[المائدة : 20] وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ
20 - (و) اذكر (إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم) أي منكم (أنبياء وجعلكم ملوكا) أصحاب خدم وحشم (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك
قال أبو جعفر: وهذا أيضاً من الله تعريف لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قديم تمادي هؤلاء اليهود في الغي، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع أياديه وآلائه عليهم ، مسلياً بذلك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عما يحل به من علاجهم ، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله . يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله، والبعد من الحق، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم -وتعز بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم- واذكر إذ قال موسى لهم: "يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم"، يقول: اذكروا أيادي الله عندكم، وآلاءه قبلكم، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: "اذكروا نعمة الله عليكم"، قال : أيادي الله عندكم وأيامه.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله: "اذكروا نعمة الله عليكم"، يقول : عافية الله عز وجل.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من النعم شيئاً، بل عم ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت العافية أحد معاني النعم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : أن موسى ذكر قومه من بني إسرائيل بأيام الله عندهم، وبآلائه قبلهم، محرضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، فقال لهم : اذكروا نعمة الله عليكم أن فضلكم ، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه ، ويخبرونكم بأنباء الغيب، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا.
فقيل: إن الأنبياء الذين ذكرهم موسى أنهم جعلوا فيهم: هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا" [الأعراف: 153].
"وجعلكم ملوكا"، سخر لكم من غيركم خدماً يخدمونكم.
وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحد سواهم يخدمه أحد من بني آدم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا"، قال: كنا نحدث أنهم أول من سخر لهم الخدم من بني آدم وملكوا.
وقال آخرون: كل من ملك بيتاً وخادماً وامرأةً، فهو ملك، كائناً من كان من الناس.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا أبو هاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال : إن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك.
حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: "وجعلكم ملوكا"، فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له بيت وخادم فهو ملك".
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية: "وجعلكم ملوكا"، فقال: وهل الملك إلا مركب وخادم ودار؟.
فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك ، لأنهم كانوا يملكون الدور والخدم، ولهم نساء وأزواج.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا، حدثنا جرير، عن منصور -قال: أراه عن الحكم-: "وجعلكم ملوكا"، قال : كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيت وامرأة وخادم، عد ملكاً.
حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع، عن سفيان ، ح، وحدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن منصور، عن الحكم: "وجعلكم ملوكا"، قال: الدار والمرأة، والخادم ، قال سفيان: أو، اثنتين من الثلاثة.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله: "وجعلكم ملوكا"، قال : البيت والخادم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في قوله : "وجعلكم ملوكا"، قال: الزوجة والخادم والبيت.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وجعلكم ملوكا"، قال: جعل لكم أزواجاً وخدماً وبيوتاً.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال ، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قول الله: "وجعلكم ملوكا"، قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكاً.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وجعلكم ملوكا"، قال: ملكهم الخدم ، قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم.
حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد: "وجعلكم ملوكا"، قال : جعل لكم أزواجاً وخدماً وبيوتاً.
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: "وجعلكم ملوكا"، أنهم يملكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وجعلكم ملوكا"، يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله.
قال أبو جعفر: اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب.
فقال بعضهم: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، قالا: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: عني به قوم موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هم قوم موسى.
حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، قال: هم بين ظهرانيه يومئذ.
ثم اختلفوا في الذي آتاهم الله ما لم يؤت أحداً من العالمين.
فقال بعضهم: هو المن والسلوى والحجر والغمام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، قال: المن والسلوى والحجر والغمام.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، يعني : أهل ذلك الزمان ، المن والسلوى والحجر والغمام.
وقال آخرون: هو الدار والخادم والزوجة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا بشر بن السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة.
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، المن والسلوى والحجر والغمام.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، في سياق قوله: "اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوف عليه.
ولا دلالة في الكلام تدل على أن قوله: "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، مصروف عن خطاب الذين ابتدئ بخطابهم في أول الآية . فإذ كان ذلك كذلك ، فأن يكون خطاباً لهم ، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم.
فإن ظن ظان أن قوله : "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، لا يجوز أن يكون لهم خطاباً، إذ كانت أمة محمد قد أوتيت من كرامة الله جل وعز بنبيها عليه السلام محمد، ما لم يؤت أحد غيرهم، -وهم من العالمين- فقد ظن غير الصواب. وذلك أن قوله : "وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذ، وعنى بذلك عالمي زمانه، لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نعم الله وكرامته ، ما أوتي قومه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين. فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك ، لا على جميع عالم كل زمان.
قوله تعالى :" وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم "
تبين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام هو تسليه له أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى ، وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ " يا قوم اذكروا " بضم الميم وذلك ما أشبهه وتقديره يا أيها القوم " إذ جعل فيكم أنبياء " لم ينصرف لأنه فيه ألف التأنيث " وجعلكم ملوكا" أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين فأنقذكم منه بالغرق فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسن وغيرهما قال السدي: ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله وقال قتادة: إنما قال : " وجعلكم ملوكا" لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضاً مذ تناسلوا وكثروا وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط. وقيل: جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن روي معناه عن جماعة من أهل العلم، قال ابن عباس: إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك وعن الحسن أيضاً وزيد بن أسلم: أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك وهو قول عبد الله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحلبي قال سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم: قال : ألك منزل تسكنه ؟ قال :نعم. قال: فأنت من الأغنياء . قال : فإن لي خادماً قال : فأنت من الملوك، قال ابن العربي: وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك داراً وخادماً باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق وقال ابن عباس ومجاهد: جعلهم ملوكاً بالمن والسلوى والحجر والغمام أي هم مخدومون كالملوك وعن ابن عباس أيضاً :يعني الخادم والمنزل وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيينة وزادوا الزوجة وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
من كان له بيت - أو قال منزل - تأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك " ذكره النحاس ويقال : من استغنى عن غيره فهو ملك وهذا كما "قال صلى الله عليه وسلم :
من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" .
قوله تعالى :" وآتاكم " أي أعطاكم " ما لم يؤت أحدا من العالمين " والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين وهو وجه الكلام مجاهد: والراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام وقيل: كثرة الأنبياء فيهم والآيات التي جاءتهم وقيل: قلوبا سلمة من الغل والغش وقيل: إحلال الغنائم والانتفاع بها .
قلت: وهذا القول مردود فإن الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة على ما ثبت في الصحيح وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهذه المقالة من موسى توطئه لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه ومعنى" من العالمين " أي عالمي زمانكم عن الحسن وقال ابن جبير وأبو مالك: الخطاب لأمه محمد صلى الله عليه وسلم وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين .
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور, وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله, بغياً عليه وحسداً له, فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل, ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة, وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين, فقال تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق", أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم, وهما هابيل وقابيل, فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف .
وقوله "بالحق" أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب, ولا وهم ولا تبديل, ولا زيادة ولا نقصان, كقوله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق". وقوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقال "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق", وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف, أن الله تعالى: شرع لادم عليه السلام, أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال, ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى, فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر, وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة, فأراد أن يستأثر بها على أخيه, فأبى آدم ذلك, إلا أن يقربا قرباناً, فمن تقبل منه فهي له, فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل, فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه .
ذكر أقوال المفسرين ههنا
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك, وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية, فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر, ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر, حتى ولد له ابنان يقال لهما: هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع, وكان هابيل صاحب ضرع, وكان قابيل أكبرهما, وكان له أخت أحسن من أخت هابيل, وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل, فأبى عليه, وقال هي أختي ولدت معي, وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها, فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى, وأنهما قربا قرباناً إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية, وكان آدم عليه السلام قد غاب عنهما, أتى مكة ينظر إليها, قال الله عز وجل: هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض ؟ قال: اللهم لا . قال: إن لي بيتاً في مكة, فأته, فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت, وقال للأرض فأبت, وقال للجبال فأبت, فقال لقابيل, فقال: نعم, تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك, فلما انطلق آدم قربا قرباناً, وكان قابيل يفخر عليه, فقال: أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي, فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة, ففركها وأكلها فنزلت النار, فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي, فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير, فحدثني عن ابن عباس, قال: نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها, وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة, فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة, فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي, فقال لا , أنا أحق بأختي, فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع, فقتله, إسناد جيد, وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس وقوله "إذ قربا قرباناً" فقربا قربانهما, فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض, وصاحب الحرث بصبرة من طعامه, فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفاً, وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام, إسناد جيد,
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو, قال: إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم, وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً, وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه, وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان, غير طيبة بها نفسه, وإن الله عز وجل, تقبل قربان صاحب الغنم , ولم يتقبل قربان صاحب الحرث, وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه, قال: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه, وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان, كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه, فأحبه حتى كان يؤثره بالليل, وكان يحمله على ظهره من حبه, حتى لم يكن له مال أحب إليه منه, فلما أمر بالقربان قربه لله عز وجل فقبله الله منه, فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام, رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الأنصاري, حدثنا القاسم بن عبد الرحمن, حدثنا محمد بن علي بن الحسين, قال: قال آدم عليه السلام لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان, فقربا قرباناً حتى تقر عيني, إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله, وكان قابيل صاحب زرع, فقرب مشاقة من زرعه, فانطلق آدم معهما, ومعهما قربانهما, فصعدا الجبل, فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان, فبعث الله ناراً حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق, فاحتمل قربان هابيل, وترك قربان قابيل, فانصرفوا, وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه, فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك, فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني, فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك, دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك, وكان يتوعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه, فقال آدم: يا قابيل, أين أخوك ؟ قال: وبعثتني له راعيا لا أدري, فقال آدم: ويلك يا قابيل, انطلق فاطلب أخاك, فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله, وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب, فقال: يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك, فقال هابيل: قربت أطيب مالي, وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين, فلما قالها غضب قابيل, فرفع الحديدة وضربه بها, فقال: ويلك يا قابيل, أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله, فطرحه في حوبة من الأرض, وحثى عليه شيئاً من التراب .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل, وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل, فسلم لذلك هابيل ورضي, وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن أخت هابيل, ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنة, وهما من ولادة الأرض, وأنا أحق بأختي, ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس, فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه, قال له أبوه: يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها, وكان قابيل على بذر الأرض, وكان هابيل على رعاية الماشية, فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه, وبعضهم يقول: قرب بقرة, فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله, رواه ابن جرير .
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان, إذ قالا لو قربنا قرباناً, وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله أرسل إليه ناراً فتأكله, وإن لم يكن رضيه الله خبت النار, فقربا قرباناً, وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً, وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها, وقرب الآخر بعض زرعه, فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع, وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي, فلا والله لا ينظر الناس إلي وأنت خير مني فقال: لأقتلنك, فقال له أخوه: ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن "إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه, ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته, حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب, والله أعلم, ولم يتقبل من قابيل, كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً, ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه, وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيداً, والله أعلم .
ومعنى قوله "إنما يتقبل الله من المتقين" أي ممن اتقى الله في فعله ذلك, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زيد, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري, قال: سمعت أبا الدرداء يقول: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول "إنما يتقبل الله من المتقين". وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم, عن ميمون بن أبي حمزة, قال: كنت جالساً عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون ؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون ؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة .
وقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه, حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة "إني أخاف الله رب العالمين" أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب, قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع, ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس, عن بكير بن عبد الله, عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي" قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني فقال "كن كابن آدم" وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال: هذا حديث حسن, وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلاً, قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي, قلت: وقد رواه أبو داود من طريقه فقال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي, حدثنا الفضل عن عياش بن عباس, عن بكير عن بشر بن سعيد, عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت: يارسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن كابن آدم" وتلا " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ".
قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " لعثمان بن عفان رضي الله عنه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حزم, حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حماراً أردفني خلفه وقال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع ؟" قال: قال الله ورسوله أعلم, قال "تعفف" قال "يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع ؟" قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "اصبر" قال "يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً, يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع ؟" قال: الله ورسوله أعلم, قال "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك" قال: فإن لم أترك, قال "فأت من أنت منهم فكن منهم" قال: فآخذ سلاحي, قال "فإذاً تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك", ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي, من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به, ورواه أبو داود وابن ماجه من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران, عن المشعث بن طريف, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر بنحوه, قال أبو داود: ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد, وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن منصور, عن ربعي, قال: كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلاً يقول: سمعت هذا يقول في ناس, مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها, بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم" .
وقوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك, قاله ابن جرير. وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي, وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطاً لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه, يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي " قال: بقتلك إياي "وإثمك" قال: بما كان منك قبل ذلك, وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله, وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً .
(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول, ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له "ما ترك القاتل على المقتول من ذنب" وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, حدثنا يعقوب بن عبد الله, حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" وهذا بهذا لا يصح, ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا, ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب, فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات, فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه, أخذ من سيئات المقتول, فطرحت على القاتل, فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل, وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها, والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى "وإثمك" فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذاً بها القاتل, وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله, هذا لفظه, ثم أورد على هذا سؤالاً حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم, وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله, بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه, قلت: وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ, وزجراً له لو انزجر, ولهذا قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي تتحمل إثمي وإثمك "فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين" وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر .
وقوله تعالى: "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله, أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر, وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده, وقال السدي, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس, وعن مرة بن عبد الله, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فطوعت له نفسه قتل أخيه, فطلبه ليقتله, فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال, فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم, فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء, رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه, فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر, ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر, ففعل بأخيه مثل ذلك, رواه ابن أبي حاتم, وقال عبد الله بن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله, فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله ؟ قال: نعم. قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه, قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه, ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل, فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل ؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك, قالت: ذلك الموت. قال: فهو الموت, فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح, فقال: مالك ؟ فلم تكلمه, فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله, فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك, وأنا وبني منها برآء, رواه ابن أبي حاتم .
وقوله "فأصبح من الخاسرين" أي في الدنيا والآخرة, وأي خسارة أعظم من هذه ؟ وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه كان أول من سن القتل" وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار, عليه في الصيف حظيرة من نار, وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلاً لابن آدم الذي قتل أخاه, ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر, وذلك أنه أول من سن القتل, وقال إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه, ورواه ابن جرير أيضاً .
وقوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات الغلام تركه بالعراء, ولا يعلم كيف يدفن, فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا, فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له ثم حثى عليه, فلما رآه قال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء غراب إلى غراب ميت, فحثى عليه من التراب حتى واراه, فقال الذي قتل أخاه " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي ". وقال الضحاك, عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين, فرآهما يبحثان, فقال "أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" فدفن أخاه, وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتاً لا يدري ما يصنع به, يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب, فقال " يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال عطية العوفي: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح, وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله, رواه ابن جرير .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: لما قتله سقط في يده, أي ولم يدر كيف يواريه, وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم, وأول ميت " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي فأصبح من النادمين ". قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل, قال له الله عز وجل: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً, فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن, أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك, فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض .
وقوله "فأصبح من النادمين" قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران, فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة, وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه, كما هو ظاهر القرآن, وكما نطق به الحديث في قوله "إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل" وهذا ظاهر جلي, ولكن قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو, عن الحسن هو البصري, قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق" من بني إسرائيل, ولم يكونا ابني آدم لصلبه, وإنما كان القربان من بني إسرائيل, وكان آدم أول من مات, وهذا غريب جداً, وفي إسناده نظر, وقد قال عبد الرزاق, عن معمر عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلاً, فخذوا بالخير منهما" ورواه ابن المبارك, عن عاصم الأحول, عن الحسن, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً, فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم", وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني, روى ذلك كله ابن جرير. وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك, ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك, أي أضحكك, رواه ابن جرير, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم, عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة, كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة, وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا, فإنا لله وإنا إليه راجعون .
هذه الآيات متضمنة للبيان من الله سبحانه بأن أسلاف اليهود الموجودين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم تمردوا على موسى وعصوه كما تمرد هؤلاء على نبينا صلى الله عليه وسلم وعصوه، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم، وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ: 20- "يا قوم اذكروا" بضم الميم وكذا قرأ فيما أشبهه، وتقديره: يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء: أي وقت هذا الجعل، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بطريق الأولى، وامتن عليهم سبحانه بجعل الأنبياء فيهم مع كونه قد جعل أنبياء من غيرهم، لكثرة من بعثه من الأنبياء منهم، قوله: "وجعلكم ملوكاً" أي وجعل منكم ملوكاً، وإنما حذف حرف الجر لظهور أن معنى الكلام على تقديره، ويمكن أن يقال: إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه: "إذ جعل فيكم أنبياء" ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به كما تقول قرابة الملك نحن الملوك، قال فيه: "وجعلكم ملوكاً" وقيل المراد بالملك: أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعاً ملوك بهذا المعنى: وقيل معناه: أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن، وقيل غير ذلك. والظاهر أن المراد من الآية الملك الحقيقي، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى. فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكاً كما جعلهم. قلت: قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان. قوله: "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثرة الأنبياء وكثرة الملوك وغير ذلك. والمراد عالمي زمانهم. وقيل إن الخطاب هاهنا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عدول عن الظاهر غير موجب، والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيداً لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة.
20-قوله عز وجل : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء " [أي: منكم أنبياء] " وجعلكم ملوكاً "، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أصحاب خدم وحشم، قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم. وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً ".
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم . قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: بعم ، قال فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك.
قال السدي : وجعلكم ملوكاً أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، قال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك " وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين "، يعني عالمي زمانكم، قال مجاهد : يعني المن والسلوى والحجر وتظليل الغمام.
20" وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء " فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. " وجعلكم ملوكا " أي وجعل منكم أو فيكم، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى، وقيل لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكاً. " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله، وقيل المراد بالعالمين عالمي زمانهم.
20. And (remember) when Moses said unto his people: O my people ! Remember Allah's favor unto you, how He placed among you Prophets, and He made you Kings, and gave you that (which) He gave not to any (other) of (His) creatures.
20 - Remember Moses said to his people: O my people call in remembrance the favour of God unto you, when he produced prophets among you, made you kings, and gave you what he had not given to any other among the peoples.