[المائدة : 44] إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
44 - (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى) من الضلالة (ونور) بيان للأحكام (يحكم بها النبيون) من بني إسرائيل (الذين أسلموا) انقادوا الله (للذين هادوا والربانيون) العلماء منهم (والأحبار) الفقهاء (بما) أي بسبب الذي (استحفظوا) استودعوه أي استحفظهم الله إياه (من كتاب الله) أي يبدلوه (وكانوا عليه شهداء) أنه حق (فلا تخشوا الناس) أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والرجم وغيرها (واخشونِ) في كتمانه (ولا تشتروا) تستبدلوا (بآياتي ثمنا قليلا) من الدنيا تأخذونه على كتمانها (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) به
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا التوراة فيها بيان ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين ، "ونور"، يقول : فيها جلاء ما أظلم عليهم ، وضياء ما التبس من الحكم ، "يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يقول : يحكم بحكم التوراة في ذلك ، أي : فيما احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه من أمر الزانيين ، "النبيون الذين أسلموا"، وهم الذين أذعنوا لحكم الله وأقروا به.
وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم ، وفي تسويته بين دم قتلى النضير وقريظة في القصاص والدية ومن قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله ، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الزهري قال ، حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب ، "عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بعث بتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك ! قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا: يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ قالوا: يرجم ويجبه ويجلد-والتجبيه، أن يحمل الزانيان على حمار، تقابل أقفيتهما، ويطاف بهما - وسكت شاب [منهم]، فلما رآه سكت ، ألظ به النشدة، فقال : اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ قال : زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فآخر عنه الرجم . ثم زنى رجل في أسوة من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم . قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة! فأمر بهما فرجما". قال الزهري : فبلغا أن هذه الآية نزلت فيهم : "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، فكان النبي منهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : "يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء، يحكمون بما فيها من الحق.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسين في قوله : "يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، "للذين هادوا"، يعني اليهود، فاحكم بينهم ولا تخشهم.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كل زمان - على ما محمد مر بالحكم به فيها- مع النبيين الذين محمد سلموا، "الربانيون والأحبار".
والربانيون جمع رباني ، وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس ، وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم ، والأحبار، هم العلماء.
وقد بينا معنى الربانيين فيما مض بشواهد هذا ، وأقوال أهل التأويل فيه.
وأما "الأحبار"، فإنهم جمع حبر، وهو العالم المحكم للشيء ومنه قيل لكعب : كعب الأحبار.
وكان الفراء يقول : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار! ، حبر بكسر الحاء.
وكان بعض أهل التأويل يقول : عني بـ الربانيين والأحبار في هذا الموضع : ابنا صوريا اللذان أقرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى ذكره في التوراة على الزانيين المحصنين.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان رجلان من اليهود أخوان ، يقال لهم ابنا صوريا، وقد اتبعا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلما، وأعطياه عهداً أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدهما ربياً، والآخر حبراً. وإنما اتبعا النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمان منه. فدعاهما، فسألهما، فأخبراه الأمر كيف كان حين زنى الشريف وزنى المسكين ، وكيف غيروه ، فأنزل الله : "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، "والربانيون والأحبار"، هما ابنا صوريا ، للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا فقال : "والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء".
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود، والربانيون من خلقه والأحبار. وقد يجوز أن يكون عني بذلك ابنا صوريا وغيرهما، غير أنه قد دخل في ظاهر التنزيل مسلمو الأنبياء، وكل رباني وحبر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معني به خاص من الربانيين والأحبار، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها. فكل رباني وحبر داخل في الآية بظاهر التنزيل.
وبمثل الذي قلنا في تأويل الأحبار ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة، عن الضحاك: الربانيون و الأحبار ، قراؤهم وفقهاؤهم.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الحسن: "الربانيون والأحبار"، الفقهاء والعلماء.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الربانيون ، العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: الربانيون ، فقهاء اليهود، والأحبار ، علماؤهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا يزيد بن داود قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عكرمة: الربانيون والأحبار، كلهم يحكم بما فيها من الحق.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد الربانيون ، الولاة، والأحبار، العلماء .
وأما قوله : "بما استحفظوا من كتاب الله"، فإن معناه : يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والأحبار يعني العلماء- بما استودعوا علمه من ككتاب الله الذي هو التوراة.
والباء في قوله : "بما استحفظوا"، من صلة الأحبار.
وأما قوله : "وكانوا عليه شهداء"، فإنه يعني : أن الربانيين والأحبار بما استودعوا من كتاب الله ، يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسلموا للذين هادوا، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم ، كما:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "وكانوا عليه شهداء"، يعني الربانيين والأحبار، هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قال ، أنه حق جاء من عند الله ، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود. فقضى بينهم بالحق.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم: لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي ، وإمضائه عليهم على ما أمرت ، فإنهم لا يقدرون لكم على ضر ولا نفع إلا بإذني ، ولا تكتموا الرجم الذي جعلته حكماً في التوراة على الزانيين المحصنين ، ولكن اخشوني دون كل أحد من خلقي ، فإن النفع والضر بيدي ، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استحفظتم من كتابي ، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "فلا تخشوا الناس واخشون"، يقول : لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت . وأما قوله : "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا"، يقول : ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى، أيها الأحبار، عوضاً خسيساً، وذلك هو الثمن القليل وإنما أراد تعالى ذكره ، نهيهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله ، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين ، وغير ذلك من الأحكام التي بدلوها طلباً منهم للرشى، كما:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً"، قال : لا تأكلوا السحت على كتابي. وقال مرة آخرى، قال قال ابن زيد في قوله : "ولا تشتروا بآياتي ثمناً"، قال : لا تأخذوا به رشوة.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا"، ولا تأخذوا طمعاً قليلاً على أن تكتموا ما أنزلت.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكماً بين عباده ، فأخفاه وحكم بغيره ، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم ، وكتمانهم الرجم ، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقصاص ، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة، "فأولئك هم الكافرون"، يقول : هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه ، ولكن بدلوا وغيروا حكمه ، وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه ، و"هم الكافرون"، يقول : هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه ، وغطوه عن الناس ، وأظهروا لهم غيره ، وقضوا به ، لسحت أخذوه منهم عليه.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الكفر في هذا الموضع .
فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك ، من أنه عني به اليهود الذين حرفوا كتاب الله وبدلوا حكمه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45]، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة : 47]، في الكافرين كلها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن القاسم قال ، حدثنا أبو حيان ، عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، "فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45]، "فأولئك هم الفاسقون" [المائدة : 47]، ليس في أهل الإسلام منه شيء ، هي في الكفار.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي حيان ، عن الضحاك : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون"، و"الفاسقون"، قال : نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عمران بن حدير قال : أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس ، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، أحق هو؟ قال : نعم ! قالوا: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45]، أحق هو؟ قال : نعم ! قال فقالوا : يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال : هو دينهم الذي يدينون به ، وبه يقولون ، وإليه يدعون ، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً! فقالوا : لا والله ، ولكنك تفرق! قال : أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون ، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك ، أو نحوا من هذا .
حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير قال : قعد إلى أبي مجلز نفر من الإباضية، قال فقالوا له : يقول الله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "فأولئك هم الظالمون" [المائدة :45] "فأولئك هم الفاسقون" [المائدة : 47] قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعملون - يعني الأمراء - ويعلمون أنه ذنب! قال : وإنما نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، قالوا : أما والله وإنك لتعلم مثل ما نعلم ، ولكنك تخشاهم قال : أنتم أحق بذلك منا! أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ! قالوا : ولكنكم تعرفونه ، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم!
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، عن حذيفة في قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لكم كل حلوة، ولهم كل مرة!! ولتسلكن طريقهم قدى الشراك.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي حيان ، عن الضحاك : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "الظالمون" و"الفاسقون"، قال : نزلت هؤلاء الآيات في أهل ا لكتاب.
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال : قيل لحذيفة : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار، عن عبد الرحمن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري قال : سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، "فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45]، "فأولئك هم الفاسقون" ، [المائدة : 47]، قال فقيل : ذلك في بني إسرائيل؟ قال : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لهم كل مرة، ولكم كل حلوة! كلا والله ، لتسلكن طريقهم قدى الشراك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن عكرمة قال : هؤلاء الآيات في أهل الكتاب .
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون"، و"الفاسقون"، لأهل الكتاب كلهم ، لما تركوا من كتاب الله.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال : "مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود، فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد من زنى؟ قالوا : نعم ! فدعا رجلاً من علمائهم فقال : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : لا، ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حده في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع جميعاً على التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه ! فأمر به فرجم" ، فأنزل الله : "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، يعني اليهود: "فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45] يعني اليهود : "فأولئك هم الفاسقون" ، [المائدة : 47]، للكفار كلها.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : من حكم بكتابه الذي كتب بيده ، وترك كتاب الله ، وزعم أن كتابه هذا من عند الله ، فقد كفر.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث القاسم عن الحسن ، غير أن هناداً قال في حديثه : فقلنا: تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف ، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم. وسائر الحديث نحو حديث القاسم.
حدثنا الربيع قال ، حدثنا ابن وهب قال ، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال : كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فذكر رجل عنده : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، [المائدة: 45]، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة : 47]، فقال عبيد الله : أما والله إن كثيراً من الناس يتأولون هؤلاء الآيات على ما لم ينزلن عليه ، وما أنزلن إلا في حيين من يهود. ثم قال : هم قريظة والنضير، وذلك أن إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة، فديته مئة وسق . فأعطوهم فرقاً وضيماً فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك ، فذلت الطائفتان بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهما. فبينا هما على ذلك ، أصابت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فقالت العزيزة: أعطونا مئة وسق ! فقالت الذليلة : وهل كان هذا قط في حيين دينهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم ضعف دية بعض! إنما أعطيناكم هذا فرقاً منكم وضيماً، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدا صلى الله عليه وسلم . فتراضيا على أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها. فخشيت أن لا يعطيها النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابها ضعف ما تعطي أصحابها منها، فدسوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم من المنافقين ، فقالوا لهم : أخبروا لنا رأي محمد صلى الله عليه وسلم فإن أعطانا ما نريد حكمناه ، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه ! فذهب المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فاعلم الله تعالى ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ما أرادوا من ذلك الأمر كله ، قال عبيد الله : فأنزل الله تعالى ذكره فيهم : "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، هؤلاء الآيات كلهن ، حتى بلغ : "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" إلى "الفاسقون"، قرأ عبيد الله ذلك آية آية، وفسرها على ما أنزل ، حتى فرغ من تفسير ذلك لهم في الآيات . ثم قال : إنما عني بذلك يهود، وفيهم أنزلت هذه الصفة .
وقال بعضهم : في بـ الكافرين ، أهل الإسلام ، وبـ الظالمين اليهود ، وبـ الفاسقين النصارى .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا، عن عامر قال : نزلت "الكافرون"، في المسلمين ، و"الظالمون" ، في اليهود ، و"الفاسقون" ، في النصارى.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي قال : "الكافرون"، في المسلمين ، و "الظالمون"، في اليهود و "الفاسقون"، في النصارى.
حدثنا ابن وكيع وأبو السائب وواصل بن عبد الأعلى قالوا، حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال : آية فينا، وآيتان في أهل الكتاب : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فينا ، وفيهم : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، [المائدة: 45]، و"الفاسقون"، في أهل الكتاب .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر، عن عامر، مثل حديث زكريا عنه .
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : هذا في المسلمين ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، [المائدة : 45]، قال : النصارى .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي قال ، في هؤلاء الآيات التي في المائدة : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال فينا أهل الإسلام ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، [المائدة :45]، قال : في اليهود، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، [المائدة : 47]، قال في النصارى.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان، عن زكريا ابن أبي زائدة، عن الشعبي في قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : نزلت الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود، الثالثة في النصارى.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن زكريا، عن الشعبي ،بنحوه .
حدثنا هناد قال ، حدثنا يعلى، عن زكريا، عن عامر، بنحوه .
وقال آخرون : بل عني بذلك : كفر دون كفر، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة : 45]، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة : 47]، قال : كفر دون كفر، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح، بنحوه.
حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : ليس بكفر ينقل عن الملة.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن معمر بن راشد، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله .
حدثني الحسن قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال : قال رجل لابن عباس في هذه الآيات : "ومن لم يحكم بما أنزل الله"، فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس : إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال هي به كفر، قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن رجل ، عن طاوس: "فأولئك هم الكافرون"، قال : كفر لا ينقل عن الملة. قال وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب ، وهي مراد بها جميع الناس، مسلموهم وكفارهم.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ، ورضي لهذه الأمة بها.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور، عن إبراهيم: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : نزلت في بني إسرائيل ، ورضي لكم بها.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : نزلت في بني إسرائيل ، ثم رضي بها لهؤلاء.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال : نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل ، عن علقمة ومسروق : أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال : من السحت . قال فقالا: أفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر! ثم تلا هذه الآية: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : "ومن لم يحكم بما أنزل الله"، يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت ، فتركه عمداً وجار وهو يعلم ، فهو من الكافرين.
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به . فأما الظلم والفسق ، فهو للمقر به.
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم ، فهو ظالم فاسق.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب ، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت ، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم ، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله ، فكيف جعلته خاصاً؟.
قيل : إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين ، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم ، على سبيل ما تركوه ، كافرون . وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس ، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه ، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي.
قوله تعالى :" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" أي بيان وضياء وتعريف أن محمداً صلى الله عليه وسلم حق هدى في موضع رفع بالابتداء ونور عطف عليه " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" قيل: المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بلفظ الجمع وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة وأن اليهود قالت: إن الأنبياء كانوا يهوداً وقالت النصارى: كانوا نصارى فبين الله عز وجل كذبهم ومعنى "أسلموا" صدقوا بالتوراة من لدن موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي ويقال:أربعة آلفا ويقال : أكثر من ذلك كانوا يحكمون بما في التوراة وقيل:معنى أسلموا خضعوا وانقادوا لأمر الله فيما بعثوا به وقيل: أي يحكم بها النبيون الذين هم على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم والمعنى واحد ومعنى " للذين هادوا" على الذين هادوا فاللام بمعنى على وقيل: المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم فحذف عليهم و" الذين أسلموا " ههنا نعت فيه معنى المدح مثل بسم الله الرحمن الرحيم هادوا أي تابوا من الكفر ، وقيل: فيه تقديم وتأخير أي أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي ويحكم بها الربانيون وهم الذي يسوسون الناس بالعلم ويربونهم بصغاره قبل كبارة عن ابن عباس وغيره وقد تقدم في آل عمران وقال أبو رزين: الربانيون العلماء الحكماء والأحبار قال ابن عباس: هم الفقهاء. والحبر والحبر الرجل العلم وهو مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم أي يبينوه ويزينونه وهو محبر في صدورهم قال مجاهد: الربانيون فوق العلماء والألف واللام للمبالغة. قال الجوهري: والحبر والحبر واحد أحبار اليهود وبالكسر أفصح لأنه يجمع على أفعال دون الفعول قال الفراء: هو حبر بالكسر يقال ذلك للعالم وقال الثوري: سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا؟ فقال : يقال للعالم حبر وحبر فالمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال : "واسأل القرية " [ يوسف: 82] أي أهل القرية قال: فسألت الأصمعي فقال: ليس هذا بشيء إنما سمي حبراً لتأثيره .
يقال: على أسنانه حبرا أي صفرة أو سواد وقال أبو العباس : سمى الحبر الذي يكتب به حبرا لأنه يحبر به أي يحقق به وقال أبو عبيد: والذي عندي في واحد الأحبار البحر بالفتح ومعناه العلم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه وقال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر، والحبر أيضاً الأثر والجمع حبور عن يعقوب " بما استحفظوا من كتاب الله " أي استودعوا من علمه، والباء متعلقة الربانيين والأحبار كأنه قال: والعلماء بما استحفظوا أو تكون متعلقة ب يحكم أي يحكمون بما استحفظوا " وكانوا عليه شهداء " أي على الكتاب بأنه من عند الله ابن عباس: شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة " فلا تخشوا الناس" أي في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار الرجم " واخشون " أي في كتمان ذلك فالخطاب لعلماء اليهود وقد يدخل بالمعنى كل من كتم حقاً وجب عليه ولم يظهره وتقد معنى " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" مستوفى
قوله تعالى :"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" والظالمون والفاسقون نزلت كلها في الكفار ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء،وقد تقدم وعلى هذا المعظم فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل: فيه إضمار أي ومن لم يحكم بهما أنزل الله رداً للقرآن وحجداً لقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر قاله ابن عباس ومجاهد فالآية عامة على هذا قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقداً ذلك ومستحلاً له فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول ، إلا أن الشعبي قال : هي في اليهود خاصة واختاره النحاس، وقال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله " للذين هادوا" فعاد الضمير عليهم ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك، ألا ترى أن بعده
" وكتبنا عليهم " فهذا الضمير لليهود بإجماع وأيضاً فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم القصاص فإن قال قائل: من إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها قيل له : من هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة والتقدير : واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهذا من أحسن ما قيل في هذا ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل قال : نعم هي فيهم ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل وقيل: الكافرون للمسلمين والظالمون لليهود والفاسقون للنصارى وهذا اختيار أبي بكر بن العربي قال : لأنه ظاهر الآيات وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضاً قال طاوس وغيره ليس بكفر ينقل عن الملة ولكنه كفر دون كفر وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين قال القشيري:ومذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر، وعزي هذا إلى الحسن والسدي: وقال الحسن أيضاً : أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى وألا يخشوا الناس ويخشوه وألا يشتروا
بآياته ثمناً قليلاً.
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر, الخارجين عن طاعة الله ورسوله, المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" أي أظهروا الإيمان بألسنتهم, وقلوبهم خراب خاوية منه, وهؤلاء هم المنافقون "من الذين هادوا" أعداء الإسلام وأهله, وهؤلاء كلهم "سماعون للكذب" أي مستجيبون له, منفعلون عنه, "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد, وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله, ويبدلونه من بعد ماعقلوه, وهم يعلمون, "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً, وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد, فإن حكم بالدية فاقبلوه, وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه, والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم, فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة, والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين, فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه, فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله, ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك, وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك, عن نافع, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون, قال عبد الله بن سلام: كذبتم, إن فيها الرجم, فأتوا بالتوراة, فأتوا بالتوراة فنشروها, فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها, فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده, فإذا آية الرجم, فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما, فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة, أخرجاه, وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود "ما تصنعون بهما ؟" قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما, قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها, فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع, فإذا آية الرجم تلوح, قال: يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا, فأمر بهما فرجما .
وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا, فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا: نسود وجوههما ونحممهما, ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر بآية الرجم, وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم, وقرأ ما بين يديها وما وراءها, فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده فرفع يده, فإذا تحتها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما, فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني, حدثنا ابن وهب, حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف, فأتاهم في بيت المدارس, فقالوا: يا أبا القاسم, إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها, ثم قال "ائتوني بالتوراة, فأتي بها, فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها, وقال "آمنت بك وبمن أنزلك" ثم قال "ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .
وقال الزهري: سمعت رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه, ونحن عند ابن المسيب, عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث التخفيف, فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله, قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه, فقالوا: يا أبا القاسم, ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم, فقام على الباب فقال "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟" قالوا: يحمم ويجبه ويجلد, والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما, قال: وسكت شاب منهم, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت, ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة, فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فما أول ما ارتخصتم أمر الله" قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم, ثم زنى رجل في إثره من الناس فأراد رجمه, فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه, فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما, قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم, رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه, وابن جرير.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن البراء بن عازب, قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود, فدعاهم, فقال "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقالوا: نعم, فدعا رجلاً من علمائهم فقال "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى, أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقال: لا والله, ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك, نجد حد الزاني في كتابنا الرجم, ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه, وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد, فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع, فاجتمعنا على التحميم والجلد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" قال: فأمر به فرجم, قال: فأنزل الله عز وجل "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" أي يقولون: ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه, وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال في اليهود, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: في الكفار كلها, انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي, عن جابر بن عبد الله, قال: زنى رجل من أهل فدك, فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة, أن سلوا محمداً عن ذلك, فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه, وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه, فسألوه عن ذلك, فقال "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا, وآخر, فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم "أنتما أعلم من قبلكما" فقالا: قد دعانا قومنا لذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله" قالا: بلى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل, وظلل عليكم الغمام, وأنجاكم من آل فرعون, وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل, ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقال أحدهما للاخر: ما نشدت بمثله قط, ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية, والاعتناق زنية, والتقبيل زنية, فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد, كما يدخل الميل في المكحلة, فقد وجب الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو ذاك" فأمر به فرجم, فنزلت " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ". ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه .
ولفظ أبي داود عن جابر, قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا, فقال "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابني صوريا, فنشدهما "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟" قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة, رجما, قال "فما يمنعكم أن ترجموهما ؟" قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود, فجاء أربعة, فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما, ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً, ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حكم بموافقة حكم التوراة, وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته, لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة, ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك, وسؤاله إياهم عن ذلك, ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة, فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم, وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به, ولهذا قالوا "إن أوتيتم هذا" أي: الجلد والتحميم, فخذوه, أي اقبلوه, "وإن لم تؤتوه فاحذروا" أي من قبوله واتباعه .
وقال الله تعالى: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم * سماعون للكذب " أي الباطل "أكالون للسحت" أي الحرام, وهو الرشوة, كما قاله ابن مسعود وغير واحد, أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له, ثم قال لنبيه " فإن جاؤوك " أي يتحاكمون إليك "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم, لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله "وأن احكم بينهم بما أنزل الله", "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" أي بالحق والعدل, وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل "إن الله يحب المقسطين".
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة, ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً, ثم خرجوا عن حكمه, وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم, فقال "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين" ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران, فقال "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها, "والربانيون والأحبار" أي وكذلك الربانيون منهم, وهم العلماء العباد, والأحبار وهم العلماء "بما استحفظوا من كتاب الله" أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به, "وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون" أي لا تخافوا منهم وخافوا مني, "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه قولان سيأتي بيانهما .
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عبد الله بن عبد الله, عن ابن عباس, قال: إن الله أنزل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " فأولئك هم الظالمون " " فأولئك هم الفاسقون ", قال قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود, وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا, وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق, فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً, فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق, فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد, ونسبهما واحد, وبلدهما واحد, دية بعضهم نصف دية بعض, إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم, ثم ذكرت العزيزة, فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم, ولقد صدقوا, ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه, وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه, فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا, فأنزل الله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "الفاسقون" ففيهم والله أنزل, وإياهم عنى الله عز وجل, ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, حدثني داود بن الحصين عن عكرمة, عن ابن عباس: أن الايات التي في المائدة قوله " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة, وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف, تؤدى لهم الدية كاملة, وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية, فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله ذلك فيهم, فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك, فجعل الدية في ذلك سواء, والله أعلم أي ذلك كان, ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كانت قريظة والنضير, وكانت النضير أشرف من قريظة, فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قتل به, وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة, ودي بمائة وسق من تمر, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة, فقالوا: ادفعوا إليه, فقالو: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط", ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه, وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الايات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا, كما تقدمت الأحاديث بذلك, وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد, فنزلت هذه الايات في ذلك كله, والله أعلم, ولهذا قال بعد ذلك "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين" إلى آخرها, وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص, والله سبحانه وتعالى أعلم, وقوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب, زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة, وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري, عن منصور عن إبراهيم, قال نزلت هذه الايات في بني إسرائيل, ورضي الله لهذه الأمة بها, رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب, حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل, عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال: من السحت, فقالا: وفي الحكم, قال: ذاك الكفر, ثم تلا, "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقال السدي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً أو جار وهو يعلم, فهو من الكافرين, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر, ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق, رواه ابن جرير, ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب, أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب, وقال عبد الرزاق, عن الثوري, عن زكريا, عن الشعبي, : ومن لم يحكم بما أنزل الله, قال للمسلمين .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الصمد, حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر, عن الشعبي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: هذا في المسلمين "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال: هذا في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: هذا في النصارى, وكذا رواه هشيم والثوري, عن زكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله "ومن لم يحكم" الآية, قال: هي به كفر, قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله, وقال الثوري, عن ابن جريج, عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر, وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق, رواه ابن جرير, وقال وكيع, عن سعيد المكي, عن طاوس "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بكفر ينقل عن الملة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, حدثنا سفيان بن عيينة, عن هشام بن حجير, عن طاوس, عن ابن عباس في قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة, وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه .
وقوله: 44- "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه. قوله: "يحكم بها النبيون" هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و "الذين أسلموا" صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيماً. قوله: "للذين هادوا" متعلق بيحكم. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا عليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح. قوله: "بما استحفظوا من كتاب الله" الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ. قوله:
"وكانوا عليه شهداء" أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمون عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله: "فلا تخشوا الناس" لرؤساء اليهود، وكذا في قوله: "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" والاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه. قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم، وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب، وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافاً، أو استحلالاً، أو جحداً، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: "هم الكافرون".
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" قال: هم اليهود "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" قال: هم المنافقون. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال: إن الله أنزل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "الظالمون"، "الفاسقون" أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ورسول الله يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم، فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ذلك، فكانت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً وقهراً لهم، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين يختبرون لهم رأيه، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله "يا أيها الرسول لا يحزنك" إلى قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ثم قال فيهم: والله أنزلت وإياهم عنى. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال:" أول مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد وأصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا، فلم يكلمهم حتى أتى
بيت مدراسهم، فقام على الباب: فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ونجبه ويجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟، قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة، فأمر بهما فرجما". قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة، وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا. وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر: "أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة؟، قالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، قالوا صدق، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله: "ومن الذين هادوا سماعون للكذب" قال: يهود المدينة. "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" قال: يهود فدك "يحرفون الكلم" قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة "إن أوتيتم هذا" الجلد "فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" الرجم. وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عنه قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً، وذكر القصة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "أكالون للسحت" قال: أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب. وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني في الحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضاً قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقاً فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم، فقال ذلك الكفر: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام. وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال: السحت الرشوة. وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشاء في الحكم، ومهر الزانية. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه. وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها: "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله: "المقسطين" إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة، وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء. وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وعندهم التوراة فيها حكم الله" يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة، قال: "وكتبنا عليهم فيها" إلى قوله: "والجروح قصاص". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا" يعني النبي صلى الله عليه وسلم "للذين هادوا" يعني اليهود. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء. وأخرج عن مجاهد قال: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الأحبار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الربانيون العباد، والأحبار العلماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الربانيون الفقهاء العلماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء. وأخرج ابن جرير عن السدي "فلا تخشوا الناس" فتكتموا ما أنزلت "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" على أن تكتموا ما أنزلت. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً" قال: لا تأكلوا السحت على كتابي. وأخرج ابن جرير وابن المذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم" يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "هم الظالمون"، "هم الفاسقون" قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" في اليهود خاصة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة، أن هذه الآيات ذكرت عنده "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" و "الظالمون" و "الفاسقون" فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة
ولهم كل مرة كلا، والله لتسلكن طريقهم قد الشراك. وأخرج ابن المنذر نحوه عن ابن عباس.
44-قوله عز وجل : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا "، أي : أسلموا وانقادوا [ لأمر ] الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( سورة البقرة، 131 )، وكما قال : " وله أسلم من في السموات والأرض " سورة آل عمران،83، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى، " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً " ( سورة المائدة ، 48 ).
قال الحسن و السدي : أراد به محمداً صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم، ذكر بلفظ الجمع كما قال :" إن إبراهيم كان أمةً قانتاً " ( سورة النحل،120 ).
وقوله تعالى: " للذين هادوا "، فيه تقديم وتأخير، تقديره: فيها هدى ونور للذين هادو. ثم قال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون، وقيل: هو على موضعه، ومعناه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا، كما قال " و إن أسأتم فلها "( سورة الإسراء ) أي : فعليها، وقال: " أولئك لهم اللعنة "( سورة الرعد،25 ) أي: عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارً.
" الربانيون و الأحبار "، يعني العلماء، واحدهم حبر، بفتح الحاء وكسرها، الكسر أفصح، وهو العالم المحكم للشيء، قال الكسائي و أبو عبيد : هو في الحديث " يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره " ، أي حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين، فسمى العالم حبراً لما عليه من جمال العلم وبهائه، وقيل: الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود، وقيل كلاهما من اليهود.
قوله عز وجل : " بما استحفظوا من كتاب الله "أي ، استودعوا من كتاب الله ، " وكانوا عليه شهداء "، أنه كذلك.
" فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "، قال قتادة و الضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة. روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين، وقيل: هي على الناس كلهم.وقال ابن عباس و طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله به [ كافر ] وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.
قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وقال عكرمة مناه: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق.
وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم [ بجميع ] ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء: هذا إذا رد نص حكم الله عياناً عمدً ، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا.
44" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى " يهدي إلى الحق. " ونور " يكشف عما استبهم من الأحكام. " يحكم بها النبيون " يعني أنبياء بني إسرائيل، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وبهذه الآية تمسك القائل به. " الذين أسلموا " صفة أجريت على النبيين مدحاً لهم وتنويهاً بشأن المسلمين، وتعريضاً باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم. " للذين هادوا " متعلق بأنزل، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم. " والربانيون والأحبار " زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبياؤهم عطف على النبييون " بما استحفظوا من كتاب الله " بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف، والراجع إلى ما محذوف ومن النبيين. " وكانوا عليه شهداء " رقباء لا يتركون أن يغير، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا. " فلا تخشوا الناس واخشون " نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير. " ولا تشتروا بآياتي " ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها. " ثمنا قليلا " هو الرشوة والجاه " ومن لم يحكم بما أنزل الله " مستهيناً به منكراً له. " فأولئك هم الكافرون " لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره، ولذلك وصفهم بقوله " الكافرون " و " الظالمون " و " الفاسقون "، فكفرهم لإنكاره، وظلمهم بالحكم على خلافه، وفسقهم بالخروج عنه. ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالهم بخطابهم، والظالمين في اليهود، والفاسقون في النصارى.
44. Lo! We did reveal the Torah, wherein is guidance and a light, by which the Prophets who surrendered (unto Allah) judged the Jews, and the rabbis and the priests (judged) by such of Allah's Scripture as they were bidden to observe, and thereunto were they witnesses. So fear not mankind, but fear Me. And barter not My revelations for a little gain. Whoso judgeth not by that which Allah hath revealed: such are disbelievers.
44 - It was we who revealed the law (to Moses): therein was guidance and light. by its standard have been judged the Jews, by the prophets who bowed (as in Islam) to God's will, by the rabbis and the doctors of law: for to them was entrusted the protection of God's book, and they were witnesses thereto: therefore fear not men, but fear me, and sell not my signs for a miserable price. if any do fail to judge by (the light of) what God hath revealed, they are (no better than) unbelievers.