[الأنفال : 68] لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
68 - (لولا كتاب من الله سبق) بإحلال الغنائم والأسرى لكم (لمسكم فيما أخذتم) من الفداء (عذاب عظيم)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: " لولا كتاب من الله سبق "، يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله محل لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذب أحداً شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصراً دين الله، لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن عدي قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: " لولا كتاب من الله سبق " الآية، قال: إن الله كان مطعم هذه الأمة الغنيمة، وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم، ثم أحله الله.
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف، عن الحسن في قول الله: " لولا كتاب من الله سبق " الآية، وذلك يوم بدر، وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المغنم والأسارى قبل أن يؤمروا به، وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب: ((المغنم والأسارى حلال لمحمد وأمته))، ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغنم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك، قال الله: " لولا كتاب من الله سبق "، يعني في الكتاب الأول، أن المغانم والأسارى حلال لكم، " لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ".
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " لولا كتاب من الله سبق " الآية، وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم، إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلاً أو كثيراً. حرم ذلك على كل نبي وعلى أمته، فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلون منه، ولا يأخذون منه قليلاً ولا كثيراً إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريماً شديداً، فلم يحله لنبي إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عروة، عن الحسن : " لولا كتاب من الله سبق "، قال: إن الله كان معطي هذه الأمة الغنيمة، وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تحل الغنيمة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال الأعمش في قوله: " لولا كتاب من الله سبق "، قال:سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيداً يحدث، عن أبي هريرة، قال: قرأ هذه الآية: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم "، قال: يعني: لولا أن سبق في علمي أني سأحل الغنائم، لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، وأبو معاوية بنحوه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نارً من السماء وتأكلها، حتى كان يوم بدر، فوقع الناس في الغنائم، فأنزل الله: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم "، حتى بلغ، " حلالا طيبا " ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: بنحوه، قال: فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين ، عن عبيدة، قال: " أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقووا به على عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون، أو تقتلوهم! فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، وقتل منهم سبعون. قال عبيدة، وطلبوا الخيرتين كلتيهما ".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عبيدة، قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية، و((الأوقية)) أربعون درهماً، ومن الدنانير ستة دنانير.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين ، عن عبيدة، " أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم! فقالوا: بلى، نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعدتهم".
حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا همام بن يحيى قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: أمر عمر رحمه الله بقتل الأسارى، فأنزل الله: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " لولا كتاب من الله سبق "، قال: كان المغنم محرماً على كل نبي وأمته، وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قرباناً تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحل المغنم لهذه الأمة، يأكلونه في بطونهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم "، قال: كان في علم الله أن تحل لهم الغنائم، فقال: " لولا كتاب من الله سبق "، بأنه أحل لكم الغنائم، " لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ".
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن شريك، عن سالم عن سعيد: " لولا كتاب من الله سبق "، قال: لأهل بدر، من السعادة.
حدثنا ابن كيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " لولا كتاب من الله سبق "، لأهل بدر، مشهدهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن : " لولا كتاب من الله سبق "، قال: سبق من الله خير لأهل بدر.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم "، كان سبق لهم من الله خير، وأحل لهم الغنائم.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن : " لولا كتاب من الله سبق "، قال: ((سبق))، أن لا يعذب أحداً من أهل بدر.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد :" لولا كتاب من الله سبق "، لأهل بدر، ومشهدهم إياه.
حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم "، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله الغفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب المؤمنين، لأنه لا يعذب رسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.
وقال آخرون: معنى ذلك: " لولا كتاب من الله سبق "، ان لا يؤاخذ أحداً بفعل أتاه على جهالة، " لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله: " لولا كتاب من الله سبق "، لأهل بدر، ومشهدهم إياه، قال: كتاب سبق لقوله: " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " [التوبة: 115]، سبق ذلك، وسبق أن لا يؤاخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة، " لمسكم فيما أخذتم "، قال ابن جريج ، قال ابن عباس: " فيما أخذتم "، مما أسرتم. ثم قال بعد: " فكلوا مما غنمتم ".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال: عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنماً من عدو له.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلت لي المغانم، ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمس لم يؤتهن نبي كان قبلي ". قال محمد: فقال: " ما كان لنبي "، أي قبلك، " أن يكون له أسرى "، إلى قوله: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم "، أي: من الأسارى والمغانم، " عذاب عظيم "، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه قبل. وذلك أن قوله: " لولا كتاب من الله سبق "، خبر عام غير محصور على معنى دون معنى، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة، وذلك: ما عملوا من عمل بجهالة، وإحلال الغنيمة، والمغفرة لأهل بدر، وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يخص من ذلك معنى دون معنى، وقد عمم الله الخبر بكل ذلك، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:" لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحل لكم ".
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحق :"لما نزلت: " لولا كتاب من الله سبق "، الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال ".
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: "لولا كتاب من الله سبق" في أنه لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون. واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا. فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عز وجل "لولا كتاب من الله سبق" أي بتحليل الغنائم. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا سلام عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: "لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرؤوس غيركم". فكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها، فأنزل الله تعالى: "لولا كتاب من الله سبق" إلى آخر الآيتين. وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقاله مجاهد والحسن. وعنهما أيضاً وسعيد بن جبير: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب، معيناً. والعموم أصح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر:
"وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". خرجه مسلم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذب أحداً بذنب أتاه جاهلاً حتى يتقدم إليه. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنىً دون معنىً.
الثانية- ابن العربي: وفي الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراماً مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه، كالصائم إذا قال: هذا يوم نوبي فأفطر الآن. أو تقول المرأة: هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، وهي الرواية الأخرى. وجه الرواية الأولى أن طرو الإباحة لا يثبت عذراً في عقوبة التحريم عند الهتك، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها. وجه الرواية الثانية: أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عز وجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته. وهذا أصح. والتعليل الأول لا يلزم، لأن علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله. كما قال: "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم".
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن هاشم, عن حميد, عن أنس رضي الله عنه, قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر, فقال "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم, ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس" فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم, فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم, ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: للناس مثل ذلك, فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه, فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم, وأن تقبل منهم الفداء, قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم, فعفا عنهم وقبل منهم الفداء, قال وأنزل الله عز وجل "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك, وقال الأعمش: عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك, استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم, وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم, وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب, أضرم الوادي عليهم ناراً, ثم ألقهم فيه, قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً, ثم قام فدخل, فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر, وقال ناس: يأخذ بقول عمر, وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.
ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن, وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة, وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام, قال "فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام, قال "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" وإن مثلك يا عمر, كمثل موسى عليه السلام, قال "ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" وإن مثلك يا عمر, كمثل نوح عليه السلام, قال "رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء, أو ضربة عنق قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء, فإنه يذكر الإسلام, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم, حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله عز وجل "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" "إلى آخر الاية, رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به, والحاكم في مستدركه, وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن عمر, وأبي هريرة رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري, وروى ابن مردويه أيضاً, واللفظ له والحاكم في مستدركه, من حديث عبيد الله بن موسى, حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد عن ابن عمر, قال: لما أسر الأسارى يوم بدر, أسر العباس فيمن أسر, أسره رجل من الأنصار, قال وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس, وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه" فقال له عمر أفآتهم ؟ فقال "نعم", فأتى عمر الأنصار فقال لهم: أرسلوا العباس, فقالوا: لا والله لا نرسله, فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى ؟ قالوا فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه, فأخذه عمر فلما صار في يده, قال له: يا عباس أسلم فو الله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب , وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك, قال واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فيهم, فقال أبو بكر عشيرتك فأرسلهم, فاستشار عمر فقال: اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" الاية, قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال سفيان الثوري عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة, عن علي رضي الله عنه, قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر, فقال: خير أصحابك في الأسارى, إن شاءوا الفداء, وإن شاءوا القتل, على أن يقتل عاماً مقبلاً منهم مثلهم, قالوا: الفداء ويقتل منا, رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري به, وهذا حديث غريب جداً, وقال ابن عون عن عبيدة عن علي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر: "إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم, واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم" قال فكان آخر السبعين, ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة رضي الله عنه, ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلاً, فالله أعلم, وقال محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح, عن عطاء عن ابن عباس: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" فقرأ حتى بلغ عذاب عظيم. قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم, يقول: لولا أني لا أعذب من عصاني, حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم, وكذا روى ابن أبي نجيح: عن مجاهد, وقال الأعمش: سبق منه أن لا يعذب أحداً شهد بدراً, وروي نحوه عن سعد بن أبي وقاص, وسعيد بن جبير وعطاء, وقال شعبة عن أبي هاشم عن مجاهد "لولا كتاب من الله سبق" أي لهم بالمغفرة ونحوه, عن سفيان الثوري رحمه الله, وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله "لولا كتاب من الله سبق" يعني في أم الكتاب الأول, أن المغانم والأسارى حلال لكم "لمسكم فيما أخذتم" من الأسارى "عذاب عظيم" قال الله تعالى: "فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً" الاية. وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وروي مثله عن أبي هريرة, وابن مسعود, وسعيد بن جبير, وعطاء والحسن البصري, وقتادة والأعمش أيضاً, أن المراد "لولا كتاب من الله سبق" لهذه الأمة بإحلال الغنائم, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
ويستشهد لهذا القول, بما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه, وبعثت إلى الناس عامة" وقال الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا" ولهذا قال تعالى: "فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً" الاية, فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء, وقد روى الإمام أبو داود في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العبسي, حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا شعبة عن أبي العنبس, عن أبي الشعثاء, عن ابن عباس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة, وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء, أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة, وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر, أو بمن أسر من المسلمين, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها, اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع, حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين, وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء, وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة, مقرر في موضعه من كتب الفقه .
قوله: 68- "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم". اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال: الأول: ما سبق في علم الله من أنه سيحل لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرمة على سائر الأمم، والثاني: أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر كما في الحديث الصحيح: "إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". القول الثالث: هو أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم كما قال سبحانه: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم". القول الرابع: أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً. القول الخامس: أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها "لمسكم" أي لحل بكم "فيما أخذتم" أي لأجل ما أخذتم من الفداء "عذاب عظيم".
68 - قوله تعالى : " لولا كتاب من الله سبق " ، قال ابن عباس : كانت الغنائم حراماً على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا شيئاً من الغنائم [ جعلوه ] للقربان ، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله ، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء ، فأنزل الله عز وجل : " لولا كتاب من الله سبق " يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم .
وقال الحسن و مجاهد و سعيد بن جبير : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن جريج : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، وأنه لا يأخذ قوماً فعلوا أشياء بجهالة : " لمسكم " ، لنالكم وأصابكم ، " فيما أخذتم " من الفداء قبل أن تؤمروا به ، " عذاب عظيم " .
قال ابن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحد ممن أحضر إلا حب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ " .
68. " لولا كتاب من الله سبق " لو لا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوماً بما لم يصرح لهم بالنهي عنه ، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم ." لمسكم " لنالكم ." فيما أخذتم " من الفداء . " عذاب عظيم " روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ " وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان .
68. Had it not been for an ordinance of Allah which had gone before, an awful doom had come upon you on account of what ye took.
68 - Had it not been for a previous ordainment from God, a severe penalty would have reached you for the (ransom) that ye took.