[الأنعام : 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
94 - ويقال لهم إذا بعثوا (ولقد جئتمونا فرادى) منفردين عن الأهل والمال والولد (كما خلقناكم أول مرة) أي حفاةً عراةً غُرْلاً (وتركتم ما خولناكم) أعطيناكم من الأموال (وراء ظهوركم) في الدنيا بغير اختياركم ويقال لهم توبيخاً (وما نرى معكم شفعاءكم) الأصنام (الذين زعمتم أنهم فيكم) أي في استحقاق عبادتكم (شركاء) لله (لقد تقطع بينكم) وصلكم ، أي تشتت جمعكم وفي قراءة بالنصب ظرف أي وصلكم بينكم (وضل) ذهب (عنكم ما كنتم تزعمون) في الدنيا في شفاعتها
قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى الآية أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال قال النضر بن الحرث سوف تشفع إلى اللات والعزي فنزلت هذه الآية ولقد جئتمونا فرداى إلى قوله شركاء
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد، يخبر عباده أنه يقول لهم عند ورودهم عليه : "لقد جئتمونا فرادى".
ويعنى بقوله : "فرادى"، وحداناً لا مال معهم ، ولا إناث ، ولا رقيق ، ولا شيء مما كان الله خولهم في الدنيا، "كما خلقناكم أول مرة"، عراة غلفاً غرلاً حفاة، كما ولدتهم أمهاتهم ، وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهون به في الدنيا.
و"فرادى"، جمع ، يقال لواحدها : فرد، كما قال نابغة بني ذبيان :
من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
وفرد و فريد ، كما يقال : وحد ووحد ووحيد في واحد الأوحادوقد يجمع الفرد الفراد كما يجمع الوحد، الوحاد، ومنه قول الشاعر:
ترى النعرات الزرق فوق لبانه فرادى بى ومثنى أصعقتها صواهله
وكان يونس الجرمي ، فيما ذكر عنه ، يقول : فراد جمع فرد، كما قيل : تؤم وتؤام للجميع ومنه : الفرادى ، والردافى و القرانى . يقال : رجل فرد و امرأة فرد ، إذا لم يكن لها أخ . وقد فرد الرجل فهو يفرد فروداً، يراد به تفرد، فهو فارد.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قال ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه : أنه سمع القرظي يقول : "قرأت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قول الله : "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"، فقالت : واسوأتاه ، إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" [عبس : 37]، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض".
وأما قوله : "وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم"، فإنه يقول : خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم .
وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم .
وكل ما ملكته غيرك وأعطيته : فقد خولته ، يقال منه : خال الرجل يخال أشد الخيال بكسر الخاء، وهو خائل ، ومنه قول أبي النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول
وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وتركتم ما خولناكم"، من المال والخدم ، "وراء ظهوركم"، في الدنيا .
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة : ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ، لقيله : إن اللات والعزى يشفعان له عند الله يوم القيامة .
وقيل : إن ذلك كان قول كافة عبدة الأوثان .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : "وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء"، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله ، وأن هذه الآلهة شركاء لله .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث : سوف تشفع لي اللات والعزى! فنزلت هذه الآية : "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"، الى قوله : "شركاء".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، مخبراً عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: "لقد تقطع بينكم"، يعني تواصلهم الذي كان بينهم في الدنيا، ذهب ذلك اليوم ، فلا تواصل بينهم ولا تواد ولا تناصر، وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون ، فاضمحل ذلك كله في الآخرة، فلا أحد منهم ينصر صاحبه ، ولا يواصله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "لقد تقطع بينكم"، البين تواصلهم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "لقد تقطع بينكم"، قال : تواصلهم في الدنيا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : "لقد تقطع بينكم"، قال : وصلكم .
وحدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "لقد تقطع بينكم"، قال : ما كان بينكم من الوصل .
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس : "لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون"، يعني الأرحام والمنازل .
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "لقد تقطع بينكم"، يقول : تقطع ما بينكم .
حدثنا أبوكريب قال ، قال أبو بكر بن عياش : "لقد تقطع بينكم"، التواصل في الدنيا.
واختلفت القرأة في قراءة قوله : "بينكم".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصباً، بمعنى : لقد تقطع ما بينكم .
وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقيين : لقد تقطع بينكم، رفعاً، بمعنى : لقد تقطع وصلكم .
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .
وذلك أن العرب قد تنصب بين في موضع الاسم . ذكر سماعاً منها: أتاني نحوك ، ودونك ، وسواءك ، نصباً في موضع الرفع . وقد ذكر عنها سماعاً الرفع في بين، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسماً، وبنشد بيت مهلهل :
كأن رماحهم أشطان بئر بعيد بين جاليها جرور
برفع بين ، إذ كانت اسماً، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصب فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسماً.
وأما قوله : "وضل عنكم ما كنتم تزعمون"، فإنه يقول : وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم ، وأنه لكم شفيع عند ربكم ، فلا يشفع لكم اليوم.
قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى" هذه عبارة عن الحشر. وفرادى في موضع نصب على الحال، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وقرأ أبو حيوة فراداً بالتنوين وهي لغة تميم، ولا يقولون في موضع الرفع فراد. وحكى أحمد بن يحيى فراد بلا تنوين، قال: مثل ثلاث ورباع وفرادى جمع فردان كسكارى جمع سكران، وكسالى جمع كسلان. وقيل: واحده فرد بجزم الراء، وفرد بكسرها، وفرد بفتحها، وفريد. والمعنى: جئتمونا واحداً واحداً، كل واحد منكم منفرداً بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج فردى مثل سكرى وكسلى بغير ألف. "كما خلقناكم أول مرة" أي منفردين كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلاً بهماً ليس معهم شيء. وقال العلماء: يحشر العبد غداً وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى قوله: غرلاً أي غير مختونين، أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان.
قوله تعالى: "وتركتم ما خولناكم" أي أعطيناكم وملكناكم. والخول: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم. "وراء ظهوركم" أي خلفكم. "وما نرى معكم شفعاءكم" أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء -يريد الأصنام -أي شركائي. وكان المشركين يقولون: الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. "لقد تقطع بينكم" قرأ نافع و الكسائي و حفص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله: "وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم". فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم، إذ تبرءوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم، فحسن إضمار الوصل بعد تقطع لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه لقد تقطع ما بينكم. وهذا لا يجوز فيه النصب، لأنك ذكرت المتقطع وهو ما. كأنه قال: لقد تقطع الوصل بينكم. وقيل: المعنى لقد تقطع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرأ الباقون بينكم بالرفع على أنه اسم غير ظرف، فأسند الفعل إليه فرفع. ويقوي جعل بين اسماً من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى: "ومن بيننا وبينك حجاب" [فصلت: 5] و "هذا فراق بيني وبينك" [الكهف: 78]. ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفاً منصوباً وهو في موضع رفع، وهو مذهب الأخفش، فالقراءتان على هذا بمعنى واحد، فاقرأ بأيهما شئت. "وضل عنكم" أي ذهب. "ما كنتم تزعمون" أي تكذبون به في الدنيا روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروي "أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" فقالت:
يا رسول الله، واسوءتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض". وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه.
يقول تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي لا أحد أظلم, ممن كذب على الله, فجعل له شركاء أو ولداً, أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله, ولهذا قال تعالى: " أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء " قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب "ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي, مما يفتريه من القول, كقوله تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا" الاية, قال الله تعالى: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت" أي في سكراته, وغمراته, وكرباته, " والملائكة باسطوا أيديهم " أي بالضرب, كقوله "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني" الاية, وقوله "يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء" الاية, وقال الضحاك وأبو صالح باسطو أيديهم أي بالعذاب, كقوله "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم" ولهذا قال " والملائكة باسطوا أيديهم " أي بالضرب لهم, حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم, ولهذا يقولون لهم "أخرجوا أنفسكم" وذلك أن الكافر إذا احتضر, بشرته الملائكة بالعذاب, والنكال, والأغلال, والسلاسل, والجحيم, والحميم, وغضب الرحمن الرحيم, فتتفرق روحه في جسده, وتعصي وتأبى الخروج, فتضربهم الملائكة, حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم, قائلين لهم "أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق" الاية, أي اليوم تهانون غاية الإهانة, كما كنتم تكذبون على الله, وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.
وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت وهي مقررة عند قوله تعالى: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثاً مطولاً جداً من طريق غريبة, عن الضحاك, عن ابن عباس مرفوعاً, فالله أعلم, وقوله "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" أي يقال لهم يوم معادهم هذا كما قال " وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " أي كما بدأناكم أعدناكم, وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه, فهذا يوم البعث, وقوله "وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم" أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها, في الدار الدنيا وراء ظهوركم, وثبت في الصحيح, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقول ابن آدم مالي مالي, وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت, أو تصدقت فأمضيت, وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ, فيقول الله عز وجل: أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان, فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئاً, وتلا هذه الاية "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم" الاية, رواه ابن أبي حاتم, وقوله "وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء" تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان, ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم, إن كان ثم معاد, فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب, وانزاح الضلال, وضل عنهم ما كانوا يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق " أين شركائي الذين كنتم تزعمون " ويقال لهم " أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون " ولهذا قال ههنا " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء " أي في العبادة لهم, فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى: "لقد تقطع بينكم" قرىء بالرفع أي شملكم, وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل، "وضل عنكم" أي ذهب عنكم "ما كنتم تزعمون" من رجاء الأصنام والأنداد, كقوله تعالى: " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار " وقال تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" وقال تعالى: "إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" وقال "وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم" الاية, وقال "ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا" إلى قوله "وضل عنهم ما كانوا يفترون" والايات في هذا كثيرة جداً .
قوله: 94- "ولقد جئتمونا فرادى". قرأ أبو حيوة فرادىً بالتنوين، وهي لغة تميم، وقرأ الباقون بألف التأنيث للجمع فلم ينصرف. وحكى ثعلب فراد بلا تنوين مثل: ثلاث ورباع، وفرادى جمع فرد كسكارى جمع سكران وكسالى جمع كسلان، والمعنى: جئتمونا منفردين واحداً واحداً كل واحد منفرد عن أهله وماله وما كان يعبده من دون الله فلم ينتفع بشيء من ذلك "كما خلقناكم أول مرة" أي على الصفة التي كنتم عليها عند خروجكم من بطون أمهاتكم، والكاف نعت مصدر محذوف: أي جئتمونا مجيئاً مثل مجيئكم عند خلقنا لكم، أو حال من ضمير فرادى: أي مشابهين ابتداء خلقنا لكم "وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم" أي أعطيناكم، والخول ما أعطاه الله للإنسان من متاع الدنيا: أي تركتم ذلك خلفكم لم تأتونا بشيء منه ولا انتفعتم به بوجه من الوجوه "وما نرى معكم شفعاءكم الذين" عبدتموهم وقلتم: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" و "زعمتم أنهم فيكم شركاء" لله يستحقون منكم العبادة كما يستحقها. قوله: "لقد تقطع بينكم". قرأ نافع والكسائي وحفص بنصب بينكم على الظرفية، وفاعل تقطع محذوف: أي تقطع الوصل بينكم أنتم وشركاؤكم كما يدل عليه "وما نرى معكم شفعاءكم". وقرأ الباقون بالرفع على إسناد القطع إلى البين: أي وقع التقطع بينكم، ويجوز أن يكون معنى قراءة النصب معنى قراءة الرفع في إسناد الفعل إلى الظرف، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفاً. وقرأ ابن مسعود: لقد تقطع ما بينكم على إسناد الفعل إلى ما: أي الذي بينكم "وضل عنكم ما كنتم تزعمون" من الشركاء والشرك، وحيل بينكم وبينهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وما قدروا الله حق قدره" قال: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير قد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء. قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله "قل" يا محمد "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" قالها مشركو قريش. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال: قال فنحاص اليهودي ما أنزل الله على محمد من شيء فنزلت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت في مالك بن الصيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً، فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فنزلت". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "تجعلونه قراطيس" قال: اليهود، وقوله: "وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم" قال: هذه للمسلمين. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وعلمتم ما لم تعلموا" قال: هم اليهود آتاهم الله علماً فلم يقتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعملوا به، فذمهم الله في علمهم ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" قال: هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: "مصدق الذي بين يديه" أي من الكتب التي قد خلت قبله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "ولتنذر أم القرى" قال: مكة ومن حولها. قال: يعني ما حولها من القرى إلى المشرق والمغرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: إنما سميت أم القرى لأن أول بيت وضع بها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: "ولتنذر أم القرى" قال: هي مكة، قال: وبلغني أن الأرض دحيت من مكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار نحوه. وأخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء" الآية، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة، فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة، ثم استأمن له. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي خلف الأعمى: أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكذلك روى ابن أبي حاتم عن السدي. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء" قال: نزلت في مسيلمة الكذاب ونحوه ممن دعا إلى مثل ما دعا إليه "ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله" قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة لما نزلت " والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا " قال: النضر وهو من بني عبد الدار: والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً قولاً كثيراً، فأنزل الله "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "غمرات الموت" قال: سكرات الموت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال في قوله: "والملائكة باسطوا أيديهم" هذا عند الموت، والبسط: الضرب "يضربون وجوههم وأدبارهم". وأخرج أبو الشيخ عنه قال: في الآية هذا ملك الموت عليه السلام. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "والملائكة باسطوا أيديهم" قال: بالعذاب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "عذاب الهون" قال: الهوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت: "ولقد جئتمونا فرادى" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "ولقد جئتمونا فرادى" الآية، قال: كيوم ولد يرد عليه كل شيء نقص منه يوم ولد. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "وتركتم ما خولناكم" قال: من المال والخدم "وراء ظهوركم" قال: في الدنيا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "لقد تقطع بينكم" قال: ما كان بينهم من الوصل. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "لقد تقطع بينكم" قال: تواصلكم في الدنيا.
94- " ولقد جئتمونا فرادى "، هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة: ولقد جئتمونا فرادى وحداناً، لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم، وفرادى جمع فردان، مثل سكران وسكارى، وكسلان وكسالى، وقرأ الأعرج فردى بغير ألف مثل سكرى، " كما خلقناكم أول مرة "، عراةً حفاةً غرلاً، " وتركتم " خلفتم " ما خولناكم "، أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم، " وراء ظهوركم "،خلف ظهوركم، في الدنيا، " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء "، وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده، " لقد تقطع بينكم "، قرأ أهل المدينة و الكسائي و حفص عن عاصم بنصب النون، أي: لقد تقطع[وصلكم]وذلك مثل قوله:" وتقطعت بهم الأسباب " (البقرة،166)، أي: الوصلات، والبين من الأضداد يكون وصلاً ويكون هجراً، "وضل عنكم ما كنتم تزعمون "
94 " ولقد جئتمونا " للحساب والجزاء " فرادى " منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم ، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى . وقرئ فراد كرجال وفراد كثلاث وفردى كسكرى . " كما خلقناكم أول مرة " بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها ، أو حال من الضمير في " فرادى " أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما ، أو صفة مصدر " جئتمونا " أي مجيئنا كما خلقناكم . " وتركتم ما خولناكم " ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة . " وراء ظهوركم " ما قدمتم منه شيئا ولم تحتملوا نقيرا : " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء " أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم " لقد تقطع بينكم " أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم ، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل . وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ، ويشهد له قراءة نافع و الكسائي و حفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به :" وضل عنكم " ضاع وبطل : " ما كنتم تزعمون " أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء .
94. Now have ye come unto Us solitary as We did create you at the first, and ye have left behind you all that We bestowed upon you, and We behold not with you those your intercessors, of whom ye claimed that they possessed a share in you. Now is the bond between you severed, and that which ye presumed hath failed you.
94 - And behold ye come to us bare and alone as we created you for the first time: ye have left behind you all (the favours) which we bestowed on you: we see not with you your intercessors whom ye thought to be partners in your affairs: so now all relations between you have been cut off, and your (pet) fancies have left you in the lurch