[المنافقون : 7] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ
7 - (هم الذين يقولون) لأصحابهم من الأنصار (لا تنفقوا على من عند رسول الله) من المهاجرين (حتى ينفضوا) يتفرقوا عنه (ولله خزائن السماوات والأرض) بالرزق فهو الرزاق للمهاجرين وغيرهم (ولكن المنافقين لا يفقهون)
أخرج البخاري وغيره عن زيد بن أرقم قال سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني وصدقه فأصابني شيء لم يصبني قط مثله فجلست في البيت فقال عمي ما أردت إلا أن أكذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله إذا جاءك المنافقون فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها ثم قال إن الله قد صدقك له طرق كثيرة عن زيد وفي بعضها أن ذلك في غزوة تبوك وان نزول السورة ليلا
يقول تعالى ذكره " هم الذين يقولون " يعني المنافقين الذين يقولون لأصحابهم " لا تنفقوا على من عند رسول الله " من أصحابه المهاجرين " حتى ينفضوا " يقول : حتى يتفرقوا عنه .
وقوله : " ولله خزائن السماوات والأرض " يقول : ولله جميع ما في السموات والأرض من شيء وبيده مفاتيح خزائن ذلك ، لا يقدر أحد أن يعطي أحداً شيئاً إلا بمشيئته " ولكن المنافقين لا يفقهون " أن ذلك كذلك ، فلذلك يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " قال : لا تطعموا محمداً وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة ، فيتركوا نبيهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " قرأها إلى آخر الآية ، وهذا قول عبد الله بن أبي لأصحابه المنافقين لا تنفقوا على محمد وأصحابه حتى يدعوه ، فإنكم لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وأجلوا عنه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " إن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله ، فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " يعني الرفد والمعونة ، وليس يعني الزكاة المفروضة ، والذين قالوا هذا هم المنافقون .
"حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : ثنا أسد بن موسى ، قال : ثنا يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن زيد بن أرقم ، قال : لما قال ابن أبي ما قال ، أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء فحلف ، فجعل الناس يقولون لي : تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب ؟ حتى جلست في البيت مخافة إذا رأوني قالوا : هذا الذي يكذب ، حتى أنزل " هم الذين يقولون "" .
قوله تعالى: " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ".
ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال: لا تنفقوا على من عند محمد حتى ينفضوا، حتى يتفرقوا عنه. فأعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والأرض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل ؟ فقال: "ولله خزائن السماوات والأرض ". وقال الجنيد: خزائن السموات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب، فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكأن الشلبي يقول: " ولله خزائن السماوات والأرض " فأين تذهبون. " ولكن المنافقين لا يفقهون " أنه إذا أراد أمراً يسره.
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم "وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم" أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم, ولهذا قال تعالى: "ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون" ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" كما قال في سورة براءة, وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد الأحاديث المروية هنالك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان "لووا رؤوسهم" قال ابن أبي عمر: وحول سفيان وجهه على يمينه ونظر شزراً ثم قال: هو هذا. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريباً إن شاء الله تعالى, وبه الثقة وعليه التكلان. وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, يعني مرجعه من أحد, وكان عبد الله بن أبي بن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة, لا ينكر شرفاً له من نفسه ومن قومه, وكان فيهم شريفاً, إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم, أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا, ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع, يعني مرجعه بثلث الجيش ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس, أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت, فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجراً أأن قمت أشدد أمره, فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك ؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني, لكأنما قلت بجراً أأن قمت أشدد أمره. قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي, وقال قتادة والسدي: أنزلت هذه الاية في عبد الله بن أبي, وذلك أن غلاماً من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحدثه بحديث عنه وأمر شديد, فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك, وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه, وأنزل الله فيه ما تسمعون, وقيل لعدو الله: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يلوي رأسه, أي لست فاعلاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل حتى يصلي فيه, فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي بن سلول قال: ليخرجن الأعز منها الأذل, فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار, وقيل لعبد الله بن أبي: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك, فأنزل الله تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون * وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم " وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله: إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد, فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك, بل رجع بطائفة من الجيش, وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك في غزوة المريسيع, وهي غزوة بني المصطلق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق, فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري, وكان أجيراً لعمر بن الخطاب وسنان بن وبر قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا, فقال سنان: يا معشر الأنصار, وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين, وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي, فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا, والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك, والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: ما صنعتم بأنفسكم, أحللتموهم بلادكم, وقاسمتموهم أموالكم, أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها, فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو غليم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فأخبره الخبر, فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه, لا, ولكن ناد يا عمر الرحيل" فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه, وحلف بالله ما قال, ما قال عليه زيد بن أرقم, وكان عند قومه بمكان فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها, فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي ؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل" قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم قال: ارفق به يا رسول الله, فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه, فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً, فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا, وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث, فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر بن موسى, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمر بن دينار, سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار: فقال الأنصاري: ياللأنصار! وقال المهاجرين يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية ؟ دعوها فإنها منتنة".
وقال عبد الله بن أبي بن سلول: وقد فعلوها, والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, قال جابر: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم كثر المهاجرون بعد ذلك, فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي عن سفيان بن عيينة, ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الحكم, عن محمد بن كعب القرظي عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته, قال: فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك, قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا ؟ قال: فانطلقت فنمت كئيباً حزيناً, قال: فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أنزل عذرك وصدقك" قال: فنزلت هذه الاية " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ورواه البخاري عند هذه الاية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة, ثم قال: وقال ابن أبي زائدة عن الأعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضاً من حديث شعبة به.
(طريق أخرى عن زيد) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم, وقال ابن أبي بكير عن زيد بن أرقم قال: خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته, فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا, فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط, وجلست في البيت فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك! قال حتى أنزل الله "إذا جاءك المنافقون" قال: فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثم قال: "إن الله قد صدقك". ثم قال أحمد أيضاً: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا زهير, حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله, وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله, فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله, فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله تصديقي "إذا جاءك المنافقون" قال ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.
وقوله تعالى: "كأنهم خشب مسندة" قال كانوا رجالاً أجمل شيء, وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه البخاري أيضاً والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي عن زيد به.
(طريق أخرى عن زيد) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد, حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي, قال: حدثنا زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان معنا أناس من الأعراب, فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه, قال: فأتى رجل من الأنصار الأعرابي فأرخى زمام ناقته لتشرب, فأبى أن يدعه فانتزع حجراً فغاض الماء, فرفع الأعرابي خشبته فضرب بها رأس الأنصاري فشجه, فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره, وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله, يعني الأعراب, وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام, فقال عبد الله لأصحابه: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن معه, ثم قال لأصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل.
قال زيد وأنا ردف عمي, قال فسمعت عبد الله بن أبي يقول ما قال, فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد, قال فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني, قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمسلمون, قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط, قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, وقد خفقت برأسي من الهم, إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي, فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا, ثم إن أبا بكر لحقني وقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: ما قال شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي, فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر, فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. انفرد بإخراجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى به, وزاد بعد قوله سورة المنافقين " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " حتى بلغ " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " حتى بلغ " ليخرجن الأعز منها الأذل ".
وقد روى عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عروة بن الزبير في المغازي, وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضاً هذه القصة بهذا السياق, ولكن جعلا الذي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم من بني الحارث بن الخزرج, فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عزيز الأيلي, حدثني سلامة, حدثني عقيل, أخبرني محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع, وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة, فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك أحدهما من المهاجرين والاخر من بهز, وهم حلفاء الأنصار, فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي: يا معشر الأنصار, فنصره رجال من الأنصار, وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين, فنصره رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال, ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي بن سلول فقال: قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع, قد تناصرت علينا الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث الهجرة الجلابيب, فقال عبد الله بن أبي عدو الله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
قال مالك بن الدخشن وكان من المنافقين: ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه, يريد عمر عبد الله بن أبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟" قال عمر: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟" قال: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آذنوا بالرحيل" فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار, ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله ؟" قال عمر: نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه, فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبراً" وأنزل الله عز وجل " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة " الاية. وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه, وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه, فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه, فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني, إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة, واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه, فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك ويلك ؟ فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل, فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه, فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له, فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الان. وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا أبو هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل, قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي بعثك بالحق, ما تأملت وجهه قط هيبة له, ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال: 7- "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" أي حتى يتفرقوا عنه، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم. قرأ الجمهور "ينفضوا" من الانفضاض، وهو التفرق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض. ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال: "ولله خزائن السموات والأرض" أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء "ولكن المنافقين لا يفقهون" ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل وأنه الباسط القابض المعطي المانع.
ونزل:
7- "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا"، يتفرقوا، "ولله خزائن السموات والأرض"، فلا يعطي أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته، "ولكن المنافقين لا يفقهون"، أن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
7-" هم الذين يقولون " أي للأنصار . "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " يعنون فقراء المهاجرين . " ولله خزائن السموات والأرض " بيده الأرزاق والقسم . " ولكن المنافقين لا يفقهون " ذلك لجهلهم بالله .
7. They it is who say: Spend not on behalf of those (who dwell) with Allah's messenger that they may disperse (and go away from you); when Allah's are the treasures of the heavens and the earth; but the hypocrites comprehend not.
7 - They are the ones who say, Spend nothing on those who are with God's Apostle, to the end that they may disperse (and quit Medina). But to God belong the treasures of the heavens and the earth; but the Hypocrites understand not.