[المائدة : 61] وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ
61 - (وإذا جاؤوكم) أي منافقو اليهود (قالوا آمنا وقد دخلوا) إليكم متلبسين (بالكفر وهم قد خرجوا) من عندكم متلبسين (به) ولم يؤمنوا (والله أعلم بما كانوا يكتمونـ) ـه من النفاق
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وإذا جاءكم ، أيها المؤمنون ، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم: "آمنا"، أي صدقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه ، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم ، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويضمرونه في صدورهم ، وهم يبدون كذباً التصديق لكم بألسنتهم ، و"قد خرجوا به"، يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم ، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم ، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله ، جهلاً منهم بالله، "والله أعلم بما كانوا يكتمون"، يقول : والله أعلم بما كانوا -عند قولهم لكم بألسنتهم: (آمنا بالله وبمحمد وصدقنا بما جاء به)- يكتمون منهم ، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذا جاؤوكم قالوا آمنا" الآية، أناس من اليهود، كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به ، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفاراً، وخرجوا كفاراً.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق ، وتسر قلوبهم الكفر، فقال: "دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به".
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" [آل عمران: 72]. فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم ، رجعوا بكفرهم . وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: "وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، أي : إنه من عندهم.
قوله تعالى :" وإذا جاؤوكم قالوا آمنا" الآية هذه صفة المنافقين والمعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه بل دخلوا كافرين وخرجوا كافرين " والله أعلم بما كانوا يكتمون " أي من نفاقهم وقيل: المراد اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم المدينة واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم ، يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي .
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب: "هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل" أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة, فيكون الاستثناء منقطعاً, كما في قوله تعالى: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد", وكقوله: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله" وفي الحديث المتفق عليه "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله", وقوله "وأن أكثركم فاسقون" معطوف على "أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل" أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون, أي خارجون عن الطريق المستقيم .
ثم قال "قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله" أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله "من لعنه الله" أي أبعده من رحمته "وغضب عليه" أي غضباً لا يرضى بعده أبداً "وجعل منهم القردة والخنازير" كما تقدم بيانه في سورة البقرة, وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف, وقد قال سفيان الثوري, عن علقمة بن مرثد, عن المغيرة بن عبد الله, عن المعرور بن سويد, عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله ؟ فقال "إن الله لم يهلك قوماً, أو لم يمسخ قوماً فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً, وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر, كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات, عن محمد بن زيد, عن أبي الأعين العبدي, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود ؟ فقال "لا إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم, فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان, فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم", ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به, وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا الحسن بن محبوب, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير" هذا حديث غريب جداً .
وقوله تعالى: "وعبد الطاغوت" قرىء: وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض, والطاغوت منصوب به, أي وجعل منهم من عبد الطاغوت, وقرىء: وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت, أي خدامه وعبيده, وقرىء: وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عبد وعبيد, وعبد مثل ثمار وثمر, حكاها ابن جرير عن الأعمش, وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت, وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا, وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرؤها: وعبد الطاغوت على أنه مفعول ما لم يسم فاعله, ثم استبعد معناها, والظاهر أنه لا بعد في ذلك, لأن هذا من باب التعريض بهم, أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه, وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه, كيف يصدر منكم هذا, وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال "أولئك شر مكاناً" أي مما تظنون بنا "وأضل عن سواء السبيل" وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة, كقوله عز وجل: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ".
وقوله تعالى: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر, ولهذا قال "وقد دخلوا" أي عندك يا محمد "بالكفر" أي مستصحبين الكفر في قلوبهم, ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم, ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال "وهم قد خرجوا به" فخصهم به دون غيرهم, وقوله تعالى: "والله أعلم بما كانوا يكتمون" أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم, وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك, وتزينوا بما ليس فيهم, فإن الله عالم الغيب و الشهادة أعلم بهم منهم, وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله "وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت" أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل, "لبئس ما كانوا يعملون", أي لبئس العمل كان عملهم, وبئس الاعتداء اعتداؤهم .
وقوله تعالى: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك, والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم, والأحبار هم العلماء فقط "لبئس ما كانوا يصنعون" يعني من تركهم ذلك, قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا, قال: وذلك الأمر كان, قال: ويعملون ويصنعون واحد, رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عطية, حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب, عن خالد بن دينار, عن ابن عباس, قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها, إنا لا ننهى, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم, ذكره يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح, حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار, فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم, واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع, ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب" تفرد به أحمد من هذاالوجه, ورواه أبو داود عن مسدد, عن أبي الأحوص, عن أبي إسحاق, عن المنذر بن جرير, عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه, فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا" وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد, عن وكيع عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيد الله بن جرير, عن أبيه به, قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به .
قوله: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام. قوله: "وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به" جملتان حاليتان: أي جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، بل خرجوا كما دخلوا "والله أعلم بما كانوا يكتمون" عندك من الكفر، وفيه وعيد شديد، وهؤلاء هم المنافقون، وقيل هم اليهود الذين قالوا: "آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره".
61-" وإذا جاؤوكم قالوا "، يعني :هؤلاء المنافقين ، وقيل : هم الذين قالوا: " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره "، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : آمنا بك وصدقناك فيما قلت ، وهم يسرون الكفر، " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به "، يعني : دخلا كافرين وخرجوا كافرين ، " والله أعلم بما كانوا يكتمون ".
61" وإذا جاؤوكم قالوا آمنا " نزلت في يهود نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عامة المنافقين. " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلي دخلوا وخرجوا، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً أفادت أيضاً لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ولذلك قال: " والله أعلم بما كانوا يكتمون " أي من الكفر، وفيه وعيد لهم.
61. When they come unto you (Muslims), they say: We believe; but they came in unbelief and they went out in the same; and Allah knoweth best what they were hiding.
61 - When they come to thee, they say: we believe: but in fact they enter with a mind against faith, and they go out with the same. but God knoweth fully all that they hide.