[الحشر : 17] فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ
17 - (فكان عاقبتهما) أي الغاوي والمغوى وقرىء بالرفع اسم كان (أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين) أي الكافرين
يقول تعالى ذكره فكان عقبى أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه فكفر بالله ، أنهما خالدان في النار ماكثان فيها أبداً " وذلك جزاء الظالمين " يقول : وذلك ثواب اليهود من النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة ، وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به أنهم في النار مخلدون .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله " خالدين فيها " فقال بعض نحويي البصرة : نصب على الحال ، وفي النار الخبر ، قال : ولو كان في الكلام لكان الرفع أجود في ( خالدين ) قال : وليس قولهم : إذا جئت مرتين فهو نصب لشيء ، إنما فيها توكيد جئت بها أو لم تجئ بها فهو سواء ، إلا أن العرب كثيراً ما تجعله حالاً إذا كان فيها للتوكيد وما أشبهه في غير مكان ، قال " إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها " وقال بعض نحويي الكوفة : في قراءة عبد الله بن مسعود : ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين في النار ) ، قال : وفي أنهما في النار خالدين فيها نصب ، قال ولا أشتهي الرفع وإن كان يجوز ، فإذا رأيت الفعل بين صفتين قد عادت إحداهما على موضع الأخرى نصبت فهذا من ذلك ، قال : ومثله في الكلام قولك : مررت برجل على نابه متحملاً به ، ومثله قول الشاعر :
والزعفران على ترائبها شرقاً به اللبات والنحر
لأن الترائب هي اللبات ها هنا ، فعادت الصفة باسمها الذي وقعت عليه ، فإذا اختلفت الصفتان جاء الرفع والنصب على حسن ، من ذلك قولك : عبد الله في الدار راغب فيك ، ألا ترى أن ( في ) التي في الدار مخالفة لفي التي تكون في الرغبة ، قال : والحجة ما يعرف به النصب من الرفع أن لا ترى الصفة الآخرة تتقدم قبل الأولى ألا ترى أنك تقول : هذا أخوك في يده درهم قابضاً عليه ، فلو قلت : هذا أخوك قابضاً عليه في يده درهم لم يجز ، ألا ترى أنك تقول : هذا رجل قائم إلى زيد في يده درهم ، فهذا يدل على أن المنصوب إذا امتنع تقديم الآخر ، ويدل على الرفع إذا سهل تقديم الآخر .

يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم فقال تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " قال الله تعالى: "والله يشهد إنهم لكاذبون" أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لأنهم قالوا لهم قولاً, ومن نيتهم أن لا يفوا لهم به, وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه, ولهذا قال تعالى: "ولئن قوتلوا لا ينصرونهم" أي لا يقاتلون معهم "ولئن نصروهم" أي قاتلوا معهم "ليولن الأدبار ثم لا ينصرون" وهذه بشارة مستقلة بنفسها, كقوله تعالى: "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله" أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" ولهذا قال تعالى "ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" ثم قال تعالى: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر" يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
ثم قال تعالى: "بأسهم بينهم شديد" أي عداوتهم فيما بينهم شديدة, كما قال تعالى: "ويذيق بعضكم بأس بعض" ولهذا قال تعالى: "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف, قال إبراهيم النخعي: يعني أهل الكتاب والمنافقين "ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" ثم قال تعالى: "كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم" قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان: يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر, وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع, وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق, وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم, ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال, تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة, مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ الكفر, فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال "إني أخاف الله رب العالمين". وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل, لا أنها المرادة وحدها بالمثل, بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها, فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول إن راهباً تعبد ستين سنة, وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها, ولها إخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها, قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده, فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت, فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها, فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك, فاسجد لي سجدة, فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين, فذلك قوله: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ".
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الاية "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" قال: كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة, وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب, قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت, فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك, فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان إخوتها في المنام, فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم, فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا, فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا: لابل قصها علينا. قال فقصها فقال الاخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك, فقال الاخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك, قالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب, فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان, فقال إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري, فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه, قال فسجد له, فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك, واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برضيضا فالله أعلم.
وهذه القصة مخالفة لقصة جريج العابد فإن جريجاً اتهمته امرأة بغي بنفسها, وادعت أن حملها منه ورفعت أمرها إلى ولي الأمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم ؟ قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا, فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو صغير جداً, ثم قال يا غلام من أبوك. قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه, فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيماً بليغاً وقالوا نعيد صومعتك من ذهب, قال لابل أعيدوها من طين كما كانت. وقوله تعالى: "فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها" أي فكان عاقبة الامر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها "وذلك جزاء الظالمين" أي جزاء كل ظالم.
17- "فكان عاقبتهما أنهما في النار" قرأ الجمهور "عاقبتهما" بالنصب على أنه حبر كان، واسمها أنهما في النار. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان، والخبر ما بعده، والمعنى فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار "خالدين فيها" قرأ الجمهور "خالدين" بالنصب على الحال، وقرأ ابن مسعود والأعمش وزيد بن علي وابن أبي عبلة خالدان على أنه خبر أن والظرف متعلق به "وذلك جزاء الظالمين" أي الخلود في النار جزاء الظالمين، ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً.
يقول الله تعالى 17- "فكان عاقبتهما"، يعني الشيطان وذلك الإنسان "أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين"، قال ابن عباس: ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير عن المدينة فدس المنافقون بهم، وقالوا: لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم، فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله، فكان عاقبة الفريقين النار.
قال ابن عباس رضي الله عنه: فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان، وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار، ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس، وكانت قصة جريج على ما:
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يارب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.
فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغية فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا.
وبينا صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها.
قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت وسرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذاك الرجل كان جباراً فقلت اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها".
17-" فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين " والمراد من الإنسان الجنس . قيل أبو جهل قال له أبليس يوم بدر . " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " وقيل راهب حمله على الفجور والارتداد وقرئ " عاقبتهما " و خالدين على أنه خبر إن و " في النار " لغو .
17. And the consequence for both will be that they are in the Fire, therein abiding. Such is the reward of evil doers.
17 - The end of both will be that they will go into the Fire, dwelling therein for ever. Such is the reward of the wrong doers.