[النازعات : 30] وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
30 - (والأرض بعد ذلك دحاها) بسطها وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو
وقوله : " والأرض بعد ذلك دحاها " : أختلف أهل التأويل في معنى قوله " بعد ذلك " فقال بعضهم : دحيت الأرض من بعد خلق السماء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله " والأرض بعد ذلك دحاها " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها " يعني : أن الله خلق السموات والأرض ، فلما فرغ من السموات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها ، بعد خلق السماء ، وأرسى الجبال ، يعني بذلك دحوها ، الأقوات ، ولم تكن تصلح أقوات الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار ، فذلك قوله " والأرض بعد ذلك دحاها " ألم تسمع أنه قال " أخرج منها ماءها ومرعاها " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن بكر بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، ومنه دحيت الأرض .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : والأرض مع ذلك دحاها ، وقالوا : الأرض خلقت ودحيت قبل السماء ، وذلك أن الله قال : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " [ البقرة : 29 ] قالوا : فأخبر الله أنه سوى السموات بعد أن خلق ما في الأرض جميعاً ، قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، فلا وجه لقوله " والأرض بعد ذلك دحاها " إلا ما ذكرنا ، من أنه مع ذلك دحاها ، قالوا : وذلك كقوله الله عز وجل " عتل بعد ذلك زنيم " [ القلم : 13 ] ، بمعنى : مع ذلك زنيم ، وكما قال للرجل : أنت أحمق ، وأنت بعد هذا لئيم الحسب ، بمعنى : مع هذا ، وكما قال جل ثناؤه " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " [ الأنبياء : 105 ] ، أي من قبل الذكر ، واستشهد بقول الهذلي :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشاً نجا قبل عروة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد " والأرض بعد ذلك دحاها " قال : مع ذلك دحاها .
حدثني ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد أنه قال ( والأرض عند ذلك دحاها ) .
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا علي بن معبد ، قال : ثنا محمد بن سلمة ، عن خصيف ، عن مجاهد " والأرض بعد ذلك دحاها " قال : مع ذلك دحاها .
حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : ثنا رواد بن الجراح ، عن أبي حمزة ، عن السدي ، في قوله " والأرض بعد ذلك دحاها " قال : مع ذلك دحاها .
والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض ، وقدر فيها أقواتها ولم يدحها ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فأخرج منها ماءها ومرعاها ، وأرسى جبالها ، أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل ، لأنه جل ثناؤه قال : " والأرض بعد ذلك دحاها " ، والمعروف من معنى ( بعد ) أنه خلاف معنى ( قبل ) وليس في دحو الله الأرض بعد تسويته السموات السبع ، وإغطاشه ليلها ، وإخراجه ضحاها ، ما يوجب أن تكون الأرض بعد خلق السموات لأن الدحو إنما هو البسط في كلام العرب والمد ، يقال منه : دحا يدحو دحواً ، ودحيت أدحي دحياً لغتان ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
دار دحاها ثم أعمرنا بها وأقام بالأخرى التي هي أمجد
وقول أوس بن حجر في نعت غيث :
ينفي الحصن عن جديد الأرض مبترك كأنه فاحص أو لاعب داحي
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " والأرض بعد ذلك دحاها " : بسطها .
حدثني محمد بن خلف ، قال : ثنا رواد ، عن أبي حمزة ، عن السدي " دحاها " قال : بسطها .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان : دحاها : بسطها .
وقال ابن زيد في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " دحاها " قال : حرثها شقها وقال : " أخرج منها ماءها ومرعاها " ، وقرأ " ثم شققنا الأرض شقا " [ عبس : 26 ] ...حتى بلغ " وفاكهة وأبا " [ عبس : 31 ] ، وقال : حين شقها أنبت هذا منها ، وقرأ " والأرض ذات الصدع " [ الطارق : 12 ] .
قوله تعالى:" والأرض بعد ذلك دحاها" أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في اول ((البقرة)) عند قوله تعالى: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء " [ البقرة:29] مستوفى. والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحواً: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أدحي، لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي
وأنشد المبرد:
دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالاً
وقيل: دحاها سواها، ومنه قول زيد بن عمرو:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن ابن عباس : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن ((بعد)) في موضع ((مع)) كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها، كما قال تعالى: " عتل بعد ذلك زنيم" [ القلم :13] ومنه قولهم : أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق، قال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل، كقوله تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" [ الأنبياء :105] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نحا خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشاً نجا قبل عروة. وقيل: ((دحاها)) حرثها وشقها. قاله ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب. وقراءة العامة ((والأرض )) بالنصب، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون ((والأرض)) بالرفع، على الابتداء، لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحوا دحوا ودحى يدحى دحيا، كقولهم : طغى يطغى ويطغو، وطغي يطغى، ومحا يمحو ويمحي، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحي قال دحيت.
يقول تعالى محتجاً على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه: "أأنتم" أيها الناس "أشد خلقاً أم السماء" يعني بل السماء أشد خلقاً منكم, كما قال تعالى: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" وقال تعالى: " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " وقوله تعالى: "بناها" فسره بقوله: "رفع سمكها فسواها" أي جعلها عالية البناء بعيدة الفناء مستوية الأرجاء مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء, وقوله تعالى: "وأغطش ليلها وأخرج ضحاها" أي جعل ليلها مظلماً أسود حالكاً ونهارها مضيئاً مشرقاً نيراً واضحاً , وقال ابن عباس : أغطش ليلها أظلمه, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وجماعة كثيرون "وأخرج ضحاها" أي أنار نهارها. وقوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها" فسره بقوله تعالى: "أخرج منها ماءها ومرعاها" وقد تقدم في سورة حم السجدة أن الأرض خلقت قبل خلق السماء ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء, بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل, وهذا معنى قول ابن عباس وغير واحد واختاره ابن جرير . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي , حدثنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس "دحاها" ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار, وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والاكام, فذلك قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله تعالى: "والجبال أرساها" أي قررها وأثبتها وأكدها في أماكنها وهو الحكيم العليم, الرؤوف بخلقه الرحيم. وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون , أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم: الحديد, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم: النار, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار, قال: نعم الماء, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال: نعم الريح, قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال: نعم, ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله" وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق علي آدم وذريته يلقون علي نتنهم ويعلون علي بالخطايا, فأرساها الله بالجبال فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون, وكان أول قرار الأرض كلحم الجزور إذا نحر يختلج لحمه. غريب جداً. وقوله تعالى: "متاعاً لكم ولأنعامكم" أي دحا الأرض فأنبع عيونها, وأظهر مكنونها, وأجرى أنهارها, وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها. وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها, كل ذلك متاعاً لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذا الدار, إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل.
30- "والأرض بعد ذلك دحاها" أي بعد خلق السماء، ومعنى دحاها بسطها، وهذا يدل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء، ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله: "ثم استوى إلى السماء" بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولا غير مدحورة ثم خلق السماء ثم دحاها الأرض، وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدمنا أيضاً بحثاً في هذا في أول سورة البقرة عند قوله: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع كما في قوله: "عتل بعد ذلك زنيم"، وقيل بعد بمعنى قبل كقوله: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" أي من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى، وهو قول ابن عباس وغير واحد، واختاره ابن جرير. يقال دحوت الشيء أدحوه: إذا بسطته، ويقال لعش النعامة أدحى لأنه مبسوط على الأرض، وأنشد المبرد:
دحــاهــا فــلما رآهــا اســتـــوت عــلى المـــاء أرسى عليهــــا الجــبــالا
وقال أمية بن أبي الصلت:
وبــث الخــلق فيهـــا إذ دحــاهــا فــــهـــم قـــطانها حــــتى الــتـنــادي
وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأســلمت وجــهــي لمــن أسلمــت لـــه الأرض تحمـــل صخـــــراً ثقــــالاً
دحـــــاهــــا فــلما استــوت شدها بــــأيـــد وأرسى عـــليــهــــا الجـــبالا
قرأ الجمهور بنصب "الأرض" على الاشتغال، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السماك وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء.
30- "والأرض بعد ذلك"، بعد خلق السماء "دحاها"، بسطها، والدحو: البسط. قال ابن عباس: خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
وقيل: معناه: والأرض مع ذلك دحاها، كقوله عز وجل: "عتل بعد ذلك زنيم" (القلم- 13)، أي مع ذلك.
30-" والأرض بعد ذلك دحاها " بسطها ومهدها للسكنى .
30. And after that He spread the earth,
30 - And the earth, moreover, hath He extended (to a wide expanse);