنا "بالعصمة والمعونة . "روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ." وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه. " فأنزل الله سكينته " أمنته التي تسكن عندها القلوب ."عليه" على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه وهو الأزهر لأنه كان منزعجاً . " وأيده بجنود لم تروها" يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله " نصره الله " ."وجعل كلمة الذين كفروا السفلى " يعني الشرك أو دعوة الكفر ." وكلمة الله هي العليا " يعني التوحيد أو دعوا الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ،أو بتأييده إياه بالملائكة في هذا المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر . وقرأ يعقوب "وكلمة الله " بالنصب عطفاً على كلمة " الذين " ، والرفع أبلغ لما فيه من الأشعار بأن " كلمة الله " عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل ، " والله عزيز حكيم " في أمره وتدبيره ..
40. If ye help him not, still Allah helped him when those who disbelieve drove him forth, the second of two; when they two were in the cave, when he said unto his comrade: Grieve not. Lo! Allah is with us. Then Allah caused His peace of reassurance to descend upon him and supported him with hosts ye cannot see, and made the word of those who disbelieved the nethermost, while Allah's word it was that became the uppermost. Allah is Mighty, Wise.
40 - If ye help not (your Leader), (it is no matter): for God did indeed help him, when the unbelievers drove him out: he had no more than one companion: they tow were in the Cave, and he said to his companion, have no fear, for God is with us: then God sent down his peace upon him, and strengthened him with forces which ye saw not, and humbled to the depths the word of the unbelievers. but the word of God is exalted to the heights: for God is exalted in might, wise