[المائدة : 32] مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَو جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
32 - (من أجل ذلك) الذي فعله قابيل (كتبنا على بني إسرائيل أنه) أي الشأن (من قتل نفسا بغير نفس) قتلها (أو) بغير (فساد) أتاه (في الأرض) من كفر أو زنا أو قطع طريق أو نحوه (فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها) بأن امتنع عن قتلها (فكأنما أحيا الناس جميعا) قال ابن عباس: مِنْ حيثُ انتهاكِ حرمتها وصونها (ولقد جاءتهم) أي بني إسرائيل (رسلنا بالبينات) المعجزات (ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : "من أجل ذلك"، من جر ذلك وجريرته وجنايته. يقول : من جر القاتل أخاه من ابني آدم - اللذين اقتصصنا قصتهما- الجريرة التي جرها، وجنايته التي جناها، "كتبنا على بني إسرائيل".
يقال منه : أجلت هذا الأمر، ، أي : جررته إليه وكسبته ، آجله له أجلاً، كقولك : أخذته أخذاً، ومن ذلك قول ذلك الشاعر:
وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله يعني بقوله : أنا آجله : أنا الجاز ذلك عليهم والجاني
فمعنى الكلام : من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلماً، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفساً ظلماً، بغير نفس قتلت ، فقتل بها قصاصاً، "أو فساد في الأرض"، يقول : أو قتل منهم نفساً بغير فساد كان منها في الأرض ، فاستحقت بذلك قتلها. و فسادها في الأرض، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله ، وإخافة السبيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل"، يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاً ظلماً.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال ، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً، ومن قتل نبياً أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعاً.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، يقول : من قتل نفسا واحدة حرمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعاً، "ومن أحياها"، يقول : من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مخافتي ، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعاً، يعني بذلك الأنبياء.
وقال آخرون : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، عند المقتول في الإثم ، "ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكة، "فكأنما أحيا الناس جميعا"، عند المستنقذ.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، عند المقتول ، يقول : في الإثم ، "ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكة، "فكأنما أحيا الناس جميعا"، عند المستنقذ.
وقال آخرون : معنى ذلك : إن قاتل النفس المحرم قتلها، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا، "ومن أحياها"، من سلم من قتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : "من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها، "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : ومن أوبقها.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : من أوبق نفساً فكما لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها وسلم من ظلمها فلم يقتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعاً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد: "فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، لم يقتلها، وقد سلم منه الناس جميعاً، لم يقتل أحداً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي قال ، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال : سألت مجاهدا - أو: سمعته يسأل - عن قوله : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : لو قتل الناس جميعاً، كان جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة، على الأعرج ، عن مجاهد في قوله : "فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً، جعل الله جزاءه جهنم وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً.يقول : لو قتل الناس جميعاً لم يزد على مثل ذلك من العذاب. قال ابن جريج ، قال مجاهد: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من لم يقتل أحداً، فقد استراح الناس منه.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد قال : أوبق نفسه.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور، عن مجاهد قال : في الإثم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، وقوله : "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" [النساء: 93]، قال : يصير إلى جهنم بقتل المؤمن ، كما أنه لو قتل الناس جميعاً لصار إلى جهنم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس : "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : هو كما قال ، وقال : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، فإحياؤها : لا يقتل نفساً حرمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني : أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعاً.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد: "ومن أحياها"، قال : ومن حرمها فلم يقتلها.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن العلاء قال : سمعت مجاهداً يقول : "من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من كف عن قتلها فقد أحياها.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : هي كالتي في النساء: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم" [النساء: 93]، في جزائه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فكأنما قتل الناس جميعا"، كالتي في سورة النساء، "ومن يقتل مؤمنا متعمدا" في جزائه، "ومن أحياها"، ولم يقتل أحداً، فقد حيي الناس منه.
حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله : "من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا.
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله ، مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : يجب عليه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعاً. قال : كان أبي يقول ذلك.
وقال آخرون معنى قوله : "ومن أحياها"، من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، يقول : من أحياها، أعطاه الله جل وعز من الأجر مثل لو أنه أحيا الناس جميعاً، "أحياها"، فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك ولن القتيل ، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال : كان أبي يقول ذلك.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن في قوله : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من عفا.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس ، عن الحسن : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من قتل حميم له فعفا عن دمه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : العفو بعد القدرة.
وقال آخرون : معنى قوله : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، ومن أنجاها من غرق أو حرق.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور، عن مجاهد : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : من غرق أو حرق أو هدم.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل عن خصيف ، عن مجاهد: "ومن أحياها"، قال : أنجاها.
وقال الضحاك بما:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر، عن الضحاك قال : "من قتل نفسا بغير نفس"، قال : من تورع أو لم يتورع.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله : "فكأنما أحيا الناس جميعا"، يقول : لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس ، فلم يستحل محرماً.
وقال قتادة والحسن في ذلك بما:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس ، عن الحسن : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض"، قال : عظم ذلك!
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس" الآية، من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته ، "فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، عظم والله أجرها، وعظم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوة إلا بالله . وإنا لا نعلمه يحل دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه ، فعليه القتل - أو زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجم - أو قتل متعمداً، فعليه القود.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال : تلا قتادة : "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال : عظم والله أجرها، وعظم والله وزرها!
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين قال ، حدثني سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس" الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد قال : سمعت خالداً أبا الفضل قال : سمعت الحسن تلا هذه الآية : "فطوعت له نفسه قتل أخيه" إلى قوله : "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، ثم قال : عظم والله في الوزر كما تسمعون ، ورغب والله في الأجر كما تسمعون ! إذا ظننت ، يا ابن آدم ، أنك لو قتلت الناس جميعاً، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار!! كذبتك والله نفسك ، وكذبك الشيطان.
حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعا"، قال : وزراً ، "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، قال: أجراً.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : تأويل ذلك : أنه من قتل نفساً مؤمنة بغير نفس قتلتها فم استحقت القود بها والقتل قصاصاً، أو بغير فساد في الأرض ، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها، فكأنما قتل الناس جميعاً فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه ، كما أوعده ذلك من فعله ربه بقوله : "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما" [النساء: 93].
وأما قوله: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"، فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرم قتل من حرم الله عز ذكره قتله على نفسه ، فلم يتقدم على قتله ، فقد أحيا الناس منه بسلامتهم منه ، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاج إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم:"ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت" [البقرة: 258]. فكان معنى الكافر في قيله : (أنا أحيي )، أنا أترك من قدرت على قتله - وفي قوله: (وأميت )، قتله من قتله . فكذلك معنى الإحياء في قوله : "ومن أحياها"، من سلم الناس من قتله إياهم ، إلا فيما أذن الله في قتله منهم، "فكأنما أحيا الناس جميعا".
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الأية، لأنه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس ، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع . فكان معلوماً بذلك أن معنى الإحياء: سلامة جميع النفوس منه ، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس - وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعتم ضرراً من فقد بعض.
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به : أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قص الله قصصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدمت ، من قوله : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" إلى هذا الموضع ، "بالبينات"، يعني : بالآيات الواضحة والحجج البينة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم ، وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم ، وأداء فرائض الله عليهم.
يقول الله عز ذكره : "ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، يعني : أن كثيرا من بني إسرائيل.
و الهاء والميم في قوله : "ثم إن كثيرا منهم"، من ذكر بني إسرائيل ، وكذلك ذلك في قوله : "ولقد جاءتهم".
"بعد ذلك"، يعني : بعد مجيء رسل الله بالبينات.
"في الأرض لمسرفون"، يعني : أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله ، ومخالفون أمر الله ونهيه ، ومحادو الله ورسله ، باتباعهم أهواءهم ، وخلافهم على أنبيائهم ، وذلك كان إسرافهم في الأرض.
قوله تعالى :" من أجل ذلك " أي من جراء ذلك القاتل وجريرته وقال الزجاج: أي من جنايته يقال: أجل الرجل على أهل شراً يأجل أجلاً إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذاً قال الخنوت:
وأهل خباء صالح كنت بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله
أي جانيه وقيل: أنا جاره عليهم وقال عدي بن زيد :
أجل إن الله قد فضلكم فوق بين أحكأ صلبا بإزار
وأصله الجر ومنه الأجل لأنه وقت يجر إليه العقد الأول ومنه الآجل نقيض العجل وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم ومنه أجل بمعنى نعم لأنه انقياد إلى ما جر إليه ومنه الإجل للقطيع من بقر الوحش لأن بعضه ينجر إلى بعض قاله الرماني وقرأ يزيد بن القعقاع أبو جعفر: " من أجل ذلك " بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة والأصل "من أجل ذلك" فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة ثم قيل : يجوز أن يكون قوله :" من أجل ذلك" متعلقاً بقوله : " من النادمين " فالوقف على قوله : من أجل ذلك يجوز أن يكون متعلقاً بما بعده وهو " كتبنا" ف من أجل : ابتداء كلام التمام " من النادمين " وعلى هذا أكثر الناس أي من سبب هذه النازلة كتبنا، وخص بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمتهم أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظوراً لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوباً وكان قبل ذلك قولاً مطلقاً فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ومعنى " بغير نفس " أي بغير أن يقتل نفساً فيستحق القتل وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال : كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس ظلماً وتعدياً " أو فساد في الأرض " أي شرك وقيل: قطع طريق .
وقرأ الحسن- أو فساداً بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عله أول الكلام تقديره أو أحدث فساداً والدليل عليه قوله: " من قتل نفسا بغير نفس " لأنه من أعظم الفساد .
وقرأ العامة - فساد بالجر على معنى أو بغير فساد " فكأنما قتل الناس جميعا" اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل جميعاً أكثر من عقاب من قتل واحداً فروي عن ابن عباس أنه قال : المعنى من قتل نبياً أو إماماً عدل فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً وعنه أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً وعنه أيضاً المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً قال: ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله ، وقاله الحسن أيضاً أي هو العفو بعد المقدرة وقيل: المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه لأنه قد وتر الجميع ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً أي يجب على الكل شكره وقل جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع وله أن يحكم بما يريد وقيل: كان هذا مختصاً ببني إسرائيل تغليظاً عليهم قال ابن عطية: وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع ومثاله رجلان حلقا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما فطعم أحدها واحدة من ثرة شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كلها فقد استويا في الحنث وقيل: المعنى أن من استحل واحداً فقد استحل الجميع لأنه أنكر الشرع وفي قوله تعالى : " ومن أحياها " تجوز فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع - إنما هو لله تعالى ، وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين " أنا أحيي وأميت " [البقرة : 258] فسمى الترك إحياء ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد وتاركون أمر الله .
يقول تعالى: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً "كتبنا على بني إسرائيل" أي شرعنا لهم وأعلمناهم "أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض, واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية, فكأنما قتل الناس جميعاً, لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس, ومن أحياها, أي حرم قتلها واعتقد ذلك, فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار, ولهذا قال "فكأنما أحيا الناس جميعاً" وقال الأعمش وغيره, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك, وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين, فقال: يا أباهريرة, أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم ؟ قلت: لا, قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور, قال: فانصرفت ولم أقاتل, وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله, فذلك الذي أحيا الناس جميعاً يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه, وهكذا قال مجاهد: ومن أحياها, أي كف عن قتلها .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً", يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله, فهو مثل من قتل الناس جميعاً, وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً, ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً, هذا قول وهو الأظهر, وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس: من قتل نبياً أو إمام عدل, فكأنما قتل الناس جميعاً, ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً, رواه بان جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً, وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم, قال ابن جريج, عن الأعرج, عن مجاهد في قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً" من قتل النفس المؤمنة متعمداً, جعل الله جزاءه جهنم, وغضب عليه ولعنه, وأعد له عذاباً عظيماً, يقول: لو قتل الناس جميعاً لم يزد على مثل ذلك العذاب, قال ابن جريج: قال مجاهد: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" قال: من لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه,
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسا فكأنما قتل الناس, يعني فقد وجب عليه القصاص, فلا فرق بين الواحد والجماعة, ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعاً, وحكى ذلك عن أبيه, رواه ابن جرير, وقال مجاهد في رواية: ومن أحياها, أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة, وقال الحسن وقتادة في قوله: "أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً", هذا تعظيم لتعاطي القتل, قال قتادة: عظيم والله وزرها, وعظيم والله أجرها: وقال ابن المبارك, عن سلام بن مسكي, عن سليمان بن على الربعي, قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل , فقال: إي والذي لا إله غيره, كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا, وقال الحسن البصري: "فكأنما قتل الناس جميعاً", قال: وزراً, "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً", قال: أجراً. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله, اجعلني على شيء أعيش به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟" قال: بل نفس أحييها. قال "عليك بنفسك" .
قوله تعالى: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات" أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة, "ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون" وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها, كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج, إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية, ثم إذا وضعت الحروب أوزارها . فدوا من أسروه وودوا من قتلوه, وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ".
وقوله "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" الآية, المحاربة هي المضادة والمخالفة, وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل, وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر, حتى قال كثير من السلف, منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض . وقد قال تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين, كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري, قالا " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " نزلت هذه الآية في المشركين, فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه, لم يكن عليه سبيل, وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل, أو أفسد في الأرض, أو حارب الله ورسوله, ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه, لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب, ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة, عن ابن عباس: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً", نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يقدر عليه, لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" الآية, قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق, فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض, فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, رواه ابن جرير .
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: نزلت في الحرورية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً" رواه ابن مردويه, والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفراً من عكل ثمانية, قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام, فاستوخموا المدينة, وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, فقال "ألا تخرجون مع راعينا في إبله, فتصيبوا من أبوالها وألبانها" فقالوا: بلى, فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا, فقتلوا الراعي, وطردوا الإبل, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم, فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم, وسمرت أعينهم, ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا, لفظ مسلم, وفي لفظ لهما: من عكل أو عرينة, وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون, فلا يسقون .
وفي لفظ لمسلم: ولم يحسمهم, وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم, وحاربوا الله ورسوله, ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب, وحميد عن أنس, فذكر نحوه وعنده فارتدوا, وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه, وقال سعيد عن قتادة: من عكل وعرينة, وراه مسلم من طريق سليمان التيمي, عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك, لأنهم سملوا أعين الرعاء, ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه, وقد وقع بالمدينة الدم وهو البرسام, ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين, فارساً فأرسلهم وبعث معم قائفاً يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه الله .
وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها, فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة, وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها, ففعلوا فصحوا, فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, وساقوا الإبل, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا, ونزلت "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية, وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه, وقال الترمذي: حسن صحيح .
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك, منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء, عن ثابت, عن أنس بن مالك, قال: ما ندمت على حديث, ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج, قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: قلت قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين, فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم, وقد اصفرت ألوانهم, وضمرت بطونهم, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها, حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم, عمدوا إلى الراعي فقتلوه, واستاقوا الإبل, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم, ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم, ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل, فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد يعني ابن مسلم, حدثني سعيد, عن قتادة, عن أنس, قال كانوا أربعة نفر من عرينة, وثلاثة نفر من عكل, فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم, وسمر أعينهم, ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة, فأنزل الله في ذلك "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج, حدثنا أبو سعيد يعني البقال, عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جهد, مصفرة ألوانهم, عظيمة بطونهم, فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها, ففعلوا فصفت ألوانهم, وخمصت بطونهم, وسمنوا, فقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم, فأتي بهم, فقتل بعضهم, وسمر أعين بعضهم, وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم, ونزلت "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية, فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة, قال أنس: فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, وأخافوا السبيل, وأصابوا الفرج الحرام, وقال حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال, عن أبي الزناد, عن عبد الله بن عبيد الله, عن عبد الله بن عمر أو عمرو ـ شك يونس ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, يعني بقصة العرنيين, ونزلت فيهم آية المحاربة, ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد, وفيه عن ابن عمر من غير شك .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف, حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن إبراهيم, عن جرير, قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين, فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحوا واشتدوا, قتلوا رعاء اللقاح, ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم, قال جرير فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم, فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, وسمل أعينهم, فجعلوا يقولون: الماء, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار حتى هلكوا, قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين, فأنزل الله هذه الآية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية, هذا حديث غريب, وفي إسناده الربذي وهو ضعيف, وفي إسناده فائدة, وهو ذكر أمير هذه السرية, وهو جرير بن عبد الله البجلي, وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارساً من الأنصار, وأما قوله: فكره الله سمل الأعين, فأنزل الله هذه الآية, فإنه منكر, وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء, فكان ما فعل بهم قصاصاً, والله أعلم .
وقال عبد الزراق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلاً, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه, فشربوا منها حتى صحوا, ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها, فطلبوا فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم, وسمر أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله", فترك النبي صلى الله عليه وسلم سمر الأعين بعد, وروي من وجه آخر عن أبي هريرة .
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني, حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار, فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه, وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها, قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة, وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يسار, فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم, ثم عدوا على يسار فذبحوه, وجعلوا الشوك في عينيه, ثم أطردوا الإبل, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلاً من المسلمين, كبيرهم كرز بن جابر الفهري, فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم, غريب جداً, وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد, وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه الله وأثابه .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: نبايعك على الإسلام, فبايعوه وهم كذبة, وليس الإسلام يريدون, ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح, فاشربوا من أبوالها وألبانها, قال: فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ, فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي, واستاقوا النعم, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس "أن يا خيل الله اركبي" قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارساً, قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم, فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم, فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم, فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية, قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم, ونفوهم من أرض المسلمين, وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم وصلب, وقطع وسمر الأعين, قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد, قال: ونهى عن المثلة, وقال "ولا تمثلوا بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك, غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم, قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم, ومنهم من عرينة, وناس من بجيلة .
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخ, أو محكم ؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية, وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله "عفا الله عنك لم أذنت لهم" ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة, وهذا القول فيه نظر, ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ, وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود, قاله محمد بن سيرين, وفيه نظر, فإن قصته متأخرة, وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها, فإنه أسلم بعد نزول المائدة, ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم, وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين, وهذا القول أيضاً فيه نظر, فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل, وفي رواية سمر أعينهم .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم, وتركه حسمهم حتى ماتوا, فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك, وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي, ولم يسمل بعدهم غيرهم قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني الأوزاعي, فأنكر أن يكون نزلت معاتبة, وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم, ورفع عنهم السمل, ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله "ويسعون في الأرض فساداً" وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل, حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله, ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة, ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول, ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات, فأما في الأمصار فلا, لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث, بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه .
وقوله تعالى " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام, وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه, وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد "فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً" وكقوله في كفارة الفدية "فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" وكقوله في كفارة اليمين " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية .
وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال, كما قال أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة, عن ابن عباس في قطاع الطريق, إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا, وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا, وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف, وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض, وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان, عن حجاج, عن عطية عن ابن عباس بنحوه, وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك, وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة, واختلفوا: هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب, أو بقتله برمح أو نحوه, أو يقتل أولاً ثم يصلب تنكيلا وتشديداً لغيره من المفسدين, وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده ؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه, وبالله الثقة وعليه التكلان .
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده فقال: حدثنا علي بن سهل, حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان, كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية, فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة, قال أنس: فارتدوا عن الإسلام, وقتلوا الراعي, واستاقوا الإبل, وأخافوا السبيل, وأصابوا الفرج الحرام, قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق مالاً وأخاف السبيل, فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته, ومن قتل فاقتله, ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه .
وأما قوله تعالى: "أو ينفوا من الأرض" قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام, رواه ابن جرير عن ابن عباس, وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي: ينفيه ـ كما قال ابن هبيرة ـ من عمله كله. وقال عطاء الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين, ولا يخرج من دار الإسلام, وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام, وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن, وهو قول أبي حنيفة وأصحابه, واختار ابن جرير أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه .
وقوله تعالى: "ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم, خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة, وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا, ولا نسرق ولا نزني, ولا نقتل أولادنا, ولا يعضه بعضنا بعضا, فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى, ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له, ومن ستره الله فأمره إلى الله: إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه, وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به, فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده, ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه, فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه, وقال الترمذي: حسن غريب. وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث, فقال: روي مرفوعاً وموقوفاً, قال ورفعه صحيح .
وقال ابن جرير في قوله: "ذلك لهم خزي في الدنيا" يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا, والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها "عذاب عظيم", يعني عذاب جهنم, وقوله تعالى: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر, وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم, فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل, وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء, وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع, وعليه عمل الصحابة, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة, عن مجالد, عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة, وكان قد أفسد في الأرض وحارب, فكلم رجالاً من قريش منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر, فكلموا علياً فيه فلم يؤمنه, فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره, ثم أتى علياً, فقال: يا أمير المؤمنين, أرأيت من حارب الله ورسوله, وسعى في الأرض فساداً, فقرأ حتى بلغ "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" قال: فكتب له أماناً, قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر, وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به, وزاد فقال حارثة بن بدر:
ألا بلغن همدان أما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإ له ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي, ومن طريق أشعث, كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة, فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك, أنا فلان بن فلان المرادي, وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا, وإني تبت من قبل أن تقدروا علي, فقال أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان, وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً, وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير, فإن يك صادقاً فسبيل من صدق, وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه, فأقام الرجل ما شاء الله, ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله, ثم قال ابن جرير: حدثني علي, حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث: وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني, وهو الأمير عندنا, أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة, فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً, وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" فوقف عليه فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه, فغمد سيفه, ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السحر, فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه, فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائباً من قبل أن تقدورا علي, فقال أبو هريرة: صدق, وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا علي جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل, فترك من ذلك كله, قال وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر, فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر, فمالت به وبهم فغرقوا جميعاً .
قوله: 32- "من أجل ذلك" أي من أجل ذلك القاتل وجريرته وبسبب معصيته، وقال الزجاج: أي من جنايته قال: يقال أجل الرجل على أهله شراً يأجل أجلا إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذاً. وقرأ أبو جعفر من أجل بكسر النون وحذف الهمزة، وهي لغة. قال في شرح الدرة: قرأ أبو جعفر منفرداً من أجل ذلك بكسر الهمزة مع نقل حركتها إلى النون قبلها، وقيل يجوز أن يكون قوله: "من أجل ذلك" متعلقاً بقوله: "من النادمين" فيكون الوقف على قوله: "من أجل ذلك" والأولى ما قدمنا، والمعنى: أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل، وعلى هذا جمهور المفسرين. وخص بني إسرائيل بالذكر لأن السياق في تعداد جناياتهم، ولأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس، ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء وقتلهم للأنبياء وتقديم الجار والمجرور على الفعل الذي هو متعلق به أعني كتبنا: يفيد القصر: أي من أجل ذلك لا من غيره، ومن لابتداء الغاية "أنه من قتل نفساً" واحدة من هذا النفوس "بغير نفس" أي بغير نفس توجب القصاص فيخرج عن هذا من قتل نفساً بنفس قصاصاً. قوله: "أو فساد في الأرض" قرأ الجمهور بالجر عطفاً على نفس. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدل عليه أول الكلام تقديره: أو أحدث فساداً في الأرض، وفي هذا ضعف. ومعنى قراءة الجمهور: أن من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. وقد تقرر أن كل حكم مشروط يتحقق أحد شيئين فنقيضه مشروط بانتفائهما معاً، وكل حكم مشروط بتحققهما معاً فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه.
وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو؟ فقيل هو الشرك، وقيل قطع الطريق. وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض، فالشرك فساد في الأرض، وقطع الطريق فساد في الأرض، وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض، وهدم البنيان وقطع الأشجار وتغوير الأنهار فساد في الأرض، فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض، وهكذا الفساد الذي سيأتي في قوله: "ويسعون في الأرض فساداً" يصدق على هذه الأنواع، وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريباً. قوله: "فكأنما قتل الناس جميعاً". اختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعاً أشد من عقاب من قتل واحداً منهم. فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً. أخرج هذا عنه ابن جرير. وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، فلو قتل الناس جميعاً لم يزد على هذا قال: ومن سلم من قتل فلم يقتل أحداً فكأنما أحيا الناس جميعاً.
وقد أخرج نحو هذا عنه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال في تفسير هذه الآية: أوبق نفسه كما لو قتل الناس جميعاً، أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وروي عن الحسن أنه قال: فكأنما قتل الناس جميعاً في الوزر، وكأنما أحيا الناس جميعاً في الأجر. وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً "ومن أحياها" أي من عفا عمن وجب قتله، حكاه عنه القرطبي. وحكي عن الحسن أنه العفو بعد المقدرة: يعني أحياها. وروي عن مجاهد أن إحياءها: إنجاؤها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة، حكاه عنه ابن جرير وابن المنذر، وقيل المعنى: أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" أي وجب على الكل شكره، وقيل المعنى: أن من استحل واحداً فقد استحل الجميع لأنه أنكر الشرع. وعلى كل حال فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة فهو مجاز، إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل. والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل تهويل أمر القتل وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرأة والجسارة وفي جانب الإحياء الترغيب إلى العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات. قوله: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات" جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل، وثم في قوله: "ثم إن كثيراً منهم" للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل: أي إن كثيراً منهم بعد ذلك الكتب "في الأرض لمسرفون" في القتل.
32-قوله عز وجل : " من أجل ذلك " ،قرأ أبو جعفر من أجل بكسر النون موصولاً وقراءة العامة بجزم النون ، أي : من جراء ذلك القاتل وجنايته، يقال : أجل يأجل أجلاً ، إذا جنى ، مثل أخذ يأخذ أخذ،" كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس " ، قتلها فيقاد منه ، " أو فساد في الأرض " يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق، أو نحو ذلك " فكأنما قتل الناس جميعاً "، اختلفوا في ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة : من قتل نبياً أو إماماً عدلاً فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن شد على عصبة بني أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً.
قال مجاهد : من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل الناس جميعاً ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً.
قال قتادة عظم الله أجرها وعظم وزرها، معناه من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً في الإثم لأنهم لا يسلمون منه ، " ومن أحياها " ،وتورع عن قتلها، " فكأنما أحيا الناس جميعاً " [ في الثواب لسلامتهم منه.قال الحسن : فكأنما قتل الناس جميعاً ] يعني: أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها: أي عفي عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعاً ، قال سليمان بن علي قلت ل الحسن : يا أبا سعيد : هي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال: إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ".
32" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " بسببه قضينا عليهم، وأجل في الأصل مصدر أجل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم، من جراك فعلت، أي من جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك. " أنه من قتل نفسا بغير نفس " أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. " أو فساد في الأرض " أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق. " فكأنما قتل الناس جميعا " من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث أ، قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها. " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال ذلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيداً للأمر وتجديداً للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر.
32. For that cause We decreed for the Children of Israel that whosoever killeth a human being for other than man slaughter or corruption in the earth, it shall be as if be had killed all mankind, and whoso saveth the life of one, it shall be as if he had: saved the life of all mankind. Our messengers came unto them of old with clear proofs (of Allah's sovereignty) , but afterwards lo! many of them became prodigals in the earth.
32 - On that account: we ordained for the children of Israel that if any one slew a person unless it be for murder or for spreading mischief in the land it would be as if he slew the whole people: and if any one saved a life, it would be as if he saved the life of the whole people then although there came to them our apostles with clear signs, yet, even after that, many of then continued to commit excesses in the land.