[المائدة : 41] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
41 - (يا أيها الرسول لا يحزنك) صنع (الذين يسارعون في الكفر) يقعون فيه بسرعة أي يظهرونه إذا وجدوا فرصة (من) للبيان (الذين قالوا آمنا بأفواههم) بألسنتهم متعلق بقالوا (ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون (ومن الذين هادوا) قوم (سماعون للكذب) الذي افترته أحبارهم سماع قبول (سماعون) منك (لقوم) لأجل قوم (آخرين) من اليهود (لم يأتوك) وهم أهل خيبر زنى فيهم محصنان فكرهوا رجمهما فبعثوا قريظة ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمهما (يحرفون الكلم) الذي في التوراة كآية الرجم (من بعد مواضعه) التي وضعه الله عليها أي يبدلونه (يقولون) لمن أرسلوهم (إن أوتيتم هذا) الحكم المحرف أي الجلد الذي أفتاكم به محمد (فخذوه) فاقبلوه (وإن لم تؤتوه) بل أفتاكم بخلافه (فاحذروا) أن تقبلوه (ومن يرد الله فتنته) إضلاله (فلن تملك له من الله شيئا) في دفعها (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) من الكفر ولو أراده لكان (لهم في الدنيا خزي) ذل بالفضيحة والجزية (ولهم في الآخرة عذاب عظيم)
قوله تعالى يا ايها الرسول الآية ك روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس قال أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت أحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا فاصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة أن ابعثوا الينا بمائة وسق فقالت الذليلة وهل كان ذلك في حيين قط دينهما واحد ونسبتهما واحدة وبلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض إنا أعطيناكم هذا ضيما منكم وخوفا وفرقا فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فأرسلوا إليه أناسا من المنافقين ليختبروا رأيه فأنزل الله يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية
وروى احمد ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم فقالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله

الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد االزاني في كتابكم فقال لا والله لولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله إن أوتيتم هذا فخذوه يقولون ائتوا محمدا فان أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون
ك وأخرج الحميدي في مسنده عن جابر بن عبد الله قال زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس بالمدينة أن اسألوا محمدا عن ذلك فان أمر بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فذكر نحو ما تقدم فأمر به فرجم فنزلت فان جاءوك فاحكم بينهم الآية وأخرج البيهقي في الدلائل من حديث ابي هريرة نحوه
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هو الذبح ، فلا تنزلوا على حكم سعد.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال : نزلت في رجل من الأنصار - زعموا أنه أبو لبابة - أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار، ما الأمر؟ وعلام تنزل ؟ فأشار إليهم أنه الذبح .
وقال آخرون : بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلاً من المسلمين يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكمه في قتيل قتله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر: "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، قال : كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه ، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين : سلوا لي محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن بعث بالدية اختصمنا إليه ، وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن زكريا، عن عامر، نحوه.
وقال آخرون : بل نزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتد بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد وأبو كريب قالا، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال ، حدثني الزهري قال : سمعت رجلاً من مزينة يحدث ، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدثهم : أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زني رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت ، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما، وأتوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه ، وهو الجلد بحبل من ليف مطلي بقار، ثم نسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين ، وتحول وجوههما من قبل دبر الحمار، فاتبعوه ، فإنما هو ملك . وإن هو حكم فيهما بالرجم ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه . فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت ، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس ، فقال : يا معشر اليهود، آخرجوا إلي أعلمكم ! فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور- وقد روى بعض بني قريظة، أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا، فقالوا : هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصل أمرهم ، إلى أن قالوا لابن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاماً شاباً من أحدثهم مشا، قال: به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، يقول : يا ابن صوريا، أنشدك الله وأذكرك أياديه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال : اللهم نعم ! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ، ولكنهم يحسدونك ! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ، في بني غنم بن مالك بن النجار. ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله جل وعز: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم".
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ، ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من علمائهم فقال : أهكذا تجدون حد الزاني فيكم ؟ قال : نعم ! قال : فأنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزنى فيكم ؟ قال : لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدثك ، ولكن الرجم ، ولكن كثر الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فتضع شيئاً مكان الرجم ، فيكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أول من أحيى أمرك إذ أماتوه ! فأمر به فرجم ، فأنزل الله : "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، الآية.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر، عن الزهري قال : كنت جالساً عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل يوقره ، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شهد الحديبية، وكان من أصحاب أبي هريرة قال : قال أبو هريرة: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ح ، وحدثني المغنى قال ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني رجل من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، حدث عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا النبي قد بعث ، وقد علمتم أن قد فرض عليكم الرجم في التوراة فكتمتموه ، واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه ، فانطلقوا نسأل هذا النبي ، فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم ، تركنا ذلك ، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تطاع وتصدق ! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، إنه زنى صاحب لنا قد أحصن ، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة : فلم يرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه ، فانطلق يؤم مدراس اليهود، حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس ، فقال لهم : يا معشر اليهود، أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن ؟ قالوا : إنا نجده يحمم ويجلد! وسكت حبرهم في جانب البيت ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صمته ، ألظ ينشده ، فقال حبرهم : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد عليهم الرجم ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ قال : زنى ابن عم ملك فلم يرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس ، فأراد ذلك الملك رجمه ، فقام دونه قومه فقالوا : والله لا ترجمه حتى ترجم فلاناً ابن عم الملك ! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقضي بما في التوراة! فأنزل الله في ذلك : "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
وقال آخرون : بل عني بذلك المنافقون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير في قوله : "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال : هم المنافقون .
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "آمنا بأفواههم"، قال يقول : هم المنافقون ، "سماعون لقوم آخرين"، قال : هم أيضا سماعون لليهود.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : عني بقوله : "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قوم من المنافقين . وجائز أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابن صوريا، وجائز أن يكون أبو لبابة، وجائز أن يكون غيرهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ، ما ذكرناه من الرواية قبل عن أبي هريرة والبراء بن عازب ، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك ، كان الصحيح من القول فيه أن يقال : عني به عبد الله بن صوريا.
وإذا صح ذلك ، كان تأويل الآية : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك ، والتكذيب بأنك لي نبي ، من الذين قالوا : صدقنا بك ، يا محمد، أنك لله رسول مبعوث ، وعلمنا بذلك يقيناً، بوجودنا صفتك في كتابنا.
وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري: أن ابن صوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله ، يا أبا القاسم ، إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ، ولكنهم يحسدونك . فذلك كان -على هذا الخبر- من ابن صوريا إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه ، ولم يكن مصدقاً لذلك بقلبه . فقال الله جل وعز لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مطلعه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه ، يقول : ولم يصدق قلبه بأنك لله رسول مرسل .
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها الرسول لا يحزنك تسرع من تسرع من هؤلاء المنافقين - الذين يظهرون بألسنتهم تصديقك ، وهم معتقدون تكذيبك - إلى الكفر بك ، ولا تسرع اليهود إلى جحود نبوتك. ثم وصف جل وعز له صفتهم ، ونعتهم له بنعوتهم الذميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره معزيا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه ، أنهم أهل استحلال الحرام والمآكل الرديئة والمطاعم ، الدنيئة من الرشى والسحت ، وأنهم أهل إفك وكذب على الله ، وتحريف لكتابه . ثم أعلمه أنه محل بهم خزيه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة، فقال : هم "سماعون للكذب"، يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول : هم يسمعون الكذب ، و سمعهم الكذب ، سمعهم قول أحبارهم : أن حكم الزاني المحصن في التوراة، التحميم والجلد، "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، يقول : يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا مصرين على أن يأتوه ، كما قال مجاهد:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال مجاهد: "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، مع من أتوك .
واختلف أهل التأويل في السماعين للكذب السماعين لقوم آخرين.
فقال بعضهم : "سماعون لقوم آخرين"، يهود فدك . والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهود المدينة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال ، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي ، عن جابر في قوله : "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال : يهود المدينة، "لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، قال : يهود فدك ، يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه .
وقال آخرون : المعني بذلك قوم من اليهود، كان أهل المرأة التي بغت ، بعثوا بهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها . والباعثون بهم هم القوم الآخرون ، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله : "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون"، فإن بني إسرائيل أنزل الله عليهم : إذا زنى منكم أحد فارجموه ، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم ، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه ، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضفاء، فاجتمعوا ليرجموه ، فاجتمعت الضفاء فقالوا: لا ترجموه حتى تأتوا بصاحبكم فترجمونهما جميعاً! فقالت بنو إسرائيل : إن هذا الأمر قد اشتد علينا، فتعالوا فلنصلحه ! فتركوا الرجم ، وجعلوا مكانه أربعين جلدة بحبل مقير، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه ، ويسودون وجهه ، ويطوفون به . فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها: بسرة، فبعث أبوها ناساً من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه ، فإنا نخاف أن يفضحنا ويخبرنا بما صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذوه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فقال : الرجم ! فأنزل الله عز وجل : "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلداً.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن السماعين للكذب، هم السماعون لقوم آخرين.
وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة، والمسموع لهم من يهود فدك ، ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم . غير أنه أي ذلك كان ، فهو من صفة قوم من يهود، سمعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لهم ، ليعلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم . فإن لم يكن من حكمه الرجم رضوا به حكماً فيهم. وإن كان من حكمه الرجم ، حذروه وتركوا الرضى به وبحكمه.
وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال : لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب ، هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه ، يقولون لهم الكذب : محمد كاذب ، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : يحرف هؤلاء السماعون للكذب ، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعد من اليهود، "الكلم". وكان تحريفهم ذلك ، .تغييرهم حكم الله تعالى ذكره - الذي أنزله في التوراة في المحصنات والمحصنين من الزناة بالرجم - إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره : "يحرفون الكلم"، يعني : هؤلاء اليهود، والمعني حكم الكلم ، فاكتفي بذكر الخبر من تحريف الكلم عن ذكر الحكم ، لمعرفة السامعين لمعناه . وكذلك قوله : "من بعد مواضعه"، والمعني : من بعد وضع الله ذلك مواضعه ، فاكتفي بالخبر من ذكر مواضعه ، عن ذكر وضع ذلك ، كما قال تعالى ذكره "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" [البقرة : 177]، أن والمعنى : ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.
وقد يحتمل أن يكون معناه : يحرفون الكلم عن مواضعه ، فتكون "بعد" وضعت موضع عن ، كما يقال : جئتك عن فراغي من الشغل ، يريد: بعد فراغي من الشغل.
ويعني بقوله : "إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، يقول هؤلاء الباغون السماعون للكذب : إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا، "فخذوه"، يقول : فاقبلوه منه ، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم ، فاحذروا.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال ، حدثني الزهري قال : سمعت رجلاً من مزينة يحدث سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدثهم -في قصة ذكرها- "ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، قال : أي الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الكلم عن مواضعه ، فقال : "يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، للتجبيه ، "وإن لم تؤتوه فاحذروا"، أي الرجم .
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "إن أوتيتم هذا"، إن وافقكم هذا فخذوه . يهود تقوله للمنافقين .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، "إن أوتيتم هذا فخذوه"، إن وافقكم هذا فخذوه ، وإن لم يوافقكم فاحذروه . يهود تقوله للمنافقين .
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلداً، "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال ، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي ، عن جابر: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، يهود فدك ، يقولون ليهود المدينة : إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرجم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوبة بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، "عن ابن عباس قوله : "إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، هم اليهود، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم في التوراة في الزنا بالرجم ، فنفسوا أن يرجموها، وقالوا: انطلقوا إلى محمد، فعسى أن يكون عنده رخصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتوه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إن امرأة منا زنت ، فما تقول فيها؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : كيف حكم الله في التوراة في الزاني ؟، فقالوا : دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في ذلك ؟ فقال : ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنزلت على موسى! فقال لهم : بالذي نجاكم من آل فرعون ، وبالذي فلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون ، إلا أخبرتموني ما حكم الله في التوراة في الزاني ؟! قالوا : حكمه الرجم! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت".
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، ذكر لنا أن هذا كان في قتيل من بني قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يقيدوهم ، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم . وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلاً، لم يرضوا إلا بالقود لفضلهم عليهم في أنفسهم ، تعززاً. فقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة على تفئة قتيلهم هذا، فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهم رجل من المنافقين : إن قتيلكم هذا قتيل عمد، متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القود، فإن قبل منكم الدية فخذوه ، وإلا فكونوا منه على حذر!.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، يقول : يحرف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه ، لا يضعونه على ما أنزله الله . قال : وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعض.
حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب : "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، يقولون : ائتوا محمداً، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا.
قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قص قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية . يقول له تعالى ذكره : لا يحزنك تسرعهم إلى جحود نبوتك ، فإني قد حتمت عليهم أنهم لا يتوبون من ضلالتهم ، ولا يرجعون عن كفرهم ، للسابق من غضبي عليهم . وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرعهم إلى ما جعلته سبباً لهلاكهم واستحقاقهم وعيدي .
ومعنى الفتنة في هذا الموضع : الضلالة عن قصد السبيل.
يقول تعالى ذكره : ومن يرد الله ، يا محمد، مرجعه بضلالته عن سبيل الهدى، فلن تملك له من الله استنقاذاً مما أراد الله به من الحيرة والضلالة . فلا تشعر نفسك الحزن على ما فاتك من اهتدائه للحق ، كما:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا"
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من اليهود الذين وصفت لك صفتهم . لأن مسارعتهم إلى ذلك ، أن الله قد أراد فتنتهم ، وطبع على قلوبهم ، ولا يهتدون أبداً، "أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم"، يقول : هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهر من دنس الكفر ووسخ الشرك قلوبهم ، بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان ، فيتبوبوا ، بل أراد بهم الخزي في الدنيا -وذلك الذل والهوان - وفي الآخرة عذاب جهنم خالدين فيها أبداً.
وبنحو الذي قلنا في معنى الخزي ، روي القول عن عكرمة.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن الأقمر وغيره ، عن عكرمة، "أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي"، قال : مدينة في الروم تفتح فيسبون.
فيه ثمان مسائل:
الأولى - قوله تعالى :" يا أيها الرسول لا يحزنك " الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال: قيل: نزلت في بني قريظة والنضير، قتل قرظي نضيرياً وكان بنو النضر إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم وإنما يعطوهم الدية على ما يأتي بيانه فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري، فساءهم ذلك ولم يقبلوا وقيل: إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح . وقيل: إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم وهذا أصح الأقوال ، رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود "عن جابر عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم :
ائتوني بأعلم رجلين منكم فجاؤوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما. قال: فما يمنعكما أن ترجموهما قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما ".وفي غير الصحيح عن الشعبي "عن جبار بن عبد الله قال:
زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمداً عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية والاعتناق زنية والقبلة زنية فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو ذاك " وفي صحيح مسلم "عن البراء بن عازم قال :
مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلوداً فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا: نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أو من أحيا أمرك إذا أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى :" يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله : " إن أوتيتم هذا فخذوه"" يقول : ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " في الكفار كلها، هكذا في هذه الرواية مر على النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث ابن عمر :
"أتى يهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود قال:ما تجدون في التوراة على من زنى " الحديث وفي رواية "أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا"، وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم بيننا ولا تعارض في شيء من هذا كله وهي كلها قصة واحدة وقد ساقها أبو داود من حديث "أبي هريرة سياقة حسنة فقال :
زنى رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيفات فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن فقالوا: يحمم وجهه ويجبه ويجلد والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال : وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم"، وساق الحديث إلى أن قال "قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما ".
الثانية - والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها وأن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان فهذه مسائل أربع فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام فإن كان ما رفعوه ظلماً كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ومنعهم منه بلا خلاف وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكاً رأى الإعراض عنهم أولى، فإن حكم بينهم حكم الإسلام وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم وروى عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي لقوله تعالى :" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة: 49] على ما يأتي بيانه بعد احتج مالك بقوله تعالى : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [ المائدة:42] وهي نص في التخيير، قال ابن القاسم: إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير لأن إنفاذ الحكم حق للأساقفة والمخالف يقول: لا يلتفت إلى الأساقفة قال ابن العربي: وهو الأصح، لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلاً لنفذ ولم يعتبر رضا الحاكم فالكتابيون بذلك أولى، وقال عيسى عن ابن القاسم: لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب قال ابن العربي: وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره : أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم واسم المرأة الزانية بسرة وكانوا بعثوا إلى يهودا المدينة يقولون لهم اسألوا محمداً عن هذا فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه، وإن أفتاكم به فاحذروه الحدث . قال ابن العربي: وهذا لو كان صحيحاً لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهداً وأماناً، وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم فلا حجة لرواية عيسى في هذا وعنهم أخبر الله تعالى :" سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" ولما حكموا النبي صلى الله عليهم وسلم نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع، فكل من حكم رجلاً في الدين وهي :
الثالثة- فأصله هذه الآية قال مالك: إذا حكم رجل رجلاً فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جوراً بينا، وقال سحنون: يمضيه إن رآه صوباً قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، أما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان والضابط أن كل حق اختص بها الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج الحمر، فلا بد من فاصل فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وأذن في التحكيم تخفيفاً عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة. وقال الشافعي وغيره: التحكيم جائز وإنما هو فتوى، وقال بعض العلماء: إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به ألا ترى أنه قال : ا"للهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه" وإن ذلك كان حين قدم المدينة ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به وقد يحتمل أن يكون حصول طريق العلم بذلك الوحي، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجرداً فبين له النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بمشروعية الرجم ومبدؤه ذلك الوقت فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة وبين أن ذلك حكم شريعته وأن التوراة حكم الله سبحانه، لقوله تعالى :" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" وهو من الأنبياء وقد قال عنه أبو هريرة :" فإني أحكم بما في التوراة " والله أعلم .
الرابعة - والجمهور على رد شهادة الذمي لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة فإن قيل: فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين فالجواب أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاماً للحجة عليهم وإظهاراً لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذاً لا حاكماً وهذا على التأويل الأول وعلى ما ذكر من الاحتمال فيكون نذلك خاصاً بتلك الواقعة، إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك والله أعلم .
الخامسة - قوله تعالى :" لا يحزنك " قرأ نافع بضمن الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو خزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضاً مثل أسلكه وسلكه، ومحزون بني عليه قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بها واحتزن وتحزن بمعنى والمعنى في الآية تأنيس للنبي : أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم .
السادسة - قوله تعالى :" من الذين قالوا آمنا بأفواههم " وهم المنافقون " ولم تؤمن قلوبهم " أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم " ومن الذين هادوا " يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام ثم ابتدأ فقال: "سماعون للكذب" أي هم سماعون ومثله " طوافون عليكم " [ النور: 58] وقيل الابتداء من قوله تعالى :" ومن الذين هادوا " أي ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب أي قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة وقيل: أن يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكذب عليه عند عامتهم، ويقبح صورته في أعينهم وهو معنى قوله : " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " وكان في المنافقين من يفل هذا قال الفراء: ويجوز سماعين وطوافين كما قال :" ملعونين أينما ثقفوا " [الأحزاب : 61] وكما قال:" إن المتقين في جنات ونعيم " [ الطور : 17] ثم قال : "فاكهين " [ الدخان: 27] "آخرين " [الذاريات: 16] وقال سفيان بن عيينة: إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله :" سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ولم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهم مع علمه لهم لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ولا تمكن الإسلام وسيأتي حكم الجاسوس في الممتحنة إن شاء الله تعالى .
السابعة -قوله تعالى :" يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل، وبين أحكامه فقالوا: شرعه ترك الرجم وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييراً لحكم الله عز وجل و" يحرفون " في موضع الصف لقوله : " سماعون " وليس بحال من الضمير الذي في يأتوك لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، ولذلك كان حمل المعنى على " ومن الذين هادوا " فريق " سماعون " أشبه " يقولون" في موضع الحال من المضمر في " يحرفون " " إن أوتيتم هذا فخذوه " أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد فاقبلوا وإلا فلا.
الثامنة - قوله تعالى :" ومن يرد الله فتنته " أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة " فلن تملك له من الله شيئا" أي فلن تنفعه " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر ، ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى رداً على من قال خلاف ذلك على ما تقدم ، أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثواباً لهم ، " لهم في الدنيا خزي" قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الجرم وقيل: خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل والله أعلم .
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر, الخارجين عن طاعة الله ورسوله, المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل "من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" أي أظهروا الإيمان بألسنتهم, وقلوبهم خراب خاوية منه, وهؤلاء هم المنافقون "من الذين هادوا" أعداء الإسلام وأهله, وهؤلاء كلهم "سماعون للكذب" أي مستجيبون له, منفعلون عنه, "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد, وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله, ويبدلونه من بعد ماعقلوه, وهم يعلمون, "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً, وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد, فإن حكم بالدية فاقبلوه, وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه, والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم, فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة, والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين, فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه, فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله, ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك, وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك, عن نافع, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون, قال عبد الله بن سلام: كذبتم, إن فيها الرجم, فأتوا بالتوراة, فأتوا بالتوراة فنشروها, فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها, فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده, فإذا آية الرجم, فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما, فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة, أخرجاه, وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود "ما تصنعون بهما ؟" قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما, قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها, فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع, فإذا آية الرجم تلوح, قال: يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا, فأمر بهما فرجما .
وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا, فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا: نسود وجوههما ونحممهما, ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال " فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر بآية الرجم, وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم, وقرأ ما بين يديها وما وراءها, فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده فرفع يده, فإذا تحتها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما, فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني, حدثنا ابن وهب, حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف, فأتاهم في بيت المدارس, فقالوا: يا أبا القاسم, إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها, ثم قال "ائتوني بالتوراة, فأتي بها, فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها, وقال "آمنت بك وبمن أنزلك" ثم قال "ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع .
وقال الزهري: سمعت رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه, ونحن عند ابن المسيب, عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث التخفيف, فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله, قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه, فقالوا: يا أبا القاسم, ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم, فقام على الباب فقال "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟" قالوا: يحمم ويجبه ويجلد, والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما, قال: وسكت شاب منهم, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت, ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة, فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فما أول ما ارتخصتم أمر الله" قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم, ثم زنى رجل في إثره من الناس فأراد رجمه, فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه, فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما, قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم, رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه, وابن جرير.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن البراء بن عازب, قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود, فدعاهم, فقال "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقالوا: نعم, فدعا رجلاً من علمائهم فقال "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى, أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقال: لا والله, ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك, نجد حد الزاني في كتابنا الرجم, ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه, وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد, فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع, فاجتمعنا على التحميم والجلد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" قال: فأمر به فرجم, قال: فأنزل الله عز وجل "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه" أي يقولون: ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه, وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال في اليهود, إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: في الكفار كلها, انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به .
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي, عن جابر بن عبد الله, قال: زنى رجل من أهل فدك, فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة, أن سلوا محمداً عن ذلك, فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه, وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه, فسألوه عن ذلك, فقال "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا, وآخر, فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم "أنتما أعلم من قبلكما" فقالا: قد دعانا قومنا لذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله" قالا: بلى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل, وظلل عليكم الغمام, وأنجاكم من آل فرعون, وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل, ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقال أحدهما للاخر: ما نشدت بمثله قط, ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية, والاعتناق زنية, والتقبيل زنية, فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدى ويعيد, كما يدخل الميل في المكحلة, فقد وجب الرجم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو ذاك" فأمر به فرجم, فنزلت " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ". ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه .
ولفظ أبي داود عن جابر, قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا, فقال "ائتوني بأعلم رجلين منكم" فأتوه بابني صوريا, فنشدهما "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟" قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة, رجما, قال "فما يمنعكم أن ترجموهما ؟" قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود, فجاء أربعة, فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما, ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً, ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حكم بموافقة حكم التوراة, وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته, لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة, ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك, وسؤاله إياهم عن ذلك, ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة, فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم, وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به, ولهذا قالوا "إن أوتيتم هذا" أي: الجلد والتحميم, فخذوه, أي اقبلوه, "وإن لم تؤتوه فاحذروا" أي من قبوله واتباعه .
وقال الله تعالى: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم * سماعون للكذب " أي الباطل "أكالون للسحت" أي الحرام, وهو الرشوة, كما قاله ابن مسعود وغير واحد, أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له, ثم قال لنبيه " فإن جاؤوك " أي يتحاكمون إليك "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم, لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله "وأن احكم بينهم بما أنزل الله", "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" أي بالحق والعدل, وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل "إن الله يحب المقسطين".
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة, ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم, الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً, ثم خرجوا عن حكمه, وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم, فقال "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين" ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران, فقال "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا" أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها, "والربانيون والأحبار" أي وكذلك الربانيون منهم, وهم العلماء العباد, والأحبار وهم العلماء "بما استحفظوا من كتاب الله" أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به, "وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون" أي لا تخافوا منهم وخافوا مني, "ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه قولان سيأتي بيانهما .
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عبد الله بن عبد الله, عن ابن عباس, قال: إن الله أنزل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " فأولئك هم الظالمون " " فأولئك هم الفاسقون ", قال قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود, وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا, وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق, فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً, فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق, فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد, ونسبهما واحد, وبلدهما واحد, دية بعضهم نصف دية بعض, إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم, ثم ذكرت العزيزة, فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم, ولقد صدقوا, ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه, وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه, فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا, فأنزل الله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله "الفاسقون" ففيهم والله أنزل, وإياهم عنى الله عز وجل, ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب, قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق, حدثني داود بن الحصين عن عكرمة, عن ابن عباس: أن الايات التي في المائدة قوله " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة, وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف, تؤدى لهم الدية كاملة, وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية, فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله ذلك فيهم, فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك, فجعل الدية في ذلك سواء, والله أعلم أي ذلك كان, ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كانت قريظة والنضير, وكانت النضير أشرف من قريظة, فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير قتل به, وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة, ودي بمائة وسق من تمر, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة, فقالوا: ادفعوا إليه, فقالو: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط", ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه, وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد .
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الايات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا, كما تقدمت الأحاديث بذلك, وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد, فنزلت هذه الايات في ذلك كله, والله أعلم, ولهذا قال بعد ذلك "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين" إلى آخرها, وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص, والله سبحانه وتعالى أعلم, وقوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب, زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة, وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري, عن منصور عن إبراهيم, قال نزلت هذه الايات في بني إسرائيل, ورضي الله لهذه الأمة بها, رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب, حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل, عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال: من السحت, فقالا: وفي الحكم, قال: ذاك الكفر, ثم تلا, "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقال السدي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً أو جار وهو يعلم, فهو من الكافرين, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر, ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق, رواه ابن جرير, ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب, أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب, وقال عبد الرزاق, عن الثوري, عن زكريا, عن الشعبي, : ومن لم يحكم بما أنزل الله, قال للمسلمين .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الصمد, حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر, عن الشعبي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: هذا في المسلمين "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" قال: هذا في اليهود "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" قال: هذا في النصارى, وكذا رواه هشيم والثوري, عن زكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله "ومن لم يحكم" الآية, قال: هي به كفر, قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله, وقال الثوري, عن ابن جريج, عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر, وظلم دون ظلم, وفسق دون فسق, رواه ابن جرير, وقال وكيع, عن سعيد المكي, عن طاوس "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بكفر ينقل عن الملة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري, حدثنا سفيان بن عيينة, عن هشام بن حجير, عن طاوس, عن ابن عباس في قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة, وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه .
قوله: 41- "لا يحزنك" قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين: وأحزنه غيره وحزنه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. وفي الآية النهي له صلى الله عليه وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء: الوقوع فيه بسرعة. والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ في على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، ومن في قوله: "من الذين قالوا" بيانية، والجملة مبينة للمسارعين في الكفر، والباء في "بأفواههم" متعلقة بقالوا لا بآمنا، وهؤلاء الذين قالوا آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون "ومن الذين هادوا" يعني اليهود، وهو معطوف على "من الذين قالوا آمنا" وهو تمام الكلام. والمعنى: أن المسارعين في الكفر طائفة المنافقين وطائفة اليهود.
41- قوله تعالى : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر "، أي : في مولاة الكفار فإنهم لن يعجزوا الله ، " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم "، وهم المنافقون، " ومن الذين هادوا "، يعني : اليهود ،" سماعون " ، أي : قوم سماعون، " للكذب "، كقوله المصلي: سمع الله لمن حمده، أي : قبل الله، وقيل : سماعون لأجل الكذب ، أي يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون سمعنا منه كذا ولم يسمعوا ذلك منه، " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ، أي هم جواسيس ، يعني: بني قريظة لقوم آخرين، وهم أهل خيبر.
وذلك "أن رجلاً وامرأةً من أشراف أهل خيبر زنيا وكانا محصنين، وكان حدهما الرجم في التوراة، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فقالوا :إن هذا الرجل بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فصل : ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه ، وأرسلوا معهم الزانين فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة و النضير فقالوا لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث، فينا حدث فلان وفلانة قد فجرا أحصنا، فنحب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه فيه، فقالت لهم قريظة والنضير : إذاً والله يأمركم بما تكرهون.
ثم انطلق قوم ، منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعية بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟
فقال صلى الله عليه وسلم : هل ترضون بقضائي ؟ قالوا : نعم ، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به .
فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرفون شاباً أمرد أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا ؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم ؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة .
قال : فأرسلوا اليه ، ففعلوا فأتاهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال : وأنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون ، قال : أتجعلونه بيني وبينكم ؟ قالوا : نعم .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي نزل التوراة على موسى عليه السلام و أخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، و الذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن و السلوى ، وأنزل عليكم كتابه وفيه حلاله و حرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ .
قال ابن صوريا : نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد ؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم ، فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ ، قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا ترجمه حتى يرجم فلان - لابن عم الملك - فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الوضيع و الشريف ، فوضعنا الجلد و التحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين و وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود [ لابن صوريا ] : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم : إنه قد أنشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأنزل الله عز وجل " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : [ كذبتم ] إن فيها لآية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، قالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .
وقيل : سبب نزول هذه الآية القصاص ، وذلك "أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلاً واحداً لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبد الحر منا ، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية" .
والأول أصح لأن الآية في الرجم .
قوله :" ومن الذين هادوا سماعون للكذب " ، قيل : اللام بمعنى إلى ، وقيل : هي لام كي أي : يسمعون لكي يكذبوا عليك ، واللام في قوله : " لقوم " أي : لأجل قوم " آخرين لم يأتوك " وهم أهل خيبر ، " يحرفون الكلم " ، [جمع الكلمة] ، " من بعد مواضعه " ، أي : من بعد وضعه مواضعه ، ذكر الكناية رداً على لفظ الكلم ،" يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " ، أي : [إن] أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد و التحميم فاقبلوا ، " وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته " ، كفره وضلالته ، قال الضحاك : هلاكه ، وقال قتاده : عذابه ، " فلن تملك له من الله شيئاً " ، فلن تقدر على دفع أمر الله فيه ، " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " ، وفيه رد على من ينكر القدر ، " لهم في الدنيا خزي " أي : للمنافقين و اليهود ، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم ، وخزي اليهود الجزية و القتل و السبي و النفي ، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون ، " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " ، الخلود في النار .


41" يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعاً أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة. " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والوا تحتمل الحال والعطف. " ومن الذين هادوا " عطف على " من الذين قالوا " " سماعون للكذب " خبر محذوف أي هم سماعون، والضمير للفريقين، أو للذين يسارعون ويجوز أن يمون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أي، قابلون لما تفتريه الأحبار، أو للعلة والمفعول محذوف أي: سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه. " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم، أو سماعون منك لأحلهم والإنهاء إليهم، ويجوز أ، تتلعق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي: سماعون ليكذبوا لقوم آخرين. " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، إما لفظاً: بإهماله أو تغيير وضعه، وإما معنى: بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له، أو في موضع الرفع خبراً لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به. " وإن لم تؤتوه " بل أفتاكم محمد بخلافه " فاحذروا " أي احذروا قبول ما أفتاكم به. روي "أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريضة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه، فجعل ابن صوريا حكماً بينه وبينهم، وقال له: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن، قال: نعم. فوثبوا عليه فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد". " ومن يرد الله فتنته " ضلالته أو فضيحته. " فلن تملك له من الله شيئا " فلن تستطيع له من الله شيئاً في دفعها. " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة. " لهم في الدنيا خزي " هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين. " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وهو الخلود في النار، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين.
41. O Messenger! Let not them grieve thee who vie one with another in the race to disbelief, of such as say with their mouths: "We believe," but their hearts believe not, and of the Jews: listeners for the sake of falsehood, listeners on behalf of other folk who come not unto thee, changing words from their context and saying: If this be given unto you, receive it but if this be not given unto you, then beware! He whom Allah doometh unto sin, thou (by thine efforts) wilt avail him naught against Allah. Those are they for whom the will of Allah is that He cleanse not their hearts. Theirs in the world will be ignominy, and in the Hereafter an awful doom;
41 - O apostle let not those grieve thee, who race each other into unbelief: (whether it be) among those who say we believe with their lips but whose hearts have no faith; or it be among the Jews, men who will listen to any lie, will listen even to others who have never so much as come to thee. they change the words from their (right) times and places; they say, if ye are given this, take it, but if not, beware if any one's trial is intended by God, thou hast no authority in the least for him against God. for such it is not God's will to purify their hearts. for them there is disgrace in this world, and in the hereafter a heavy punishment.