[الأنفال : 16] وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
16 - (ومن يولهم يومئذ) أي يوم لقائهم (دبره إلا متحرفا) منعطفا (لقتال) بأن يريهم الفرة مكيدة وهو يريد الكرة (أو متحيزاً) منضماً (إلى فئةٍ) جماعةٍ من المسلمين يستنجد بها (فقد باء) رجع (بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) المرجع هي وهذا مخصوص بما إذا لم يزد الكفار على الضعف
" ومن يولهم يومئذ دبره "، يقول: ومن يولهم منكم ظهره، " إلا متحرفا لقتال "، يقول:إلا مستطرداً لقتال عدوه، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكر عليه، " أو متحيزا إلى فئة " أو: إلا أن يوليهم ظهره متحيزاً إلى فئة، يقول: صائراً إلى حيز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم، ويرجعون به إليهم معهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك : " إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة "، قال: ((المتحرف))، المتقدم من أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها. قال: و((المتحيز))، الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكذلك من فر اليوم إلى أميره وأصحابه. قال الضحاك : وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن لا يفروا. وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فئتهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة "، أما ((المتحرف))، يقول: إلا مستطرداً يريد العودة، " أو متحيزا إلى فئة "، قال: ((المتحيز))، إلى الإمام وجنده إن هو كر فلم يكن له بهم طاقة، ولا يعذر الناس وإن كثروا أن يولوا عن الإمام.
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم "، هل هو خاص في أهل بدر، أم هو في المؤمنين جميعاً؟
فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليوم فلم الانهزام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة في قول الله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: ذاك يوم بدر، ولم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحاز أحد لم ينحز إلا إلى، قال أبو موسى: يعني: إلى المشركين.
حدثنا إسحق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قوله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره "، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض، غيرهم.
حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن مفضل قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة، عن سعيد قال: نزلت في يوم بدر: " ومن يولهم يومئذ دبره ".
حدثنا ابن المثنى وعلي بن مسلم الطوسي - قال ابن المثنى: حدثني عبد الصمد، وقال علي: حدثنا عبد الصمد - قال، حدثنا شعبة، عن داود، يعني ابن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: يوم بدر. قال أبو موسى: حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث: عن داود، عن الشعبي ، عن أبي سعيد.
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كان ذلك يوم بدر، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة: " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: هذه نزلت في أهل بدر.
حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن قوله: " ومن يولهم يومئذ دبره "، أكان ذلك اليوم، أم هو بعد؟ قال: وكتب إلي: ((إنما كان ذلك يوم بدر )).
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد، عن سفبان، عن جويبر، عن الضحاك قال: إنما كان الفرار يوم بدر، ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم، فليس فرار.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن : " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة، ليس الفرار من الزحف من الكبائر.
... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك : " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة.
... قال، حدثنا روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن : " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: نزلت في أهل بدر.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: ذلكم يوم بدر.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك ، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن : " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: ذلك يوم بدر. فأما اليوم، فإن انحاز إلى فئة أو مصر، أحسبه قال: فلا بأس به.
حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع: " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: إنما هذا يوم بدر.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله لمن فر يوم بدر النار. قال: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله"، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " [آل عمران: 155]. ثم كان حنين، بعد ذلك بسبع سنين فقال: " ثم وليتم مدبرين " [التوبة: 25]. " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء " [التوبة: 7].
حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد: أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيد فقال: لو تحيز إلي! إن كنت لفئة!
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك ، عن جرير بن حازم قال، حدثني قيس بن سعد قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: " ومن يولهم يومئذ دبره "، قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين " [الأنفال: 66]. قال: وليس لقوم أن يفروا من مثليهم. قال ونسخت تلك إلا هذه العدة.
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، اخبرنا ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان قال: لما قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر فقال: يا أيها الناس، أنا فئتكم.
... قال ابن المبارك، عن معمر وسفيان الثوري و ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم.
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزماً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير".
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي، قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف لقتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزماً بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا هي محكمة غير منسسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره: أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل. ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ".
وأما قوله: " فقد باء بغضب من الله "، يقول: فقد رجع بغضب من الله، " ومأواه جهنم "، يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم، " وبئس المصير "، يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير.
الرابعة: قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فر من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم، لقوله عز وجل: "ومن يولهم يومئذ دبره" الآية. قال: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً، فإن بلغ اثني عشر ألفاً لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة" فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية.
قلت- رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي، وهو الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك. قالا: حدثنا الزهري عن أنس بن مالك "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
يا أكثم بن الجون اغز مع غير قومك يحسن خلقك وتكرم على رفقائك. يا أكثم بن الجون خير الرفقاء أربعة وخير الطلائع أربعون وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة". وروى عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه وهو قوله للعمري العابد إذ سأله هل لك سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها؟ فقال: إن كان معك اثنا عشر ألفاً فلا سعة لك في ذلك.
الخامسة: فإن فر فليستغفر الله عز وجل. روى الترمذي "عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر الله له وإن كان قد فر من الزحف". قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
السادسة- قوله تعالى: "إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة" التحرف: الزوال عن جهة الاستواء. فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم، وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضاً. روى أبو داود "عن عبد الله بن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، قال: فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب. فقلنا: ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد. قال: فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا. قال: فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال: لا بل أنتم العكارون قال: فدنونا فقبلنا يده. فقال: أنا فئة المسلمين". قال ثعلب: العكارون هم العطافون. وقال غيره: يقال للرجل الذي يولي عند الحرب ثم يكر راجعاً: عكر واعتكر. وروى جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، هلكت! فررت من الزحف. فقال عمر: أنا فئتك. وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إلي لكنت له فئة، فأنا فئة كل مسلم. وعلى هذه الأحاديث لا يكون الفرار كبيرة، لأن الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا. وعلى القول الآخر يكون كبيرة، لأن الفئة هناك الجماعة من الناس الحاضرة للحرب. هذا على قول الجمهور أن الفرار من الزحف كبيرة. قالوا: وإنما كان ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على جهة الحيطة على المؤمنين، إذ كانوا في ذلك الزمان يثبتون لأضعافهم مراراً. والله أعلم. وفي قوله والتولي يوم الزحف ما يكفي.
السابعة- قوله تعالى: "فقد باء بغضب من الله" أي استحق الغضب. وأصل باء رجع. وقد تقدم. "ومأواه جهنم" أي مقامه. وهذا لا يدل على الخلود، كما تقدم في غير موضع. وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف".
يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً" أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم "فلا تولوهم الأدبار" أي تفروا وتتركوا أصحابكم "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال" أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي, وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها "أو متحيزاً إلى فئة" أي فر من ها هنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة, فبتنا, ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا, فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال "من القوم ؟" فقلنا نحن الفرارون فقال "لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين" قال فأتيناه حتى قبلنا يده. وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد ورواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن أبي زياد به, وزاد في آخره وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية "أو متحيزاً إلى فئة" قال أهل العلم معنى قوله "العكارون" أي العطاقون, وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت له فئة هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال لما قتل أبو عبيد قال عمر: أيها الناس أنا فئتكم وقال مجاهد قال عمر أنا فئة كل مسلم, وقال عبد الملك بن عمير عن عمر أيها الناس لا تغرنكم هذه الاية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا, ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن الله يقول: "إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً" الاية, فقال إنما أنزلت هذه الاية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها, وقال الضحاك في قوله "أو متحيزاً إلى فئة" المتحيز الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وله شواهد من وجوه أخر, ولهذا قال تعالى: "فقد باء" أي رجع "بغضب من الله ومأواه" أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده "جهنم وبئس المصير". وقال الإمام أحمد حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبد الله بن عمر الرقي عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية وهو بشير بن معبد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن أقيم الصلاة, وأن أؤدي الزكاة, وأن أحج حجة الإسلام, وأن أصوم شهر رمضان, وأن أجاهد في سبيل الله, فقلت يا رسول الله أما اثنتان فو الله لا أطيقهما: الجهاد, فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت, والصدقة فو الله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهم, فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: "فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً ؟" قلت يارسول الله أنا أبايعك فبايعته عليهن كلهن, هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر حدثنا يزيد بن ربيعة حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف" وهذا أيضاً حديث غريب جداً, وقال الطبراني أيضاً حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر الشني حدثني عمرو بن مرة قال سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت أبي يحدث عن جدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف" وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي عن البخاري عن موسى بن إسماعيل به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, قلت ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم عنه سواه, وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراماً على الصحابة لأنه كان فرض عين عليهم, وقيل على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وقيل المراد بهذه الاية أهل بدر خاصة يروى هذا عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع مولى ابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم, وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ولهذا قال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله "ومن يولهم يومئذ دبره" قال ذلك يوم بدر فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال فلا بأس عليه, وقال ابن المبارك عن المبارك أيضاً عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار قال "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله" فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين قال "ثم وليتم مدبرين" "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" وفي سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال في هذه الاية "ومن يولهم يومئذ دبره" إنما أنزلت في أهل بدر, وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراماً على غير أهل بدر, وإن كان سبب نزول الاية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير, والله أعلم .
قالوا: ويؤيده قوله: 16- "ومن يولهم يومئذ دبره" فإنه إشارة إلى يوم بدر، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر. وأجيب عن قول الأولين بأن الإشارة في "يومئذ" إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف، بل هذه الآية مقيدة بها فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال. ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث: "اجتنبوا السبع الموبقات، وفيه: والتوالي يوم الزحف" ونحوه من الأحاديث وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه، وهو مبين في مواطنه. قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفار والذم له. قوله: "إلا متحرفاً لقتال" التحرف: الزوال عن جهة الاستواء، والمراد به هنا التحرف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب وخدعاً للعدو، وكمن يوهم أنهم منهزم ليتبعه العدو فيكر عليه ويتمكن منه، ونحو ذلك من مكائد الحرب فإن الحرب خدعة. قوله: "أو متحيزاً إلى فئة" أي إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدو وانتصاب متحرفاً ومتحيزاً على الاستثناء من المولين: أي ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً ويجوز انتصابهما على الحال، ويكون حرف الاستثناء لغواً لا عمل له، وجملة "فقد باء بغضب من الله" جزاء للشرط. والمعنى: من ينهزم ويفر من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله إلا المتحرف والمتحيز "ومأواه جهنم" أي المكان الذي يأوي إليه هو النار فقراره أوقعه إلى ما هو أشد بلاء مما فر منهم وأعظم عقوبة. والمأوى: ما يأوي إليه الإنسان "وبئس المصير" ما صار إليه من عذاب النار. وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفر عن الزحف وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة.
16 - " ومن يولهم يومئذ دبره " ، ظهره ، " إلا متحرفاً لقتال " ، أي : منعطفاً يرى من نفسه الانهزام ، وقصده طلب الغرة وهو يريد الكرة ، " أو متحيزاً إلى فئة " ، أي : منضماً صائراً إلى جماعة من المؤمنين { يريد } العود إلى القتال . ومعنى الآية :النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم ،إلا على نية التحرف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد ،كما قال تعالى: " فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " ، واختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري : هذا في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ، متحيزاً إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة ، وهو قول الحسن و قتادة و الضحاك .
قال يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله النار لمن فر يوم بدر ،فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " ( آل عمران - 155 )، ثم كان يوم حنين بعده فقال " ثم وليتم مدبرين " ( التوبة - 25 ) " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء " ( التوبة - 27 ) .
وقال عبد الله بن عمر :" كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا ، فقلنا : يا رسول الله نحن { الفرارون } ،قال : بل أنتم الكرارون ، أنا فئة المسلمين " .
وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إلى كنا له فئة فأنا فئة كل مسلم .
وقال بعضهم : حكم الآية عام في حق كل من ولىمنهزماً . جاء في الحديث : من الكبائر الفرار من الزحف .
وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : " الآن خفف الله عنكم " ( الأنفال - 66 ) فليس لقوم أن يفروا من { مثلهم } فنسخت تلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم ، قال ابن عباس : من فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن اثنين فقد فر .
16. " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال " يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو ، فإنه من مكايد الحرب ." أو متحيزا إلى فئة " أو منحازاً إلى فئة أخرى من المسلين على القرب ليستعين بهم ،ومنهم من لم يعتبر القرب لما روي ابن عمر رضي الله عنهما : "أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففروا إلى المدينة فقلت يا رسول الله نحن الفرارون فقال : ( بل أنتم العكارون وأنا فئتكم )". وانتصاب متحرفاً ومتحيزاً على الحال وإلا لغو لا عمل لها ، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلاً متحرفاً أو متحيزاً ، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزاً لأنه منحاز يحوز . " فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله: " الآن خفف الله عنكم " الآية ن وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب .
16. Whoso on that day turneth his back to them, unless maneuvering for battle or intent to join a company, he truly hath incurred wrath from Allah, and his habitation will be hell, a hapless journey's end.
16 - If any do turn his back to them on such a day unless it be in a stratagem of war, or to retreat to a troop (of his own) he draws on himself the wrath of God, and his abode is hell, an evil refuge (indeed)