[نوح : 9] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا
9 - (ثم إني أعلنت لهم) صوتي (وأسررت) الكلام (لهم إسرارا)
وقوله : " ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا " يقول : صرخت لهم ، وصحت بالذي أمرتني به من الإنذار .
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، أن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " أعلنت لهم " قال : صحت .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ،" أعلنت لهم " يقول : صحت بهم .
وقوله : " وأسررت لهم إسرارا " يقول : وأسررت لهم ذلك فيما بيني وبينهم في خفاء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " وأسررت لهم إسرارا " قال : فيما بيني وبينهم .
"ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا". أي لم أبق مجهوداً. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، وأسررت لهم إسراراً . بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل: "وأسررت لهم" أتيتهم في منازلهم.وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من "إني أعلنت لهم" الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السلام أنه اشتكى إلى ربه عز وجل ما لقي من قومه, وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاماً, وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم, فقال : "رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً" أي لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالاً لأمرك وابتغاء لطاعتك "فلم يزدهم دعائي إلا فراراً" أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه "وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم" أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه كما)أخبر تعالى عن كفار قريش: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" "واستغشوا ثيابهم" قال ابن جرير عن ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم. وقال سعيد بن جبير والسدي : غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول "وأصروا" أي استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع "واستكبروا استكباراً" أي واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له "ثم إني دعوتهم جهاراً" أي جهرة بين الناس "ثم إني أعلنت لهم" أي كلاماً ظاهراً بصوت عال "وأسررت لهم إسراراً" أي فيما بيني وبينهم, فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم.
"فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً" أي ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب فإنه من تاب إليه تاب عليه, ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك, ولهذا قال: "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً" أي متواصلة الأمطار, ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الاية, وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي فلم يزد على الاستغفار وقراءة الايات في الاستغفار ومنها هذه الاية "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً" ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. وقال ابن عباس وغيره: يتبع بعضه بعضاً. وقوله تعالى: "ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً" أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم أسقاكم من بركات السماء, وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع, وأدر لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين أي أعطاكم الأموال والأولاد وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها, هذا مقام الدعوة بالترغيب, ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " أي عظمة, قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك , وقال ابن عباس : لا تعظمون الله حق عظمتة أي لا تخافون من بأسه ونقمته "وقد خلقكم أطواراً" قيل معناه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة, قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ويحيى بن رافع والسدي وابن زيد .
وقوله تعالى: " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا " أي واحدة فوق واحدة وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أوهو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكسوفات, فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضاً فأدناها القمر في السماء الدنيا, وهو يكسف ما فوقه, وعطارد في الثانية, والزهرة في الثالثة, والشمس في الرابعة, والمريخ في الخامسة, والمشتري في السادسة, وزحل في السابعة, وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت, والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي, والفلك التاسع وهو الأطلس والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك, وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق, وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ومعها يدور سائر الكواكب تبعاً ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها فإنها تسير من المغرب إلى المشرق, وكل يقطع فلكه بحسبه, فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة, والشمس في كل سنة مرة, وزحل في كل ثلاثين سنة مرة, وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة, هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى: " خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا " أي فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها, وقدر للقمر منازل وبروجاً وفاوت نوره فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهور والأعوام, كما قال تعالى: " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ".
وقوله تعالى: "والله أنبتكم من الأرض نباتاً" هذا اسم مصدر والإتيان به ههنا أحسن "ثم يعيدكم فيها" أي إذا متم "ويخرجكم إخراجاً" أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة "والله جعل لكم الأرض بساطاً" أي بسطها ومهدها وقررها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات "لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً" أي خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها, وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية, فهو الخالق الرزاق جعل السماء بناء والأرض مهاداً وأوسع على خلقه من رزقه, فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد لأنه لا نظير له ولا عديل ولا ند ولا كفء, ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا مشير بل هو العلي الكبير.
9- "ثم إني أعلنت لهم" أي دعوتهم معلناً لهم بالدعاء "وأسررت لهم إسراراً" أي وأسررت لهم الدعوة إسراراً كثيراً، قيل المعنى: أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سراً فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة. فلم ينجع ذلك فيهم. قال مجاهد: معنى أعلنت صحت، وقيل معنى أسررت: أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها. وانتصاب جهاراً على المصدرية، لأن الدعاء يكون جهاراً ويكون غير جهار. فالجهار نوح من الدعاء كقولهم: قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف: أي دعاءً جهاراً، وأن يكون مصدراً في موضع الحال: أي مجاهراً، ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلط من أحدهما. قرأ الجمهور "إني" بسكون الياء، وقرأ أبو عمرو والحرميون بفتحها.
9- "ثم إني أعلنت لهم"، كررت الدعاء معلناً، "وأسررت لهم إسراراً"، قال ابن عباس: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
9-" ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً " أي دعوتهم مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى على أي وجه أمكنني ، و " ثم " لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد لتراخي بعضها عن بعض ، و " جهاراً " نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء ، أو صفه مصدر محذوف بمعنى دعاء " جهاراً " أي مجاهراً به أو الحال فيكون بمعنى مجاهراً .
9. And lo! I have made public proclamation unto them, and I have appealed to them in private.
9 - Further I have spoken to them in public and secretly in private,