[البروج : 4] قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ
4 - (قتل) لعن (أصحاب الأخدود) الشق في الأرض
وقوله : " قتل أصحاب الأخدود " يقول : لعن أصحاب الأخدود ، وكان بعضهم يقول : معنى قوله " قتل أصحاب الأخدود " خبر من الله عن النار أنها قتلتهم .
وقد اختلف أهل العلم في أصحاب الأخدود من هم ؟ فقال بعضهم : قوم كانوا أهل كتاب من بقايا المجوس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر عن ابن أبزى ، قال : لما رجع المهاجرون من بعض غزواتهم ، بلغهم نعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال بعضهم لبعض : أي الأحكام تجري في المجوس ، وإنهم ليسوا بأهل كتاب ، وليسوا من مشركي العرب ؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قد كانوا أهل كتاب ، وقد كانت الخمر أحلت لهم ، فشربها ملك من ملوكهم ، حتى ثمل منها ، فتناول أخته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر قال لها : ويحك ! فما المخرج مما ابتليت به ؟ فقالت : اخطب الناس ، فقل : يا أيها الناس إن الله قد أحل نكاح الأخوات ، فقام خطيباً ، فقال : يا أيها الناس إن الله قد أحل نكاح الأخوات ، فقال الناس : إنا نبرأ إلى الله من هذا القول ، ما أتانا به نبي ، ولا وجدناه في كتاب الله ، فرجع إليها نادماً ، فقال لها : ويحك ! إن الناس قد أبوا علي أن يقروا بذلك ، فقالت : ابسط عليهم السياط ، ففعل ، وبسط عليهم السياط ، فأبوا أن يقروا ، فرجع إليها نادماً ، فقال : إنهم أبوا أن يقروا ، فقالت : اخطبهم فإن أبوا فجرد فيهم السيف ، ففعل ، فأبى عليه الناس ، فقال لها : قد أبي علي الناس ، فقال : خذ لهم الأخدود ، ثم اعرض عليها أهل مملكتك ، فمن أقر ، وإلا فاقذفه في النار ، ففعل ، ثم عرض عليها أهل مملكته ، فمن لم يقر منهم قذفه في النار ، فأنزل الله فيهم " قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود " إلى " أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " حرقوهم " ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " فلم يزالوا منذ ذلك يستحلون نكاح الأخوات والبنات والأمهات .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " قتل أصحاب الأخدود " قال : حدثنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول : هم ناس بمذارع اليمن ، اقتتل مؤمنوها وكفارها ، فظهر مؤمنوها على كفارها ، ثم اقتتلوا الثانية ، فظهر مؤمنوها على كفارها ، ثم أخذ بعضهم على بعض عهداً ومواثيق أن لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذاً ، ثم إن رجلاً من المؤمنين قال لهم : هل لكم إلى خير ، توقدون ناراً ثم تعرضوننا عليها ، من تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ، ومن لا ، اقتحم النار فاسترحتم منه ، قال : فأججوا ناراً وعرضوا عليها ، فجعلوا يقتحمونها صناديدهم ، ثم بقيت منهم عجوز كأنها نكصت ، فقال لها طفل في حجرها : يا أماه أمضي ولا تنافقي ، قص الله عليكم نبأهم وحديثهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله " قتل أصحاب الأخدود " قال : يعني القاتلين الذين قتلوهم يوم قتلوا .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود " قال : هم ناس من بني إسرائيل ، خدوا أخدوداً في الأرض ، ثم أوقدوا فيه ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء ، فعرضوا عليها ، وزعموا أنه دانيال وأصحابه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " قتل أصحاب الأخدود " قال : كان شقوق في الأرض بنجران ، كانوا يعذبون فيها الناس .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " قتل أصحاب الأخدود " يزعمون أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالاً ونساء ، فخدوا لهم أخدوداً ، ثم أوقدوا فيها النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها ، فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار .
" حدثني محمد بن معمر ، قال : ثني حرمي بن عمارة ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، قال : ثنا ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فأتى الساحر الملك ، فقال : قد كبرت سني ، ودنا أجلي ، فادفع لي غلاماً أعلمه السحر ، قال : فدفع إليه غلاماً يعلمه السحر ، قال : فكان الغلام يختلف إلى الساحر ، وكان بين الساحر وبين المك راهب ، قال : فكان الغلام إذا مر بالراهب قعد إليه ، فسمع من كلامه ، فأعجب بكلامه ، فكان الغلام إذا أتى الساحر ضربه وقال : ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله قعد عند الراهب يسمع كلامه ، فإذا رجع إلى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال له الراهب : إذا قال لك الساحر : ما حبسك ؟ قل حبسني أهلي ، وإذا قال أهلك : ما حبسك ؟ فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ مر في طريق وإذا دابة عظيمة في الطريق قد حبست الناس لا تدعهم يجوزون ، فقال الغلام : الآن أعلم أمر الساحر أرضى عند الله أم أمر الراهب ؟ قال : فأخذ حجراً ، قال : فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فإني أرمي بحجري هذا فيقتله ويمر الناس ، قال : فرماها فقتلها ، وجاز الناس ، فبلغ ذلك الراهب ، قال : وأتاه الغلام فقال الراهب للغلام : إنك خير مني ، وإن ابتليت فلا تدلن علي ، قال : وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، وسائر الأدواء ، وكان للملك جليس ، قال : فعمي ، قال : فقيل له : إن هاهنا غلاماً يبرئ الأكمه والأبرص ، وسائر الأدواء ، لو أتيته ! قال : فاتخذ له هدايا ، قال : ثم أتاه فقال : يا غلام إن أبرأتني فهذه الهدايا كلها لك ، فقال : ما أنا بطبيب يشفيك ، ولكن الله يشفي ، فإذا آمنت دعوت الله أن يشفيك ، قال : فآمن الأعمى ، فدعا الله فشفاه ، فقعد الأعمى إلى الملك كما كان يقعد ، فقال له الملك : أليس كنت أعمى ؟ قال : نعم قال : فمن شفاك ؟ قال : ربي ، قال : ولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، قال : فأخذه بالعذاب فقال : لتدلنني على من علمك هذا ، قال : فدل على الغلام ، فدعا الغلام فقال : ارجع عن دينك ، قال : فأبى الغلام ، قال : فأخذه بالعذاب ، قال : فدل على الراهب ، فأخذ الراهب ففال : ارجع عن دينك ، فأبى ، قال : فوضع المنشار عن هامته فشقه حتى بلغ الأرض ، قال : وأخذ الأعمى فقال : لترجعن أو لأقتلنك ، قال : فأبى الأعمى ، فوضع المنشار على هامته ، فشقه حتى بلغ الأرض ، ثم قال للغلام لترجعن أو لأقتلنك ، قال : فأبى قال : فقال : اذهبوا به حتى تبلغوا به ذروة الجبل ، فإن رجع عن دينه ، وإلا فدهدهوه ، فلما بلغوا به ذروة الجبل فوقعوا فماتوا كلهم ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال : أين أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، قال : فاذهبوا به فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه قال : فذهبوا به ، فلما توسطوا به الحبر قال الغلام : اللهم أكفينهم ، فانكفأت بهم السفينة ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال الملك : أين أصحابك ؟ فقال دعون الله فكفانيهم ، قال : لأقتلنك ، قال : ما أنت بقاتلي حتى تصنع ما آمرك ، قال : فقال الغلام للملك : اجمع الناس في صعيد واحد ، ثم اصلبني ، ثم خذ سهماً من كنانتي فارمني وقل : باسم رب الغلام ، فإنك ستقتلني ، قال : فجمع الناس في صعيد واحد ، قال : وصلبه وأخذ سهماً من كنانته ، فوضعه في كبد القوس ، ثم رمى ، فقال : باسم رب الغلام ، فوقع السهم في صدغ الغلام ، فوضع يده هكذا على صدغه ، ومات الغلام ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقالوا للملك : ما صنعت ، الذي كنت تحذر قد وقع ، قد آمن الناس ، فأمر بأفواه السكك فأخذت ، وخد الأخدود وضرم فيه النيران ، وأخذهم ، وقال : إن رجعوا وإلا فألقوهم في النار ، قال : فكانوا يلقونهم في النار ، قال : فجاءت امرأة معها صبي لها ، قال : فلما ذهبت تقتحم وجدت حر النار ، فنكصت ، قال : فقال لها صبيها : يا أماه ، امضي فإنك على حق ، فاقتحمت في النار" .
وقال آخرون : بل الذين أحرقتهم النار هم الكفار الذين فتنوا المؤمنين .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : كان أصحاب الأخدود قوماً مؤمنين ، اعتزلوا الناس في الفتر ، وإن جباراً من عبدة الأوثان أرسل إليهم ، فعرض عليهم الدخول في دينه ، فأبوا ، فخد أخدوداً ، وأوقد فيه ناراً ، ثم خيرهم بين الدخول في دينه ، وبين إلقائهم في النار ، فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم ، فألقوا في النار ، فنجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار ، من الحريق ، بأن قبض أرواحهم ، قبل أن تمسهم النار ، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم، فذلك قول الله " فلهم عذاب جهنم " في الآخرة " ولهم عذاب الحريق " في الدنيا .
واختلف في موضع جواب القسم بقوله " والسماء ذات البروج " فقال بعضهم : جوابه " إن بطش ربك لشديد " .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع القسم هاهنا " إن بطش ربك لشديد " وقال بعض نحويي البصرة : موضع قسمها والله أعلم ، على قتل أصحاب الأخدود ، أضمر اللام كما قال " والشمس وضحاها " [ الشمس : 1 ] " قد أفلح من زكاها " [ الشمس : 9 ] يريد إن شاء الله : لقد أفلح من زكاها ، فألقى اللام ، وإن شئت قلت على التقديم ، كأنه قال : قتل أصحاب الأخدود ، والسماء ذات البروج .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقال في التفسير : إن جواب القسم في قوله " قتل " كما كان قسم " والشمس وضحاها " [ الشمس : 1 ] في قوله " قد أفلح " [ الشمس : 9 ] هذا في التفسير قالوا : ولم نجد العرب تدع القسم بغير لام يستقبل بها أو ( لا ) أو ( ما ) فإن يكن ذلك كذلك ، فكأنه مما ترك فيه الجواب ، ثم استؤنف موضع الجواب بالخبر ، كما قيل : يا أيها الإنسان ، في كثير من الكلام .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : جواب القسم في ذلك متروك والخبر مستأنف لأن علامة جواب القسم لا تحذفها العرب من الكلام إذا أجابته .
وأولى التأويلين بقوله " قتل أصحاب الأخدود " لعن أصحاب الأخدود الذين ألقوا المؤمنين والمؤمنات في الأخدود .
وإنما قلت : ذلك أولى التأويلين بالصواب للذي ذكرنا عن الربيع من العلة ، وهو أن الله أخبر أن لهم عذاب الحريق مع عذاب جهنم ، ولو لم يكونوا أحرقوا في الدنيا لم يكن لقوله " ولهم عذاب الحريق " معنى مفهوم ، مع إخباره أن لهم عذاب جهنم ، لأن عذاب جهنم هو عذاب الحريق مع سائر أنواع عذابها في الآخرة ، والأخدود : الحفرة تحفر في الأرض .
قوله تعالى:" قتل أصحاب الأخدود" أي لعن. قال ابن عباس: كل شيء في القرآن ((قتل)) فهو لعن. وهذا جواب القسم - في قول الفراء- واللام فيه مضمرة، كقوله: ((والشمس وضحاها ثم قال قد أفلح من زكاها)): أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج، قاله أبو حاتم السجستاني. ابن الأنباري: وهذا غلط، لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد، على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم " إن بطش ربك لشديد" [ البروج:12] وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل: " إن الذين فتنوا" [ البروج:10] وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لتبعثن. وهذا اختيار ابن الأنباري. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخد لمجاري الدموع، والمخدة، لأن الخد يوضع عليها. ويقال: تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح، قال طرفة:
ووجه كأن الشمس حلت رداءها عليه نقي اللون لم يتخدد
يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام كما تقدم بيان ذلك في قوله تعالى: "تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً" قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة والسدي : البروج النجوم وعن مجاهد أيضاً: البروج التي فيها الحرس. وقال يحيى بن رافع :البروج قصور في السماء, وقال المنهال بن عمرو "والسماء ذات البروج" الخلق الحسن, واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر وهي اثنا عشر برجاً, تسير الشمس في كل واحد منها شهراً ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثاً, فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستمر ليلتين.
وقوله تعالى: " واليوم الموعود * وشاهد ومشهود " اختلف المفسرون في ذلك وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي , حدثنا عبيد الله يعني ابن موسى , حدثنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس الأنصاري , عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""واليوم الموعود" يوم القيامة "وشاهد" يوم الجمعة وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة, وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه, ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه "ومشهود" يوم عرفة" وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف الحديث وقد روي موقوفاً على أبي هريرة وهو أشبه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد , حدثنا شعبة , سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة , أما علي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما يونس فلم يعد أبا هريرة أنه قال في هذه الاية "وشاهد ومشهود" قال يعني الشاهد يوم الجمعة ويوم مشهود يوم القيامة, وقال أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن يونس , سمعت عماراً مولى بني هاشم يحدث عن أبي هريرة أنه قال في هذه الاية "وشاهد ومشهود" قال: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة والموعود يوم القيامة. وقد روي عن أبي هريرة أنه قال: اليوم الموعود يوم القيامة, وكذلك قال الحسن وقتادة وابن زيد ولم أرهم يختلفون في ذلك ولله الحمد, ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش , حدثني أبي , حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليوم الموعود يوم القيامة وإن الشاهد يوم الجمعة وإن المشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخره الله لنا".
ثم قال ابن جرير : حدثنا سهل بن موسى الرازي , حدثنا ابن أبي فديك عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة". وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب , ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب , حدثنا وكيع عن شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس قال: الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم القيامة, ثم قرأ "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" وحدثنا ابن حميد : حدثنا جرير عن مغيرة عن شباك قال: سأل رجل الحسن بن علي عن "وشاهد ومشهود" قال: سألت أحداً قبلي ؟ قال: نعم, سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا: يوم الذبح ويوم الجمعة, فقال: لا, ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم, ثم قرأ "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" والمشهود يوم القيامة ثم قرأ "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود".
وهكذا قال الحسن البصري وقال سفيان الثوري عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب : ومشهود يوم القيامة, وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : الشاهد ابن آدم, والمشهود يوم القيامة. وعن عكرمة أيضاً: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم الجمعة,وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الشاهد الله والمشهود يوم القيامة, وقال ابن أبي حاتم . حدثنا أبي , حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين , حدثنا سفيان عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس "وشاهد ومشهود" قال: الشاهد الإنسان والمشهود يوم الجمعة, هكذا رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا مهران عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس "وشاهد ومشهود" الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة, وبه عن سفيان الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال: يوم الذبح ويوم عرفة يعني الشاهد والمشهود, قال ابن جرير وقال آخرون: المشهود يوم الجمعة, ورووا في ذلك ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن : حدثني عمي عبد الله بن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة" وعن سعيد بن جبير الشاهد الله, وتلا "وكفى بالله شهيداً" والمشهود نحن, حكاه البغوي , وقال الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة
وقوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود" أي لعن أصحاب الأخدود وجمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض, وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل, فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم, فأبوا عليهم فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأججوا فيه ناراً وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به, ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها ولهذا قال تعالى: "قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود" أي مشاهدون لمايفعل بأولئك المؤمنين. قال الله تعالى: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" أي وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
ثم قال تعالى: "الذي له ملك السموات والأرض" من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما "والله على كل شيء شهيد" أي لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض ولا تخفى عليه خافية. وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم ؟ فعن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم, فامتنع عليهم علماؤهم فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم. وعنه أنهم كانوا قوماً باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم, فغلب مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها, وعنه أنهم كانوا من أهل الحبشة واحدهم حبشي , وقال العوفي عن ابن عباس "قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود" قال: ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها, وزعموا أنه دانيال وأصحابه وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقيل غير ذلك.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبر سني وحضر أجلي, فادفع إلي غلاماً لأعلمه الساحر فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه الساحر, وكان بين السحر وبين الملك راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه, وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك, فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي, وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر, قال فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا. فقال اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر السحر, قال فأخذ حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس, ورماها فقتلها ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك فقال أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى, فإن ابتليت فلا تدل علي, فكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم, وكان للملك جليس فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال اشفني ولك ما ههنا أجمع, فقال ما أنا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل, فإن آمنت به دعوت الله فشفاك فآمن فدعا الله فشفاه.
ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال ربي: فقال أنا قال لا, ربي وربك الله, قال ولك رب غيري ؟ قال نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام, فبعث إليه فقال أي بني بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء! قال ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل, قال أنا ؟ قال لا. قال أولك رب غيري ؟ قال ربي وربك الله, فأخذه أيضاً بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب فأتى بالراهب فقال ارجع عن دينك فأبى, فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه, وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه من فوقه, فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون, وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك ؟ فقال كفانيهم الله تعالى فبعث به مع نفر في قرقور فقال إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون.
وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك ؟ فقال كفانيهم الله تعالى ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا تستطيع قتلي, قال وما هو ؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي, ثم قل: باسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام, فوقع السهم في صدغه, فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات, فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر ؟ فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم, فأمر بأفواه السكك, فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران, وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها, قال فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه, فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق".
وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحوه, ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان عن عفان عن حماد بن سلمة ومن طريق حماد بن زيد كلاهما عن ثابت به واختصروا أوله, وقد جوده الإمام أبو عيسى الترمذي فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد ـ المعنى واحد ـ قالا: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس والهمس في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم فقيل له إنك يا رسول الله إذا صليت العصر همست, قال: "إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم, وبين أن أسلط عليهم عدوهم, فاختاروا النقمة, فسلط الله عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفاً" قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث, حدث بهذا الحديث الاخر قال: كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له, فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً أو قال: فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا, فذكر القصة بتمامها, وقال في آخره: يقول الله عز وجل: " قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ".
قال: فأما الغلام فإنه دفن, فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل, ثم قال الترمذي : حسن غريب, وهذا السياق ليس فيه صراحة, أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي , فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى والله أعلم. وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر فيها مخالفة لما تقدم فقال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي , وحدثني أيضاً بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان, وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ـ ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد ـ ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر, فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه, قالوا: نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر, وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.
فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران, فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده, وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم, وكان يعلمه فكتمه إياه وقال له: يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه, و التامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان, فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه, وتخوف ضعفه فيه عمد إلى أقداح فجمعها ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح, حتى إذا حصاها أوقد ناراً ثم جعل يقذفها فيها قدحاً, حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه, فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء, فأخذه, ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتبه, فقال: وما هو ؟ قال: هو كذا وكذا, قال: وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع فقال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك, وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني, وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول نعم, فيوحد الله ويسلم, فيدعو الله له, فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه, فاتبعه على أمره ودعا له, فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران, فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك, قال: لا تقدر على ذلك, قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس, وجعل يبعث به إلى مياه نجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك فيلقى به فيها, فيخرج ليس به بأس, فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله, فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني, قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر , ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله, وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر , وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه السلام من الإنجيل وحكمه, ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث, فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق : فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر فالله أعلم أي ذلك كان, قال فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو القتل فاختاروا القتل, فخد الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف, ومثل بهم حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً, ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: " قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد " هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس واسمه زرعة, ويسمى في زمان مملكته بيوسف, وهو ابن بيان أسعد أبي كريب وهو تبع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة واستصحب معه حبرين من يهود المدينة, فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره ابن إسحاق مبسوطاً, فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفاً ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان, ذهب فارساً وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه فذهب إلى قيصر ملك الشام فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة, فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود, وذهب ذو نواس هارباً فلجج في البحر فغرق, واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة, ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس, فأرسل معه من في السجون فكانوا قريباً من سبعمائة, ففتح بهم اليمن ورجع الملك إلى حمير, وسنذكر طرفاً من ذلك إن شاء الله في تفسير سورة "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل".
وقال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته, فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده, فإذا أخذت يده عنها تفجرت دماً, وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله, فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا.
وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا رحمه الله: حدثنا أبو بلال الأشعري , حدثنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب , حدثني بعض أهل العلم أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط, فبناه فسقط ثم بناه فسقط, فقيل له: إن تحته رجلاً صالحاً, فحفر الأساس فوجد فيه رجلاً قائماً معه سيف فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض نقمت على أصحاب الأخدود, فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت. (قلت): هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي , أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم , وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن, وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام إنه أول شعر قالته العرب:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديماً بعد زمان إسماعيل عليه السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها, وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السلام وهو أشبه, والله أعلم. وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيراً كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو اليمان , أخبرنا صفوان عن عبد الرحمن بن جبير قال: كانت الأخدود في اليمن زمان تبع وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد, فاتخذوا أتوناً وألقي فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد, وفي العراق في أرض بابل بختنصر الذي صنع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له, فامتنع دانيال وصاحباه عزريا وميشائيل فأوقد لهم أتوناً وألقى فيه الحطب والنار ثم ألقاهما فيه, فجعلها الله تعالى عليهما برداً وسلاماً وأنقذهما منها وألقى فيها الذين بغوا عليه, وهم تسعة رهط فأكلتهم النار.
وقال أسباط عن السدي في قوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود" قال: كانت الأخدود ثلاثة: خد بالعراق, وخد بالشام, وخد باليمن. رواه ابن أبي حاتم , وعن مقاتل قال: كانت الأخدود ثلاثة: واحد بنجران باليمن والأخرى بالشام والأخرى بفارس حرقوا بالنار, أما التي بالشام فهو انطنانوس الرومي, وأما التي بفارس فهو بختنصر, وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس , فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي , حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه , عن الربيع هو ابن أنس في قوله تعالى: "قتل أصحاب الأخدود" قال: سمعنا أنهم كانوا قوماً في زمان الفترة, فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون, اعتزلوا إلى قرية سكنوها وأقاموا على عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة, فكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين وحدث حديثهم فأرسل إليهم فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا, وأنهم أبوا عليه كلهم وقالوا لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له, فقال لهم: إن لم تعبدوا هذه الالهة التي عبدت فإني قاتلكم, فأبوا عليه فخد أخدوداً من نار وقال لهم الجبار ووقفهم عليها: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه, فقالوا: هذه أحب إلينا, وفيهم نساء وذرية ففزعت الذرية, فقالوا لهم أي آباؤهم لا نار من بعد اليوم فوقعوا فيها, فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها ففي ذلك أنزل الله عز وجل: " قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد " ورواه ابن جرير : حدثت عن عمار عن عبد الله بن أبي جعفر به نحوه.
وقوله تعالى: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات" أي حرقوا, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن أبزى "ثم لم يتوبوا" أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا "فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق" وذلك أن الجزاء من جنس العمل, قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
4- "قتل أصحاب الأخدود" هذا جواب القسم، واللام فيه مضمرة، وهو الظاهر، وبه قال الفراء وغيره، وقيل تقديره: لقد قتل، فحذفت اللام وقد، وعلى هذا تكون الجملة خبرية، والظاهر أنها دعائية، لأن معنى قتل لعن. قال الواحدي: في قول الجميع، والدعائية لا تكون جواباً للقسم، فقيل الجواب قوله: "إن الذين فتنوا المؤمنين" وقيل قوله: "إن بطش ربك لشديد" وبه قال المبرد: واعترض عليه بطول الفصل وقيل هو مقدر يدل عليه قوله: "قتل أصحاب الأخدود" كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل تقدير الجواب: لتبعثن، واختاره ابن الأنباري. وقال أبو حاتم السجستاني وابن الأنباري أيضاً: في الكلام تقدير وتأخير: أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج، واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال: والله قام زيد، والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد، ومنه الخد لمجاري الدموع، والمخدة لأن الخد يوضع عليها، ويقال تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من خراج، ومنه قول طرفة:
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها عليه نقي اللون لم يتخدد
وسيأتي بيان حديث أصحاب الأخدود إن شاء الله.
4- "قتل أصحاب الأخدود"، أي: لعن، و "الأخدود": الشق المستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه: أخاديد واختلفوا فيهم:
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الله بن سعدان الخطيب، أخبرني أبو أحمد محمد بن أحمد بن محمد بن قريش بن نوح بن رستم، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه، وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا جئت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا جئت أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر؟ فأخذ حجراً ثم قال اللهم: إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، فمضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فاصبر فلا تدل علي، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك وكان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هنا لك أجمع إن أنت شفيتني، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي عز وجل، قال أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ به الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، قال: إني لا أشفى أحداً إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل: ارجع عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، فجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور إلى لجة بحر كذا فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه في البحر فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا فجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم، في كبد قوسه، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوقع يده على صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام ثلاثاً فأتي الملك، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخدت وأضرم بها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم، قال: ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق".
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة.
وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: أن رجلاً كان قد بقي على دين عيسى فوقع إلى أهل نجران فدعاهم فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النار واليهودية، فأبوا عليه فخد الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً، ثم لما غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً فاقتحم البحر بفرسه فغرق، قال الكلبي: وذو نواس قتل عبد الله بن التامر.
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر: أن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها انبعثت دماً وإذا تركت ارتدت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه: ربي الله، فبلغ ذلك عمر فكتب / أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وروى عطاء عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له: يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شرحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بداً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت، فأعجبه ذلك، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول لك، قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي، ففعل الملك ذلك فقتله، فقال الناس: لا إله إلا الله، عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وخد أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال: ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود فأحرقه، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاث أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي عن دينك، فأبت فألقى الثاني في النار، ثم قال لها: ارجعي، فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع، فقال الصبي: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق، ولا بأس عليك، فألقي الصبي في النار، وألقيت أمه على أثره.
وقال سعيد بن جبير وابن أبزى: لما انهزم أهل اسفندهار قال عمر بن الخطاب: أي شيء يجري على المجوس من الأحكام فإنهم ليسوا بأهل كتاب؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بلى قد كان لهم كتاب، وكانت الخمر أحلت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله، فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم، وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت، وما المخرج منه قالت: المخرج منه أن تخطب الناس، وتقول: إن الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته، فقام خطيباً فقال: إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات، فقال الناس بأجمعهم: معاذ الله أن نؤمن بهذا، أو نقر به، ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا فيه كتاب، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا فجرد فيهم السيف. فأبوا أن يقروا فخد لهم أخدوداً وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى ولم يطعه قذفه في النار ومن أجاب خلى سبيله.
وقال الضحاك: أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالاً ونساء فخدوا لهم أخدوداً ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: أتكفرون أم نقذفكم في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه. وهذه رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال أبو الطفيل عن علي رضي الله عنه: كان أصحاب الأحدود نبيهم حبشي، بعث نبي من الحبشة إلى قومه، ثم قرأ علي رضي الله عنه: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك "، الآية (غافر- 78)، فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذوا وأوثق ما أفلت منهم فخدوا أخدوداً فملؤها ناراً فمن تبع النبي رمي فيها، ومن تابعهم تركوه، فجاؤوا بامرأة ومعها صبي رضيع فجزعت، فقال الصبي: يا أماه مري ولا تنافقي.
وقال عكرمة: كانوا من النبط أحرقوا بالنار. وقال مقاتل: كانت الأخدود ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، وواحدة بالشام، والأخرى بفارس، حرقوا بالنار أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو ذو نواس يوسف، فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهما قرآناً وأنزل في التي كانت بنجران، وذلك أن رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل آجر نفسه في عمل، وجعل يقرأ الإنجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل، فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام، فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً من بين رجل وامرأة وهذا بعدما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخد لهم في الأرض وأوقد فيها ناراً فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وإن امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلم، فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها: يا أماه إني أرى أمامك ناراً لا تطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار، فجعلها الله وابنها في الجنة، فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً، فذلك قوله عز وجل: "قتل أصحاب الأخدود".
4-" قتل أصحاب الأخدود " قيل إنه جواب القسم على تقدير لقد " قتل " ، والأظهر أنه دليل جواب محذوف كأنه قيل إنهم ملعونون يعني كفار مكة لعن أصحاب الأخدود ، فإن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم ، والأخدود الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الحق والأحقوق . روي مرفوعاً : " أن ملكاً كان له ساحراً فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه ، وكان في طريقه راهب فمال قلبه إليه ،فرأى في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليه من الساحر فاقتلها فقتلها ، وكان الغلام بعد يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء ، وعمي جليس الملك فأبرأه ،فسأله الملك عمن أبرأه فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه ، فدل على الراهب فقده بالمنشار ، وأرسل الغلام إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم فهلكوا ونجا ،وأجلسه في سفينة ليغرق فدعا فانكفأت السفينة بمن معه فغرقوا ونجا ، فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس وتصلبني وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : بسم الله رب هذا الغلام ، ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فمات ، فآمن الناس برب الغلام ، فأمر بأخاديد وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت ". وعن علي رضي الله تعالى عنه . كان بعض ملوك المجوس خطب الناس وقال : إن الله أحل نكاح الأخوات فلم يقبلوه ، فأمر بأخاديد النار فطرح فيها من أبى ، وقيل لما تنصر نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير فأحرق في الأخاديد من لم يرتد .
4. (Self) destroyed were the owners of the ditch
4 - Woe to the makers of the pit (of fire),