[التوبة : 28] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
28 - (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) قذر لخبث باطنهم (فلا يقربوا المسجد الحرام) أي لا يدخلوا الحرم (بعد عامهم هذا) عام تسع من الهجرة (وإن خفتم عَيْلة) فقراً بانقطاع تجارتهم عنكم (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) وقد أغناهم بالفتوح والجزية (إن الله عليم حكيم)
ك قوله تعالى وإن خفتم عيلة الآية أخرج ابن أبي حاتم عن أبن عباس قال كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه فلما نهوا عن أن يأتوا البيت قال المسلمون من أين لنا الطعام فأنزل الله وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال لما نزلت إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا شق ذلك على المسلمين وقالوا من يأتينا بالطعام وبالمتاع فأنزل الله وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله
وأخرج مثله عن عكرمة وعطيه العوفي والضحاك وقتادة وغيرهم
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به ورسوله، وأرقروا بوحدانيته، مال المشركون إلا نجس.
واختلف أهل التأويل في معنى ((النجس))، وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك.
فقال بعضهم: سماهم بذلك، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون، فقال: هم نجس، ولا يقربوا المسجد الحرام، لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، في قوله: " إنما المشركون نجس "، لا أعلم قتادة إلا قال: ((نجس))، الجنابة.
وبه، " عن معمر قال، وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فقال حذيفة يا رسول الله، إني جنب، فقال: إن المؤمن لا ينجس ".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس "، أي: أجناب.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب. وهذا قول روي عن ابن عباس من وجه غير حميد، فكرهنا ذكره.
وقوله: " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرم. وإنما عنى بذلك منعهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، وابن المثنى قالا، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء : الحرم كله قبلة ومسجد. قال: " فلا يقربوا المسجد الحرام "، لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرة.
وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: ((أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين))، وأتبع في نهيه قول الله: " إنما المشركون نجس ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن : " إنما المشركون نجس "، قال: لا تصافحوهم، فمن صافحهم فليتوضأ.
وأما قوله " بعد عامهم هذا "، فإنه بعد العام الذي نادى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة، وذلك عام حج بالناس أبو بكر، وهي سنة تسع من الهجرة، كما:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سيعد، عن قتادة قوله: " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، ونادى علي رحمه الله بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحج نبي الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجة الوجاع، ولم يحج قبلها ولا بعدها.
وقوله: " وإن خفتم عيلة "، يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقةً وفقراً، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام، " فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ".
يقال منه: ((عال يعيل عيلةً وعيولاً))، ومنه قول الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقد حكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة: ((عال يعول)) بالواو.
وذكر عن عمر بن فائد أنه كان يتأول قوله: " وإن خفتم عيلة "، بمعنى وإذ خفتم. ويقول: كان القوم قد خافوا، وذلك نحو قول القائل لأبيه: ((إن كنت أبي فأكرمني))، بمعنى: إذ كنت أبي.
وإنما قيل ذلك لهم، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم، انقطاع تجاراتهم، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك. وأمنهم الله من العيلة، وعوضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم، ما هو خير لهم منه، وهو الجزية، فقال لهم: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " إلى " صاغرون ".
وقال قوم: بإدرار المطر عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنات عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، قال: من أين تأكلون، وقد نفي المشركون وانقطعت عنهم العير! فقال الله: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء "، فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله.
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام، ويتجرون فيه. فلما نهوا أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين الطعام؟ فأنزل الله: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء "، فأنزل عليهم المطر، وكثر خيرهم، حتى ذهب عنهم المشركون.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة: " إنما المشركون نجس "، الآية، ثم ذكر نحو حديث هناد، عن أبي الأحوص.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن واقد، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من يأتينا بطعامنا، ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، عن سعيد بن جبير قال: كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة، فنزلت هذه الآية: " إنما المشركون نجس " إلى قوله: " عيلة "، قال: الفقر، " فسوف يغنيكم الله من فضله ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية العوفي قال: قال المسلمون: قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم، فنزلت: " إنما المشركون نجس " إلى قوله: " من فضله ".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي - أحسبه قال: أنبأنا أبو جعفر - عن عطية قال: لما قيل: ((ولا يحج بعد العام مشرك))، قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم! قال: فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله "، يعني: بما فاتهم من بياعاتهم.
حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا، حدثنا ابن يمان، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك : " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله "، قال: الجزية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان وأبو معاوية، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك ، قال: أخرج المشركون من مكة، فشق ذلك على المسلمين وقالوا: كنا نصيب منهم التجارة والميرة! فأنزل الله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله "، كان ناس من المسلمين يتألفون العير، فلما نزلت ((براءة)) بقتال المشركين حيثما ثقفوا، وأن يقعدوا لهم كل مرصد، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين: فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير؟ فعلم الله من ذلك ما علم، فقال: أطيعوني، وامضوا لأمري، وأطيعوا رسولي، فإني سوف أغنيكم من فضلي. فتوكل لهم الله بذلك.
حدثني محمد بن عمر قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " إنما المشركون نجس " إلى قوله: " فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء "، قال: قال المؤمنون: كنا نصيب من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله، عوضاً لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية مع أول ((براءة))، في القراءة، ومع آخرها في التأويل: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "، إلى قوله: " عن يد وهم صاغرون "، حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، شق ذلك على المسلمين، وكانوا يأتون ببيعات ينتفع بذلك المسلمون. فأنزل الله تعالى ذكره: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله "، فأغناهم بهذا الخراج، الجزية الجارية عليهم، يأخذونها شهراً شهراً، عاماً عاماً، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحال، إلا صاحب الجزية، أو عبد رجل من المسلمين.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، إلا أن يكون عبداً، أو أحداً من أهل الذمة.
... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، قال: إلا صاحب جزية، أو بعد لرجل من المسلمين.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج. قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام "، إلا أن يكون عبداً، أو أحداً من أهل الجزية.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله "، قال: أغناهم الله بالجزية الجارية، شهراً فشهراً، وعاماً فعاماً.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن جابر: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "، قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذمي.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة "، وذلك أن الناس قالوا: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق! فقال الله عز وجل: " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله "، من وجه غير ذلك، " إن شاء " إلى قوله: " وهم صاغرون "، ففي هذا عوض مما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية.
وأما قوله: " إن الله عليم حكيم "، فإم معناه: " إن الله عليم "، بما حدثتكم به أنفسكم، أيها المؤمنون من خوف العيلة عليها، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام، وغير ذلك من مصالح عباده، " حكيم "، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه.
فيه سبع مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس" ابتداء وخبر. واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري: من صافح مشركاً فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم، إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله. وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد. وأسقطه الشافعي وقال: أحب إلي أن يغتسل. ونحوه لابن القاسم. ول مالك قول: أنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس. وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال. رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده:
"وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوماً فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حسن إسلام صاحبكم" وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه: أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل.
وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب. ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة. هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب. وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه، إذا اعتقد الإسلام بقلبه، وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر. وذلك أن أحداً لا يكون بالنية مسلماً دون القول. هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان: إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل. قال الله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" [فاطر: 10].
الثانية- قوله تعالى: "فلا يقربوا المسجد الحرام" فلا يقربوا نهي، ولذلك حدفت منه النون. "المسجد الحرام" هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء، فإذاً يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع. فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول. ولو دخل مشرك الحرم مستوراً ومات نبش قبره وأخرجت عظامه. فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز. وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين. وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن. ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم. ولا يدفنون فيها ويلجئون إلى الحل.
الثالثة- واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال، فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد. وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية. ويؤيد ذلك قوله تعالى: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه" [النور: 36]. ودخول الكفار فيها مناقض لترفيها. وفي صحيح مسلم وغيره:
"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر". الحديث. والكافر لا يخلو عن ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب" والكافر جنب. وقوله تعالى: "إنما المشركون نجس" فسماه الله تعالى نجساً. فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعداً من طريق الحكم. وأي ذلك كان من المسجد واجب، لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجود في المسجد. يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر. فأما النجس (بكسر النون وجزم الجيم) فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس. فإذا أفرد قيل نجس (بفتح النون وكسر الجيم) ونجس (بضم الجيم). وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله عز وجل: "إنما المشركون نجس" تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة. فإن قيل: فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك. قيل له: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث -وإن كان صحيحاً- بأجوبة: أحدها- أنه كان متقدماً على نزول الآية.
الثاني- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه.
الثالث- أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية. وقد يمكن أن يقال: إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان. ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان. وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها. قال الكيا الطبري: ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة. وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم، لقول تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام" [الإسراء: 1]. وإنما رفع من بيت أم هانئ. وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك، إلا أن يكون صاحب جزية، أو عبداً كافراً لمسلم. وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبداً أو أمةً فيدخله لحاجة". وبهذا قال جابر بن عبد الله، فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والأمة.
الرابعة- قوله تعالى: "بعد عامهم هذا" فيه قولان: أحدهما- أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر. الثاني- سنة عشر، قاله قتادة. ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، وإن من العجب أن يقال: إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان. ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه.
الخامسة- قوله تعالى: "وإن خفتم عيلة" قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم. وهذه عجمة، والمعنى بارع بـ إن. وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم، وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا: من أي نعيش. فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. وقال عكرمة: أغناهم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض. فأخصبت تبالة وجرش، وحملوا إلى مكة الطعام والودك وكثر الخير. وأسلمت العرب. أهل نجد وصنعاء وغيرهم، فتمادى حجهم وتجرهم. وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم. والعيلة: الفقر. يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر. قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود عائلة وهو مصدر، كالقائلة من قال يقيل. وكالعافية. ويحتمل أن يكون نعتاً لمحذوف تقديره: حالاً عائلة، ومعناه خصلة شاقة. يقال منه: عالني الأمر يعولني: أي شق علي واشتد. وحكى الطبري أنه يقال: عال يعول إذا افتقر.
السادسة- في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل، وإن كان الرزق مقدراً، وأمر الله وقسمه مفعولاً، ولكنه علقه بالأسباب حكمةً، ليعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب. وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل. قال صلى الله عليه وسلم:
"لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا". أخرجه البخاري. فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق. ابن العربي: ولكن شيوخ الصوفية قالوا: إنما يغدو ويروح في الطاعات، فهو السبب الذي يجلب الرزق. قالوا: والدليل عليه أمران: أحدهما- قوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك" [طه: 132]. الثاني- قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" [فاطر: 10]. فليس ينزل الرزق من محله وهو السماء، إلا ما يصعد وهو الذكر الطيب والعمل الصالح، وليس بالسعي في الأرض، فإنه ليس فيها رزق. والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر، وهو العمل بالأسباب الدنيوية، من الحرث والتجارة في الأسواق، والعمارة للأموال وغرس الثمار. وقد كانت الصحابة تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. قال أبو الحسن بن بطال: أمر الله سبحانه عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا، إلى غير ذلك من الآي. وقال: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" [البقرة: 173]. فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في ترك ما يتغذى به لكان لنفسه قاتلاً. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وكان يدخر لأهله قوت سنته حتى فتح الله عليه الفتوح. وقد روى أنس بن مالك.
"أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببعير فقال: يا رسول الله، أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل؟ قال: أعقله وتوكل".
قلت: ولا حجة لهم في أهل الصفة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسوقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقرؤون القرآن بالليل ويصلون. هكذا وصفهم البخاري وغيره. فكانوا يتسببون. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمروا -كأبي هريرة وغيره- وما قعدوا. ثم قيل: الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع:
أعلاها كسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال:
"جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري". خرجه الترمذي وصححه. فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله، وخصه بأفضل أنواع الكسب، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه.
الثاني- أكل الرجل من عمل يده، قال صلى الله عليه وسلم:
"إن أطيب ما أكر الرجل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" خرجه البخاري. وفي التنزيل "وعلمناه صنعة لبوس لكم" [الأنبياء: 80]، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه.
الثالث- التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة المهاجرين، وقد دل عليها التنزيل في غير موضع.
الرابع- الحرث والغرس. وقد بيناه في سورة البقرة.
الخامس- إقراء القرآن وتعليمه والرقية، وقد مضى في الفاتحة.
السادس- يأخذ بنية الأداء إذا احتاج، قال صلى الله عليه وسلم:
"من أخذ اموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". خرجه البخاري. رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
السابعة- قوله تعالى: "إن شاء" دليل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو من فضل الله تولى قسمته بين عباده، وذلك بين في قوله تعالى: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" [الزخرف: 32] الآية.
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الاية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر فقال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن سوار عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم" تفرد به الإمام أحمد مرفوعاً والموقوف أصح إسناداً. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي, كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى: "إنما المشركون نجس" وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" ودلت هذه الاية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح "المؤمن لا ينجس" وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب, وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم, وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.
وقوله "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" قال محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" من وجه غير ذلك "إن شاء" إلى قوله "وهم صاغرون" أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق فعوضهم الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية, وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم "إن الله عليم" أي بما يصلحكم "حكيم" أي فيما يأمر به وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة.
وقوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه لا لأنه شرع الله ودينه, لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيماناً صحيحاً لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه فلما جاء وكفروا به وهو أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم, ولهذا قال: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب " وهذه الاية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الاية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال أبو حنيفة رحمه الله. بل تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.
وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا والله أعلم. وقوله: "حتى يعطوا الجزية" أي إن لم يسلموا "عن يد" أي عن قهر لهم وغلبة "وهم صاغرون" أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططاً للمسلمين وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوساً ولا نكتم غشاً للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركاً ولا ندعو إليه أحداً ولا نمنع أحداً من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولانكتني بكناهم لا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا باعوثاً ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم. قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحداً من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
النجس: مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، ويقال: نجس ونجس بكسر الجيم وضمها، ويقال: نجس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك، قيل: لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس، وقيل ذلك أكثري لا كلي. والمشركون مبتدأ، وخبره المصدر مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة، أو على تقدير مضاف: أي ذوو نجس، لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس. وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات.
وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية. وروي عن الحسن البصري وهو محكي عن ابن عباس. وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات، لأن الله سبحانه أحل طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم النجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم وشرب منها وتوضأ فيها وأنزلهم في مسجده. قوله: 28- "فلا يقربوا المسجد الحرام" الفاء للتفريع، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرع على نجاستهم. والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، روي ذلك عن عطاء، فيمنعون عنده من جميع الحرم، وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم.
وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد، فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد. وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله تعالى: "إنما المشركون نجس"، تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده، وإنزال وفد ثقيف فيه. وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة. وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك. وروي عن أبي حنيفة أيضاً أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد، ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي للمسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب قولهم: لا أرينك هاهنا. قوله: "بعد عامهم هذا" فيه قولان: أحدهما: أنه سنة تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم. الثاني: أنه سنة عشر قاله قتادة، قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، ومن العجب أن يقال إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه انتهى. ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه، فإن الإشارة بقوله: "بعد عامهم هذا" إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المثال الذي ذكره المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر لا يخفى، ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر، وأما تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة. وقد استدل من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد، أعني قوله: "بعد عامهم هذا" قائلاً إن النهي مختص بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط لا عن مطلق الدخول. ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص. قوله: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله" العيلة الفقر، يقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر، قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود عايلة وهو مصدر كالقايلة والعافية والعاقبة، وقيل معناه: خصلة شاقة، يقال: عالني الأمر يعولني: أي شق علي واشتد. وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال عال يعول: إذا افتقر، وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية. وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض، وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به. وقيل أغناهم بالفيء، وفائدة التقييد بالمشيئة التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به مما له تعلق بالزمن المستقبل، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرع "إن الله عليم" بأحوالكم "حكيم" في إعطائه ومنعه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
28-قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس" الآية، قال الضحاك و أبو عبيدة: نجس: قذر. وقيل: خبيث. وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع، فأما النجس: بكسر النون وسكون الجيم، فلا يقال على الانفراد، إنما يقال: رجس نجس، فإذا أفرد قيل: نجس، بفتح النون وكسر الجيم، وأراد به: نجاسة الحكم لا نجاسة العين، سموا نجسا على الذم. وقال قتادة: سماهم نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون.
قوله تعالى: "فلا يقربوا المسجد الحرام"، أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام، وأراد به الحرم وهذا كما قال الله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام" (الإسراء-1)، وأراد به الحرم لأنه أسرى به من بيت أم هانئ.
قال الشيخ الإمام الأجل: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم. وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
والقسم الثاني من بلاد الشام: الحجاز، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكم لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه، وإجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته، وأجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا. وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.
قوله: "بعد عامهم هذا"، يعنى: العام الذى حج فيه أبو بكر رضى الله عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة.
قوله: "وإن خفتم عيلة"، وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون، فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقر، وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: "وإن خفتم عيلة" فقرأ وفاقة. يقال: عال يعيل علية، " فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم "، قال عكرمة: فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم. وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون. وقال الضحاك وقتادة: عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها.
28."يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس"لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس ،أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالباً . وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب . وقرئ (نجس)بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعاً لرجس . " فلا يقربوا المسجد الحرام " لنجاستهم ، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم . وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقاً وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع . " بعد عامهم هذا " يعني سنة (براءة ) وهي التاسعة. وقيل سنة حجة الوداع ." وإن خفتم عيلةً" فقراً بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق . " فسوف يغنيكم الله من فضله "من عطائه أو تفضله بوجه آخ وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض .وقرئ (عائلة ) على أنها مصدر كالعافية أوحال ." إن شاء " قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام . " إن الله عليم" بأحوالكم . "حكيم" فيما يعطي ويمنع .
28. O ye who believe! The idolaters only are unclean. So let them not come near the Inviolable Place of Worship after this their year. If ye fear poverty (from the loss of their merchandise) Allah shall preserve you of His bounty if He will. Lo! Allah is Knower, Wise.
28 - O ye who believe truly the Pagans are unclean; so let them not, after this year of theirs, approach the sacred mosque. and if ye fear poverty, soon will God enrich you, if he wills, out of his bounty, for God is all knowing, all wise.