[ق : 31] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
31 - (وأزلفت الجنة) قربت (للمتقين) مكانا (غير بعيد) منهم فيرونها ويقال لهم
يعني تعالى ذكره بقوله " وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد " وأدنيت الجنة وقربت للذين اتقوا ربهم ، فخافوا عقوبته بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " وأزلفت الجنة للمتقين " يقول : وأدنيت "غير بعيد " .
قوله تعالى "وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد "أي قربت منهم وقيل : هذا قبل الدخول في الدنيا أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي وقيل بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد . (غير بعيد) أي منهم وهذا تأكيد
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت ؟ وذلك أنه تبارك وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين, فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول: هل من مزيد أي هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر في سياق الاية وعليه تدل الأحاديث. قال البخاري عند تفسير هذه الاية: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود, حدثني حرمي بن عمارة, حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع قدمه قتقول: قط قط" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك وكرمك, ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة" ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه, ورواه أبان العطار وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه.
(حديث آخر) قال البخاري: حدثنا محمد بن موسى القطان, حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي, حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه, رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان: "يقال لجهنم هل امتلأت, وتقول هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط" ورواه أبو أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين به.
(طريق أخرى) قال البخاري: وحدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام بن منبه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين, وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي , وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها, فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشىء لها خلقاً آخر".
(حديث آخر) قال مسلم في صحيحه. حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجت الجنة والنار فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون, وقالت الجنة في ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى بينهما فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها" انفرد به مسلم دون البخاري من هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا حسن وروح قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب, عن عبيد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف, وقالت الجنة أي رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء, وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد, قال ويلقى فيها وتقول هل من مزيد, ويلقى فيها وتقول هل من مزيد, حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني, وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء تعالى أن يبقى فينشىء الله سبحانه وتعالى لها خلقاً ما يشاء".
(حديث آخر) وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثني عقبة بن مكرم, حدثنا يونس, حدثنا عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت, عن زر بن حبيش, عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة, فأسجد سجدة يرضى بها عني ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني, ثم يؤذن لي في الكلام, ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم, فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود الخيل, حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال, وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وأنا على الحوض" قيل: وما الحوض يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل, وأبرد من الثلج. وأطيب ريحاً من المسك, وآنيته أكثر من عدد النجوم لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبداً ولا يصرف فيروى أبداً" وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو يحيى الحمامي عن نصر الجزار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما "يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد" قال: ما امتلأت قال تقول وهل من مكان يزاد في, وكذا رواه الحاكم بن أبان عن عكرمة "وتقول هل من مزيد" وهل في مدخل واحد قد امتلأت. قال الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهداً يقول: لا يزال يقذف فيها حتى تقول امتلأت فتقول: هل من مزيد, وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا فعند هؤلاء أن قوله تعالى: "هل امتلأت" إنما هو بعدما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذ هل بقي في مزيد يسع شيئاً ؟ قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة, والله أعلم.
وقوله تعالى: "وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد" قال قتادة وأبو مالك والسدي "وأزلفت" أدنيت وقربت من المتقين "غير بعيد" وذلك يوم القيامة, وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب "هذا ما توعدون لكل أواب" أي راجع تائب مقلع "حفيظ" أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه, وقال عبيد بن عمرو: الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله عز وجل "من خشي الرحمن بالغيب" أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عز وجل كقوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل ذكر الله تعالى خالياً, ففاضت عيناه" "وجاء بقلب منيب" أي ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه "ادخلوها" أي الجنة "بسلام" قال قتادة سلموا من عذاب الله عز وجل, وسلم عليهم ملائكة الله, وقوله سبحانه وتعالى: "ذلك يوم الخلود" أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً, ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً, وقوله جلت عظمته: " لهم ما يشاؤون فيها " أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمر بن عثمان, حدثنا بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال: من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ماذا تريدون فأمطره لكم ؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم, قال كثير: لئن أشهدني الله تعالى ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات.
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً" وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن عامر الأحول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة" ورواه الترمذي وابن ماجه عن بندار عن معاذ بن هشام به. وقال الترمذي حسن غريب وزاد: كما اشتهى, وقوله تعالى: "ولدينا مزيد" كقوله عز وجل: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عز وجل: "ولدينا مزيد" قال: يظهر لهم الرب عز وجل في كل جمعة, وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعاً فقال في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمد, حدثني موسى بن عبيدة, حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذه ؟" فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك, فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير, ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن, يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل وما يوم المزيد ؟" قال عليه السلام: إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس وادياً أفيح فيه كثب المسك, فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من ملائكته, وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين, وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون, فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب, فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم, فيقولون: ربنا نسألك رضوانك, فيقول: قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير, وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة. هكذا أورده الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الجمعة من الأم, وله طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه, وقد أورد ابن جرير هذا الحديث من رواية عثمان بن عمير عن أنس رضي الله عنه بأبسط من هذا, وذكر ههنا أثراً مطولاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفاً وفيه غرائب كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل في الجنة ليتكىء في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول, ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة, وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام فيسألها من أنت ؟ فتقول أنا من المزيد وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك, وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب" وهكذا رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به.
ثم لما فرغ من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين فقال: 31- "وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد" أي قربت الجنة للمتقين تقريباً غير بعيد أو مكان غير بعيد منهم بحيث يشاهدونها في الموقف، وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويجوز أن يكون انتصاب "غير بعيد" على الحال. وقيل المعنى: أنها زينت قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب، فصارت قريبة من قلوبهم، والأول أولى.
31. " وأزلفت الجنة "، قربت وأدنيت، " للمتقين "، الشرك، " غير بعيد "، ينظرون إليها قبل أن يدخلوها.
31-" وأزلفت الجنة للمتقين " قربت لهم ." غير بعيد " مكاناً غير بعيد ، ويجوز أن يكون حالاً وتذكيره لأنه صفة محذوف ، أوشيئاً غير بعيد أو على زنة المصدر أو لأن الجنة بمعنى البستان .
31. And the Garden is brought nigh for those who kept from evil, no longer distant.
31 - And the Garden will be brought nigh to the Righteous, no more a thing distant.