[الرحمن : 63] فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
63 - (فبأي آلاء ربكما تكذبان)
وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " يقول : فبأي نعم ربكما التي أنعم عليكم بإثابته أهل الإحسان ما وصف من هاتين الجنتين تكذبان ؟
قوله تعالى " فبأي آلاء ربكما تكذبان "
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن, قال الله تعالى: "ومن دونهما جنتان" وقد تقدم في الحديث: جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما, فالأوليان للمقربين والأخريان لأصحاب اليمين وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين وقال ابن عباس "ومن دونهما جنتان" من دونهما في الدرج, وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل. والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: (أحدها) أنه نعت الأوليين قبل هاتين والتقدم يدل على الاعتناء ثم قال: "ومن دونهما جنتان" وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني وقال هناك "ذواتا أفنان" وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ, وقال ههنا "مدهامتان" أي سوداوان من شدة الري من الماء قال ابن عباس في قوله "مدهامتان" قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن فضيل, حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "مدهامتان" قال: خضراوان. وروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن أبي أوفى وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في إحدى الروايات وعطاء وعطية العوفي والحسن البصري, ويحيى بن رافع وسفيان الثوري نحو ذلك, وقال محمد بن كعب "مدهامتان" ممتلئتان من الخضرة, وقال قتادة: خضراوان من الري ناعمتان ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض.
وقال هناك "فيهما عينان تجريان" وقال ههنا "نضاختان" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, أي فياضتان والجري أقوى من النضخ, وقال الضحاك "نضاختان" أي ممتلئتان ولا تنقطعان وقال هناك "فيهما من كل فاكهة زوجان" وقال ههنا "فيهما فاكهة ونخل ورمان" ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة, وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم, ولهذا فسر قوله: "ونخل ورمان" من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره, وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما, قال عبد بن حميد: حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا حصين بن عمر, حدثنا مخارق عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أفي الجنة فاكهة ؟ قال: "نعم فيها فاكهة ونخل ورمان" قالوا: أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال "نعم وأضعاف" قالوا: فيقضون الحوائج ؟ قال "لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الفضل بن دكين, حدثنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة, منها مقطعاتهم ومنها حللهم وكريها ذهب أحمر وجذوعها زمرد أخضر, وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم, وحدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد هو ابن سلمة عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب".
ثم قال: "فيهن خيرات حسان" قيل المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة, وقيل: خيرات جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه, قاله الجمهور, وروي مرفوعاً عن أم سلمة, وفي الحديث الاخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء الله تعالى أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان خلقنا لأزواج كرام, ولهذا قرأ بعضهم "فيهن خيرات" بالتشديد "حسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان" ثم قال: "حور مقصورات في الخيام" وهناك قال: "فيهن قاصرات الطرف" ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت وإن كان الجميع مخدرات, قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع بن سفيان عن جابر عن القاسم بن أبي بزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة, ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهدية, لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ولا بخرات ولا ذفرات, حور عين كأنهن بيض مكنون, وقوله تعالى: "في الخيام" قال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد, حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الاخرين يطوف عليهم المؤمنون" ورواه أيضاً من حديث أبي عمران به وقال ثلاثون ميلاً, وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران به ولفظه "إن للمؤمنين في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة, طولها ستون ميلاً, للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أبي الربيع, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة, أخبرني خليد العصري عن أبي الدرداء قال: الخيمة لؤلؤة واحدة فيها سبعون باباً من در, وحدثنا أبي, حدثنا عيسى بن أبي فاطمة, حدثنا جرير عن هشام عن محمد بن المثنى عن ابن عباس في قوله تعالى, "حور مقصورات في الخيام" قال: خيام اللؤلؤ, وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب, وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا عمرو أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم, واثنتان وسبعون زوجة, وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء" ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث به. وقوله تعالى: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: "كأنهن الياقوت والمرجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان".
وقوله تعالى: "متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفرف المحابس, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم: هي المحابس, وقال العلاء بن بدر: الرفوف على السرير كهيئة المحابس المتدلي. وقال عاصم الجحدري "متكئين على رفرف خضر" يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري في رواية عنه, وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: "متكئين على رفرف خضر" قال: الرفرف رياض الجنة, وقوله تعالى: "وعبقري حسان" قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي: العبقري الزرابي, وقال سعيد بن جبير هي عتاق الزرابي يعني جيادها, وقال مجاهد: العبقري الديباج, وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: "وعبقري حسان" فقال: هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها, وعن الحسن رواية أنها المرافق, وقال زيد بن أسلم: العبقري أحمر وأصفر وأخضر, وسئل العلاء بن زيد عن العبقري فقال: البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حزرة يعقوب بن مجاهد: العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد, وقال أبو العالية: العبقري الطنافس المخملة إلى الرقة ما هي, وقال القيسي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري, وقال أبو عبيدة: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي, وقال الخليل بن أحمد: كل شيء نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقرياً, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر "فلم أر عبقرياً يفري فريه" وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق" فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " فوصف أهلها بالإحسان, وهو أعلى المراتب والنهايات كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان, فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين, ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين.
ثم قال: "تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام" أي هو أهل أن يجل فلا يعصى, وأن يكرم فيعبد, ويشكر فلا يكفر, وأن يذكر فلا ينسى, وقال ابن عباس "ذي الجلال والإكرام" ذي العظمة والكبرياء. وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عمير بن هانىء عن أبي العذراء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجلوا الله يغفر لكم" وفي الحديث الاخر "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم, وذي السلطان, وحامل القرآن غير المغالي فيه ولا الجافي عنه" وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو يوسف الحربي حدثنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا حماد, حدثنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" وكذا رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به, ثم قال غلط المؤمل فيه وهو غريب وليس بمحفوظ, وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق, حدثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن حسان المقدسي عن ربيعة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألظوا بذي الجلال والإكرام" ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك به, وقال الجوهري ألظ فلان بفلان إذا لزمه, وقول ابن مسعود ألظو بياذا الجلال والإكرام أي الزموا, يقال: الإلظاظ هو الإلحاح. (قلت) وكلاهما قريب من الاخر, والله أعلم, وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
آخر تفسير سورة الرحمن ولله الحمد والمنة.
63- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإنها كلها حق ونعم لا يمكن جحدها.
63. " فبأي آلاء ربكما تكذبان ".
63-" فبأي آلاء ربكما تكذبان " .
63. Which is it, of the favors of your Lord, that ye deny?
63 - Then which of the favours of your Lord will ye deny?