[التوبة : 25] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
25 - (لقد نصركم الله في مواطن) للحرب (كثيرة) كبدر وقريظة والنضير (و) اذكر (يوم حنين) واد بين مكة والطائف ، أي يوم قتالكم فيه هوازن وذلك في شوال سنة ثمان (إذ) بدل من يوم (أعجبتكم كثرتكم) فقلتم لن نغلب اليوم من قلة وكانوا اثني عشر ألفا والكفار أربعة آلاف (فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) ما مصدرية أي مع رحبها أي سمتها فلم تجدوا مكانا تطمئنون إليه لشدة ما لحقكم من الخوف (ثم وليتم مدبرين) منهزمين ، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وليس معه غير العباس وأبو سفيان آخذ بركابه
قوله تعالى ويوم حنين الآية أخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع ابن أنس أن رجلا قال يوم حنين لن نغلب من قلة وكانوا اثنى عشر ألفا فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم الآية
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " لقد نصركم الله "، أيها المؤمنون، في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة، " ويوم حنين "، يقول: وفي يوم حنين أيضاً قد نصركم.
و((حنين)) واد، فيما ذكر، بين مكة والطائف. وأجري، لأنه مذكر اسم لمذكر. وقد يترك إجراؤه، ويراد به أن يجعل اسماً للبلدة التي هو بها، ومنه قول الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: " حنين "، واد إلى جنب ذي المجاز.
" إذ أعجبتكم كثرتكم "، وكانوا ذلك اليوم، فيما ذكر لنا، اثني عشر ألفاً.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم: " لن نغلب من قلة ".
وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو قول الله: " إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا "، يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئاً، " وضاقت عليكم الأرض بما رحبت "، يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم.
و((الباء)) ههنا في معنى ((في))، ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها، وبرحبها.
يقال منه: ((مكان رحيب))، أي واسع. وإنما سميت الرحاب ((رحاباً)) لسعتها.
" ثم وليتم مدبرين "، عن عدوكم منهزمين، " مدبرين "، يقول: وليتموهم الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد وشدة البطش، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء، ويخلي الكثير والقليل، فيهزم الكثير.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
"حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين "، حتى بلغ: " وذلك جزاء الكافرين "، قال: " حنين "، ما بين مكة والطائف، قاتل عليها نبي الله هوازن وثقيف، قال: وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء. وذكر لنا أن رجلاً قال يومئذ: لن نغلب اليوم بكثرة! قال: وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس، وجلوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذكر لنا أن نبي الله قال: أي رب، آتني ما وعدتني! قال: والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ناد: يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين!، فجعل ينادي الأنصار فخذاً فخذاً، ثم قال: ناد بأصحاب سورة البقرة. قال: فجاء الناس عنقاً واحداً. فالتفت نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عصابة من الأنصار، فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله، والله لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن لكنا معك. ثم أنزل الله نصره، وهزم عدوهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول الله كفاً من تراب - أو: قبضةً من حصباء - فرمى بها وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه!، فانهزموا. فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم وأتى الجعرانة، فقسم بها مغانم حنين، وتألف أناساً من الناس، فيهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فقالت الأنصار: أمن الرجل وآثر قومه! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له من أدم، فقال: يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله، وكنتم أذلةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم! قال: فقال سعد بن عبادة رحمه الله: أئذن لي فأتكلم! قال: تكلم. قال: أما قولك: ((كنتم ضلالاً فهداكم الله))، فكنا كذلك، ((وكنتم أذلة فأعزكم الله))، فقد علمت العرب ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا! فقال عمر: يا سعد، أتدري من تكلم؟ فقال نعم! أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو سلكت الأنصار وادياً والناس وادياً، لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار " . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الأنصار كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم؟ فقالت الأنصار: رضينا عن الله ورسوله، والله ما قلنا ذلك إلا حرصاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم ".
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: " ذكر لنا أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته، أو ظئره من بني سعد بن بكر، أتته فسألته سبايا يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أملكهم، وإنما لي منهم نصيبي، ولكن ائتيني غداً فسليني والناس عندي، فإني إذا أعطيتك نصيبي أعطاك الناس. فجاءت الغد، فبسط لها ثوباً فقعدت عليه، ثم سألته، فأعطاها نصيبه. فلما رأى ذلك الناس، أعطوها أنصباءهم ".
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة "، الآية، " أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قلة! وأعجبته كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفاً. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكلوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن ابن أم أيمن، قتل يومئذ بين يديه. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الأنصار؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله الملائكة بالنصر. فهزموا المشركين يومئذ "، وذلك قوله: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها "، الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري ، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب، عن أبيه قال: " لما كان يوم حنين، التقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون يومئذ. قال: فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه أحد إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، آخذاً بغرز النبي صلى الله عليه وسلم، لا يألو ما أسرع نحو المشركين. قال: فأتيت حتى أخذت بلجامه، وهو على بغلة له شهباء، فقال: يا عباس، ناد أصحاب السمرة! وكنت رجلاً صيتاً، فأذنت بصوتي الأعلى: أين أصحاب السمرة! فالتفتوا كأنها الإبل إذا حشرت إلى أولادها، يقولون: ((يا لبيك، يا لبيك، يا لبيك))، وأقبل المشركون. فالتقوا هم والمسلمون، وتنادت الأنصار: ((يا معشر الأنصار))، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، فتنادوا: ((يا بني الحارث بن الخزرج))، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول، إلى قتالهم فقال: هذا حين حمي الوطيس! ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، وانهزموا ورب الكعبة! قال: فوالله ما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً، حتى هزمهم الله، قال: فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته ".
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب: " أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله: أنت خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عندي من ترون، وإن خير القول أصدقه، اختاروا: إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءوني مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً، فمن كان بيده منهم شيء فطابت نفسه أن يرده فليفعل ذلك، ومن لا فليعطنا، وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً، فنعطيه مكانه. فقالوا: يا نبي الله، رضينا وسلمنا! فقال: إني لا أدري لعل منكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفع إليه العرفاء أن قد رضوا وسلموا ".
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبي همام، " عن أبي عبد الرحمن - يعني الفهري - قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فلما ركدت الشمس، لبست لأمتي، وركبت فرسي، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظل شجرة، فقلت: يا رسول الله، قد حان الرواح، فقال: أجل! فنادى: يا بلال! يا بلال! فقام بلال من تحت سمرة، فأقبل كأن ظله ظل طير. فقال: لبيك وسعديك، ونفسي فداؤك، يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسرج فرسي! فأخرج سرجاً دفتاه حشوهما ليف، ليس فيهما أشر ولا بطر. قال: فركب النبي صلى الله عليه وسلم، فصاففناهم يومنا وليلتنا، فلما التقى الخيلان، ولى المسلمون مدبرين، كما قال الله. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباد الله، يا معشر المهاجرين!. قال: ومال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه، فأخذ حفنةً من تراب فرمى بها وجوههم، فولوا مدبرين. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ".
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس: فررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، وكانت هوازن يومئذ رماةً، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء - وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها - وهو يقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحق ، عن البراء قال: سأله رجل: يا أبا عمارة، وليتم يوم حنين؟ فقال البراء وأنا أسمع: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يول يومئذ دبره، وأبو سفيان يقود بغلته. فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فما رؤي يومئذ أحد من الناس كان أشد منه.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني جعفر بن سليمان، عن عوف الأعرابي، عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال، حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب محمد عليه السلام، لم يقفوا لنا حلب شاة أن كشفناهم، فبينا نحن نسوقهم، إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، فتلقانا رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: ((شاهت الوجوه، ارجعوا))! فرجعنا، وركبنا القوم، فكانت إياها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. قال: ويومئذ سمى الله الأنصار ((مؤمنين)). قال: فأنزل الله سكينته على رسول الله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم يروها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا "، قال: كانوا اثني عشر ألفاً.
حدثنا محمد بن يزيد الأدمي قال، حدثنا معن بن عيسى، عن سعيد بن السائب الطائفي، عن أبيه، عن يزيد بن عامر، قال: لما كانت انكشافة المسلمين حين انكشفوا يوم حنين، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض فأخذ منها قبضة من تراب، فأقبل بها على المشركين وهم يتبعون المسلمين، فحثاها في وجوههم وقال: ((ارجعوا، شاهت الوجوه!)). قال: فانصرفنا، ما يلقى أحد أحداً إلا وهو يمسح القذى عن عينيه.
وبه، عن يزيد بن عامر السوائي قال: قيل له: يا أبا حاجز، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين، ماذا وجدتم؟ قال: وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن، ثم يقول: كان في أجوافنا مثل هذا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثني المعتمر بن سليمان، عن عوف قال: سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن - أم برثم - قال، حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة. قال: فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عنده رجال بيض حسان فقالوا لنا: ((شاهت الوجوه، ارجعوا!))، قال: فانهزمنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إياها.
فيه ثمان مسائل:
الأولى- قوله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة" لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بني نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم. وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد. وقيل: أربعة آلاف من هوازن وثقيف. وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي عيناً، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعاً. قيل: مائة درع. وقيل: أربعمائة درع. واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً، فلما قدم قضاه إياها. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد" خرجه ابن ماجه في السنن.
(3312) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفاً من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الأعراب، من سليم وبني كلاب وعبس وذبيان. واستعمل على مكة عتاب بن أسيد. وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط، ويخرج إليها الكفار يوماً معلوماً في السنة يعظمونها، فقالوا:
يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه السلام:
"الله أكبر قلتم- والذي نفسي بيده- كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هوزان قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد- وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين- وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قثم بن العباس. فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعةً وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع
وثبتت أم سليم في جملة من ثبت، محتزمةً ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر. ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دلدل. وفي صحيح مسلم عن أنس:
(3313). قال عباس: وأنا آخذ بلجام بلغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس ناد أصحاب السمرة". فقال عباس- وكان رجلاً صيتاً. ويروى من شدة صوته أنه غير يوماً على مكة فنادى واصباحاه! فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار... الحديث. وفيه: "قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار". ثم قال: "انهزموا ورب محمد". قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً. قال أبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنيناً أنه قال- وقد سئل عن يوم حنين-: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصى وتراباً فرمى به وقال: شاهدت الوجوه فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا. وقال سعيد بن جبير: حدثنا رجل (كان) من المشركين يوم حنين قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. يعني الملائكة.
قلت: ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معاً، ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين. فالله أعلم. وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلاً بيده. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف، واثنتي عشرة ألف ناقة سوى ما لا يعلم من الغنائم.
الثانية- قال العلماء في هذه الغزاة: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه". وقد مضى في الأنفال بيانه. قال ابن العربي: ولهذه النكتة وغيرها أدخل الأحكاميون هذه الآية في الأحكام.
قلت: وفيه أيضاً جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه. وحديث صفوان أصل في هذا الباب. وفي هذه الغزاة:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة". وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة. وقد مضى بيانه في سورة النساء مستوفى. وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنيناً والطائف وامرأته مسلمة. الحديث. قال مالك: ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أم يستعان بالمشركين إلا أن يكونوا خدماً أو نواتية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي: لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وقد مضى القول في الاسهام لهم في الأنفال.
الثالثة- قوله تعالى: "ويوم حنين" حنين واد بين مكة والطائف، وانصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن. ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسماً للبقعة. وأنشد:
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
ويوم ظرف، وانتصب هنا على معنى: ونصركم يوم حنين. وقال الفراء: لم تنصرف مواطن لأنه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كلما يجوز في الشعر. وأنشد:
فهن يعلكن حدائداتها
وقال النحاس: رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال: أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لأن الخليل يقول فيه: لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالألف والتاء لا يمتنع.
الرابعة- قوله تعالى: "إذ أعجبتكم كثرتكم" قيل: كانوا اثني عشر ألفاً. وقيل: أحد عشر ألفاً وخمسمائة. وقيل: ستة عشر ألفاً. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة. فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثر. وقد قال: "وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده" (آل عمران: 160).
الخامسة- قوله تعالى: "وضاقت عليكم الأرض بما رحبت" أي من الخوف، كما قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة 'لى الخائف المطلوب كفة حابل
والرحب (بضم الراء) السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر. والرحب (بالفتح): الواسع. تقول منه: بلد رحب، وأرض رحبة. وقد رحبت ترحب رحباً ورحابة. وقيل الباء بمعنى مع، أي مع رحبها. وقيل: بمعنى على، أي على رحبها. وقيل: المعنى برحبها، فـ ما مصدرية.
السادسة- قوله تعالى: "ثم وليتم مدبرين" روى مسلم عن أبي إسحاق قال:
(3316) جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة. فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوزان. وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك. قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جريج عن مجاهد هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله, وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلاً ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت يونس يحدث عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصحابة أربعة, وخير السرايا أربعمائة, وخير الجيوش أربعة آلاف ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة" وهكذا رواه أبو داود والترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب جداً لا يسنده أحد غير جرير بن حازم, وإنما روي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره عن أكثم الجوني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه والله أعلم. وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة .
وذلك لما فرغ صلى الله عليه وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه وأن أميرهم مالك بن عوف بن النضر, ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال وهم قليل وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم وجاءوا بقضهم وقضيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم, ورشقوا بالنبال وأصلتوا السيوف وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل, وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو, والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن, وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة والسلام ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول: "إلي عباد الله إلي أنا رسول الله" ويقول في تلك الحال: "أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب" وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفروا عنه فجعل ينادي بهم يا أصحاب السمرة, ويقول تارة يا أصحاب سورة البقرة, فجعلوا يقولون يا لبيك يا لبيك, وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة وأخذ قبضة من تراب بعد ما دعا ربه واستنصره, وقال "اللهم أنجز لي ما وعدتني" ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن يسار عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري واسمه يزيد بن أسيد ويقال يزيد بن أنيس ويقال كرز قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته حان الرواح ؟ فقال: "أجل" فقال: "يا بلال" فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال "أسرج لي فرسي" فأخرج سرجاً دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر قال فأسرج فركب وركبنا فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كمال قال الله تعالى: "ثم وليتم مدبرين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله" ثم قال: "يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله" قال ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفاً من تراب فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال: "شاهت الوجوه" فهزمهم الله تعالى. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد, وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة به, وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال: فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول: "أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله, أنا رسول الله, أنا محمد بن عبد الله" فلا شيء وركبت الإبل بعضها بعضاً فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس قال: "يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة" فأجابوه لبيك, لبيك, فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه ثم يؤم الصوت حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة فاستعرض الناس فاقتتلوا وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ثم جعلت آخراً بالخزرج وكانوا صبراء عند الحرب وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: "الان حمي الوطيس" قال: فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله ملقون فقتل الله منهم من قتل وانهزم منهم ما انهزم وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم.
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر إن هوازن كانوا قوماً رماة فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء وهو يقول: "أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب" قلت: وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة إنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه وهو مع هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا لكر ولا لهرب وهو مع هذا أيضاً يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلاً عليه وعلماً منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان, ولهذا قال تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله" أي طمأنينته وثباته على رسوله "وعلى المؤمنين" أي الذين معه "وأنزل جنوداً لم تروها" وهم الملائكة كما قال الإمام أبو جعفر ابن جرير حدثني الحسن بن عرفة قال حدثني المعتمر بن سليمان عن عوف هو ابن أبي جميلة الأعرابي قال سمعت عبد الرحمن مولى بن برثن حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة, قال: فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا قال فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحارث بن حصيرة حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت: ارتفع رفعك الله. قال: "ناولني كفاً من التراب" فناولته قال: فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم تراباً قال: "أين المهاجرون والأنصار ؟" قلت: هم هناك قال: "اهتف بهم" فهتفت بهم فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب وولى المشركون أدبارهم, ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان به نحوه, وقال الوليد بن مسلم: حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج فقلت: عمه ولن يخذله قال فجئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت: ابن عمه ولن يخذله فجئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن تمحشني فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا شيبة يا شيبة ادن مني, اللهم أذهب عنه الشيطان" قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري فقال: "يا شيبة قاتل الكفار" رواه البيهقي من حديث الوليد فذكره .
ثم روي من حديث أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكنني أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله إني أرى خيلاً بلقاً فقال: "يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر" فضرب بيده على صدري ثم قال: "اللهم اهد شيبة" ثم ضربها الثانية ثم قال: "اللهم اهد شيبة" ثم ضربها الثالثة ثم قال: "اللهم اهد شيبة" قال: فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه وذكر تمام الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله تعالى المشركين, قال محمد بن إسحاق: حدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فما كنا نشك أنها الملائكة, وقال سعيد بن السائب بن يسار عن أبيه قال: سمعت يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حنيناً مع المشركين ثم أسلم بعد فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا, وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم, وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم" ولهذا قال تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين" وقوله: "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم" قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة, فرده عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ونفل أناساً من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام فأعطاهم مائة من الإبل وكان من جملة من أعطى مائة مالك بن عوف النصري واستعمله على قومه كما كان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثلــــه في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابهــــــــا بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشبالـــــــــــــه وسط المباءة خادر في مرصد
المواطن جمع موطن، ومواطن الحرب: مقاماتها، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي يوم بدر وما بعد من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين، 25- "ويوم حنين" معطوف على مواطن بتقدير مضاف: إما في الأول وتقديره في أيام مواطن، أو في الثاني وتقديره وموطن يوم حنين، لئلا يعطف الزمان على المكان. ورد بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان فلا يحتاج إلى تقدير، وقيل: إن يوم حنين منصور بفعل مقدر معطوف على "نصركم" أي ونصركم يوم حنين، ورجح هذا صاحب الكشاف، قال: وموجب ذلك أن قوله: "إذ أعجبتكم" بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح، لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها. ورد بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف، كما تقول: جاءني زيد وعمرو مع قومه، أو في ثيابه أو على فرسه، وقيل إن "إذ أعجبتكم كثرتكم" ليس ببدل من يوم حنين، بل منصوب بفعل مقدر: أي اذكروا إذ أعجبتكم كثرتكم، وحنين: واد بين مكة والطائف، وانصرف على أنه اسم للمكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة، ومنه قول الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا إثني عشر ألفاً، وقيل: أحد عشر ألفاً، وقيل: ستة عشر ألفاً، فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فوكلوا إلى هذه الكلمة فلم تغن الكثرة شيئاً عنهم، بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه طائفة يسيرة منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث، ثم تراجع المسلمون فكان النصر والظفر. والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة: أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم. قوله: "بما رحبت" الرحب بضم الراء: السعة، والرحب بفتح الراء: المكان الواسع، والباء بمعنى مع، وما مصدرية، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال. والمعنى: أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حل بهم من الخوف والوجل، وقيل إن الباء بمعنى على: أي على رحبها "ثم وليتم مدبرين" أي انهزمتم حال كونكم مدبرين: أي مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم.
25-قوله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن"، أي مشاهد، "كثيرة ويوم حنين"، وحنين واد بين مكة والطائف. وقال عروة: إلى جنب ذي المجاز.
وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، ثم خرج إلى حنين لقتال هوزان وثقيف في اثنى عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا.
وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط، والمشركون أربعة آلاف من هوزان وثقيف، وعلى هوزان مالك بن عوف النصري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم على قلة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وفى رواية: فلم يرض الله قوله، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري، ثم نادوا: يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
قال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خثيمة عن أبي إسحاق قال: قال رجل للبراء بن عازب: يا أبا عمارة فررتم يوم حنين؟ قال: ولا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوزان وبني نصر، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطؤون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، ثم صفهم.
ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق. وزاد قال: فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه.
ورواه زكريا عن أبي إسحاق. وزاد قاله البراء: كنا إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: قال البراء: إن هوزان كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم، فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر.
قال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس.
وقال آخرون: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير: العباس بن المطلب، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان/ حدثنا مسلم بن الحجاج، قال: حدثنا أبو طاهر، أحمد بن عمرو بن سرح، حدثنا ابن وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عباس: " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس: ناد أصحاب السمرة، فقال عباس - وكان رجلا صيتا - فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد ، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فمازلت أري حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا".
وقال سلمة بن الأكوع: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين".
قال سعيد بن جبير: أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
وفى الخبر: أن رجلا من نبي نضر يقال له شجرة، قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال الذين عليهم ثياب بيض، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الملائكة.
قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسو الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة، فأرعدت فرائضي، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي.
فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على جيش المسلمين إلى أوطاس، فسار إليهم فاقتتلوا، وقتل: دريد بن الصمة، وهزم المشركين وسبى المسلمون عيالهم، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري، فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله، وأهله فيمن أخذ، وقتل أمير المسلمين أبو عامر.
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم، فأتى الجعرانه فأحرم منها بعمرة وقسم فيها غنائم حنين وأوطاس، وتألف أناسا، منهم: أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا الزهري، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه "أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله - حين أفاء على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطى رجالا من قريش المائة من الإبل - فقالوا: يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم أما ذووا رأينا يا رسول ، فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهمإنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض".
وقال يونس عن ابن شهاب: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم"، وقال: "فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض"، قالوا: سنصبر.
اخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد عن عاصم قال:" لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس، فخطبهم فقال:يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن؟ قال: لو شئتم قلتم كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار، شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن / أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
أتجعل نهبي ونهب العب يــدبين عيينة والأقـــرع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع
قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.
وفى الحديث أن ناسا من هوزان أقلبوا مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا.
أخبرنا عبد الواحد بن المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير: أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال. قالوا : فإنا نختار سبينا.فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.فأنزل الله تعالى في قصة حنين:
" لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ""، حتى قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، "فلم تغن عنكم"، كثرتكم، "شيئا"، يعنى إن الظفر لا يكون بالكثرة، "وضاقت عليكم الأرض بما رحبت"، أي برحبها وسعتها، "ثم وليتم مدبرين"، منهزمين.
25. " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة " يعني مواطن الحرب وهي مواقفها. " ويوم حنين " وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : " إذ أعجبتكم كثرتكم " منه أن يعطف على موضع في " مواطن " فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن .و" حنين " واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفاً ، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفاً وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن تغلب اليوم من قلة ، إعجاباً بكثرتهم واقتتلوا قتالاً شديداً فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس -وكان صيتاً صح بالناس فنادى :يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ،فكروا عنقاً واحداً يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فاتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم ثم قال: انهزموا ورب الكعبة فانهزموا . " فلم تغن عنكم " أي الكثرة . "شيئاً" من الإغناء أومن أمر العدو ." وضاقت عليكم الأرض بما رحبت " برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفراً تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. " ثم وليتم " الكفار ظهوركم . " مدبرين " منهزمين و الإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال .
25. Allah hath given you victory on many fields and on the day of Huneyn, when ye exulted in your multitude but it availed you naught, and the earth, vast as it is, was straitened for you; then ye turned back in flight;
25 - Assuredly God did help you in many battle fields and on the day of Hunain: behold your great numbers elated you, but they availed you naught: the land, for all that it is wide, did constrain you, and ye turned back in retreat.