[الأعراف : 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
199 - (خذ العفو) اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها (وأمر بالعرف) بالمعروف (وأعرض عن الجاهلين) فلا تقابلهم بسفههم
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فقال بعضهم: تأويله: " خذ العفو " من أخلاق الناس، وهو الفضل وما لا يجهدهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن مجاهد في قوله: " خذ العفو "، قال: من أخلاق الناس وأعمالهم، بغير تحسس.
حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا، حدثنا ابن علية، عن ليث ، عن مجاهد في قوله: " خذ العفو "، قال: عفو أخلاق الناس، وعفو أمورهم.
حدثنا يونس قال، اخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: " خذ العفو "، الآية، قال عروة: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس: " خذ العفو وأمر بالعرف "، الآية.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد : خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس.
... قال حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن ابن الزبير: " خذ العفو "، قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم.
... قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير، قال: إنما أنزل الله: " خذ العفو "، من أخلاق الناس.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " خذ العفو "، قال: من أخلاق الناس وأعمالهم، من غير تحسس - أو: تجسس، شك أبو عاصم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خذ العفو من أموال الناس، وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نزول الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسخ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " خذ العفو "، يعني خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنزل ((براءة)) بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت الصدقات إليه.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثا أسباط، عن السدي : " خذ العفو "، أما " العفو "، فالفضل من المال، نسختها الزكاة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: " خذ العفو "، يقول: خذ ما عفا من أموالهم. وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضة.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم، قبل أن يفرض عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " خذ العفو "، قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال: ثم أمره بالغلظة عليهم، وأن يقعد لهم كل مرصد، وأن يحصرهم. ثم قال: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة " [التوبة: 5، 11] الآية، كلها. وقرأ: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم "، [التوبة: 73 - التحريم: 9]. قال: وأمر المؤمنين بالغلظة عليهم فقال: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة "، [التوبة: 123]، بعد ما كان أمرهم بالعفو. وقرأ قول الله: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " [الجاثية: 14]، ثم لم يقبل منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل، فنسخت هذه الآية العفو.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم، وقال أمر بذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم في المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك تعليمه نبيه صلى الله عليه وسلم محاجته المشركين في الكلام، وذلك قوله: " قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون "، وعقبه بقوله: " وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون * وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها " [الأعراف: 202 - 203]، فما بين ذلك، بأن يكون من تأديبه نبيه صلى الله عليه وسلم في عشرتهم به، أشبه وأولى من الاعتراض بأخذ الصدقة من المسلمين.
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟
قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ، إذ منسوخ، إذ كان جائزاً أن يكون - وإن كان الله أنزله على نبيه عليه السلام في تعريفه عشرة من لم يؤمر بقتاله من المشركين - مراداً به تأديب نبي الله والمسلمين جميعاً في عشرة الناس، وأمرهم بأخذ عفو أخلاقهم، فيكون وإن كان من أجلهم نزل، تعليماً من الله خلقه صفة عشرة بعضهم بعضاً، إذا لم يجب استعمال الغلطة والشدة في بعضهم، فإذا وجب استعمال ذلك فيهم، استعمل الواجب، فيكون قوله: ((خذ العفو))، أمراً بأخذه ما لم يجب غير العفو، فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك. فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة، لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا.
وأما قوله: ((وأمر بالعرف))، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم بما:
حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثني حسين الجعفي، عن سفيان بن عيينة، عن رجل قد سماه قال:"لما نزلت هذه الآية: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما هذا؟ قال: ما أدري، حتى أسأل العالم! قال: ثم قال جبريل: يا محمد، إن الله يأملك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن أمي قال: " لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.
وقال آخرون بما:
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: " وأمر بالعرف "، يقول: بالمعروف.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي : " وأمر بالعرف "، قال: أما ((العرف))، فالمعروف.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة : " وأمر بالعرف "، أي: بالمعروف.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعرف، وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى: ((المعروف)).
يقال: ((أوليته عرفاً، وعارفاً، وعارفةً)) كل ذلك بمعنى: ((المعروف)).
فإذ كان معنى " العرف " ذلك فمن ((المعروف)) صلة رحم من قطع، وإعطاء من رحم، والعفو عمن ظلم. وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من ((العرف)). ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض.
وأما قوله: " وأعرض عن الجاهلين "، فإنه أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل. وذلك وإن كان أمراً من الله نبيه، فإنه تأديب منه عز ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الواجب عليه من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، قال أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: "خذ العفو" دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: "وأمر بالعرف" صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله: "وأعرض عن الجاهلين" الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء. ومساواة الجهلة بالأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. "قال جابر بن سليم أبو جري:
ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام. فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: ادن ثلاثاً، فدنوت فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجراً وعليه وزراً ولا تسبن شيئاً مما خولك الله تعالى. قال أبو جري: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيراً". أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق". وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله: "خذ العفو وأمر بالعرف" قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال:
"إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ فقال: لا أدري حتى أسأل العالم في رواية لا أدري حتى أسأل ربي فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك". فنظمه بعض الشعراء فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاثة من كملت فيه فذلك الفتى
إعطاء من تحرمه ووصل من تقطعه والعفو عمن اعتدى
وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم:
"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقال الشاعر:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثناء فإنه لك باقي
ولو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق
وقال سهل بن عبد الله: كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له: بأي شيء أوصاك؟ قال: بتسعة أشياء: الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة.
قلت: وقد روي "عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال:
أمرني ربي بتسع الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً ونظري عبرة". وقيل: المراد بقوله: خذ العفو أي الزكاة، لأنها يسير من كثير. وفيه بعد، لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر، تقول: أخذت حقي عفواً صفواً، أي سهلاً.
الثانية- قوله تعالى: "وأمر بالعرف" أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر العرف بضمتين، مثل الحلم، وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس.
قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عطاء: "وأعرض عن الجاهلين" يعني بلا إله إلا الله.
الثالثة- قوله تعالى: "وأعرض عن الجاهلين" أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فاعرض عنهم، صيانة له عليهم ورفعاً لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطاباً لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة: هي محكمة، وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه، فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا بن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! قال: فغضب عمر حتى هم بأن يقع به. فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل.
قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها محكمة لا منسوخة. وكذلك استعملها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، على ما يأتي بيانه. وإذا كان الجفاء على السلطان تعمداً واستخفافاً بحقه فله تعزيره. وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصفح والعفو، كما فعل الخليفة العدل.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "خذ العفو" يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه, وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات, قاله السدي. وقال الضحاك عن ابن عباس "خذ العفو" أنفق الفضل, وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس "خذ العفو" قال: الفضل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله "خذ العفو" أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين, ثم أمره بالغلظة عليهم, واختار هذا القول ابن جرير. وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى: "خذ العفو" قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس. وقال هشام بن عروة عن أبيه: أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس, وفي رواية قال: خذ ما عفي لك من أخلاقهم, وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير قال: إنما أنزل خذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية عن أبيه عن ابن عمر, وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة أنهما قالا مثل لك, والله أعلم.
وفي رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير خذ العفو, قال: من أخلاق الناس, والله لاخذنه منهم ما صحبتهم, وهذا أشهر الأقوال, ويشهد له ما رواه ابن جرير, وابن أبي حاتم جميعاً: حدثنا يونس حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أمي قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هذا يا جبريل ؟" قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك, وقد رواه ابن أبي حاتم أيضاً عن أبي يزيد القراطيسي كتابة, عن أصبغ بن الفرج عن سفيان عن أمي عن الشعبي نحوه, وهذا مرسل على كل حال, وقد روي له شواهد من وجوه أخر, وقد روي مرفوعاً عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أسندهما ابن مردويه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا معاذ بن رفاعة, حدثني علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته, فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال, فقال "يا عقبة صل من قطعك, وأعط من حرمك, وأعرض عمن ظلمك" وروى الترمذي نحوه من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد به . وقال: حسن. قلت: ولكن علي بن يزيد وشيخه القاسم أبو عبد الرحمن فيهما ضعف. وقال البخاري قوله "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" العرف: المعروف, حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب عن الزهري, أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة, فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس, وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه, قال: سأستأذن لك عليه, قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر, فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل, فغضب عمر حتى هم أن يوقع به, فقال له الحر, يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وإن هذا من الجاهلين, والله ماجاوزها عمر حين تلاها عليه, وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل, وانفرد بإخراجه البخاري .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك بن أنس عن عبيد الله بن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس, فقال: إن هذا منهي عنه, فقالوا: نحن أعلم بهذا منك, إنما يكره الجلجل الكبير, فأما مثل هذا فلا بأس به, فسكت سالم وقال "وأعرض عن الجاهلين" وقول البخاري: العرف المعروف, نص عليه عروة بن الزبير والسدي وقتادة وابن جرير وغير واحد, وحكى ابن جرير أنه يقال أوليته معروفاً وعارفاً, كل ذلك بمعنى المعروف, قال: وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف, ويدخل في ذلك جميع الطاعات وبالإعراض عن الجاهلين, وذلك وإن كان أمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله, ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" قال: هذه أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها, وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس, فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنـــام فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء: الناس رجلان, فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه, وإما مسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه, فلعل ذلك أن يرد كيده, كما قال تعالى: " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" أي هذه الوصية "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم" وقال في هذه السورة الكريمة أيضاً "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" فهذه الايات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة لا رابع لهن, فإنه تعالى, يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف بالتي هي أحسن فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى, ولهذا قال "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان, فإن لا يكفه عنك الإحسان وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك, وقال ابن جرير في تفسير قوله "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ" وإما يغضبك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته "فاستعذ بالله" يقول: فاستجر بالله من نزغه "إنه سميع عليم" سميع لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزلت "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" قال: يا رب كيف بالغضب ؟, فأنزل الله "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" قلت: وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمرغ غضباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقيل له, فقال: ما بي من جنون. وأصل النزغ الفساد إما بالغضب أو غيره, قال الله تعالى: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" والعياذ الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر, وأما الملاذ ففي طلب الخير, كما قال أبو الطيب المتنبي في شعره:
يا من ألوذ به فيما أؤملــــــــــــه ومن أعوذ به مما أحــــــــاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا.
قوله: 199- "خذ العفو" لما عدد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم: أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم، يقال: أخذت حقي عفواً: أي سهلاً، وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" والمراد بالعفو هنا ضد الجهد، وقيل المراد: خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم، وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة "وأمر بالعرف" أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر بالعرف بضمتين، وهما لغتان، والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس، ومنه قول الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
"وأعرض عن الجاهلين" أي إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا، فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة، قيل: وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء، وقيل: هي محكمة، قاله مجاهد وقتادة.
199 - قوله تعالى : " خذ العفو " ، قال عبد الله بن الزبير : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو من أخلاق الناس . وقال مجاهد : خذ العفو يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس ، وذلك مثل قبول الاعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول صلى الله عليه وسلم لجبريل " : ما هذا ؟ قال لا أدري حتى أسأله ، ثم رجع ،فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك " .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي و الضحاك و الكلبي : يعي خذ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل عن العيال ، وذلك معنى قوله : " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " ( البقرة - 219 ) ، ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات . قوله تعالى : " وأمر بالعرف " أي : بالمعروف ، وهو كل ما يعرفه الشرع . وقال عطاء : وأمر بالعرف بلا إله إلا الله . " وأعرض عن الجاهلين " ، أبي جهل وأصحابه ، نسختها آية السيف . وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه ، وذلك مثل قوله : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " ( الفرقان - 63 ) ، وذلك سلام المتاركة . قال جعفر الصادق : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد { الجرجاني} ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا الهيثم بن كليب ، ثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الله الجدلي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح " .
ثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ ثنا عماد بن محمد البغدادي ثنا أحمد بن محمد عن سعيد الحافظ ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني لتمام مكارم ا لأخلاق وتمام محاسن الأفعال " .
199. " خذ العفو " أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم ، من العفو الذي هو ضد الجهد أو " خذ العفو " عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم، وذلك قبل وجوب الزكاة ." وأمر بالعرف " المعروف المستحسن من الأفعال . " وأعرض عن الجاهلين " فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل أفعالهم .وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها.
199. Keep to forgiveness (O Muhammad), and enjoin kindness, and turn away from the ignorant.
199 - Hold to forgiveness; command what is right; but turn away from the ignorant.