[المائدة : 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ
12 - (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) بما يذكر بعد (وبعثنا) فيه التفات عن الغيبة أقمنا (منهم اثني عشر نقيباً) من كل سبط نقيب يكون كفيلا على قومه بالوفاء بالعهد توثقة عليهم (وقال) لهم (الله إني معكم) بالعون والنصرة (لئن) لام قسم (أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزَّرْتموهم) نصرتموهم (وأقرضتم الله قرضاً حسناً) بالإنفاق في سبيله (لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك) الميثاق (منكم فقد ضلَّ سواء السبيل) أخطأ طريق الحق والسواء في الأصل الوسط
قال أبو جعفر: وهذه الآية أنزلت إعلاماً من الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أخلاق الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من اليهود، كالذي:
حدثنا الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل"، قال : اليهود من أهل الكتاب.
وأن الذي هموا به من الغدر ونغض العهد الذي بينهم وبينه ، من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديماً، واحتجاجاً لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود، بإطلاعه إياه على ما كان علمه عندهم دون العرب ، من خفي أمورهم ومكنون علومهم ، وتوبيخاً لليهود في تماديهم في الغي وإصرارهم على الكفر، مع علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما هموا به لكم، ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم ، لا يعدون أن يكونوا على منهاج أولهم وطريق سلفهم.
ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعض غدراتهم وخيانتهم ، وجراءتهم على ربهم ، ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم عليه بارئهم، مع نعمه التي خصهم بها، وكراماته التي طوقهم شكرها، فقال: ولقد أخذ الله ميثاق سلف من هم ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل، يا معشر المؤمنين ، بالوفاء له بعهوده، وطاعته فيما أمرهم ونهاهم، كما:
حدثني المثنى ، قال، حدثنا آدم العسقلاني، قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل"، قال : أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ، ولا يعبدوا غيره.
"وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"، يعني بذلك : وبعثنا منهم اثني عشر كفيلاً، كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه.
و النقيب في كلام العرب ، كالعريف على القوم، غير أنه فوق العريف. يقال منه: نقب فلان على بني فلان فهو ينقب نقباً، فإذا أريد أنه لم يكن نقيباً فصار نقيباً قيل: قد نقب فهو ينقب نقابة، ومن العريف: عرف عليهم يعرف عرافةً. فأما المناكب، فإنهم كالأعوان يكونون مع العرفاء واحدهم منكب.
وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم.
فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله.
فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"، من كل سبط رجل شاهد على قومه.
وقال آخرون: النقيب، الأمين.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال: النقباء، الأمناء.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، مثله.
وإنما كان الله عز ذكره أمر موسى نبيه صلى الله عليه وسلم ببعثة النقباء الاثني عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسسوا لموسى أخبارهم ، إذ أراد هلاكهم ، وأن يورث أرضهم وديارهم موسى وقومه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل، بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه ، وأخرجهم من أرض مصر. فبعث موسى الذين أمره الله ببعثهم إليها من النقباء، كما:
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس ، فساروا حتى إذا كانوا قريباً منهم، بعث موسى اثني عشر نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته، وعلى رأسه حملة حطب. فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي! فقالت امرأته: بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. ففعل ذلك . فلما خرج القوم، قال بعضهم لبعض: يا قوم ، إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم، ارتدوا عن نبي الله عليه السلام ، ولكن اكتموه وأخبروا نبي الله ، فيكونان هما يريان رأيهما! فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا. فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من أمر عاج، وكتم رجلان منهم، فأتيا موسى وهارون فأخبروهما الخبر، فذلك حين يقول الله : "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا".
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "اثني عشر نقيبا"، من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين ، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم يلقونهم إلقاء، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم ، إلا يوشع بن نون وكلاب بن يافنة، يامران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعوا الآخرين.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه -إلا أنه قال: من بني إسرائيل رجال- وقال أيضاً: يلقونهما.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وقال : إني قد كتبتها لكم داراً وقراراً ومنزلاً، فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم ، وخذ من قومك اثني عشر نقيباً، من كل سبط نقيباً يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به ، وقل لهم: إن الله يقول لكم: "إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة" إلى قوله: "فقد ضل سواء السبيل". وأخذ موسى منهم اثني عشر نقيباً اختارهم من الأسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه، على الوفاء بعهده وميثاقه. وأخذ من كل سبط منهم خيرهم وأوفاهم رجلاً -يقول الله عز وجل: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"- فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله ، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام ، وهي بلاد ليس فيها خمر ولا ظل، دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق ، فأنزل الله عليهم المن والسلوى. وأمر الله موسى فقال: أرسل رجالاً يتحسسون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل ، من كل سبط رجلاً. فأرسل موسى الرؤوس كلهم الذين فيهم، فبعث الله جل وعز من برية فاران بكلام الله، وهم رؤوس بني إسرائيل. وهذه أسماء الرهط الذين بعث الله جل ثناؤه من بني إسرائيل إلى أرض الشام ، فيما يذكر أهل التوراة، ليجوسوها لبني إسرائيل: من سبط روبيل: شامون بن زكور، ومن سبط شمعون: شافاط بن حرى، ومن سبط يهوذا: كالب بن يوفنا، ومن سبط أس: يجائل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط أفرائيم: يوشع بن نون، ومن سبط بنيامين فلط بن رفون، ومن سبط زبالون: جدي بن سودى، ومن سبط منشا بن يوسف: جدي بن سوسا، ومن سبط دان: حملائل بن جمل، ومن سبط أشر: ساتور بن ملكيل، ومن سبط نفتالي: نحي بن وفسي، ومن سبط جاد: جولايل بن ميكي.
فهده أسماء الذين بعثهم موسى يتحسسون له الأرض، ويومئذ سمي هوشع بن نون: يوشع بن نون، فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قبل الشمس ، فارقوا الجبل ، وانظروا ما في الأرض ، وما الشعب الذي يسكنونه: أقوياء هم أم ضعفاء، أقليل هم أم كثير؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون: أسمينة هي أم هزيلة؟ أذات شجر أم لا؟ اجتازوا، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض! وكان ذلك في أول ما أشجن بكر ثمرة العنب.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"، فهم من بني إسرائيل، بعثهم موسى لينظروا له إلى المدينة، فانطلقوا فنظروا إلى المدينة فجاؤوا بحبة من فاكهتهم، وقر رجل، فقالوا : اقدروا قوة قوم وبأسهم ، هذه فاكهتهم!! فعند ذلك فتنوا فقالوا: لا نستطيع القتال، "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" [المائدة: 24].
حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول في قوله: "وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"، أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا قريباً من المدينة قال لهم موسى: ادخلوها! فأبوا وجبنوا، وبعثوا اثني عشر نقيباً لا لينظروا إليهم ، فانطلقوا فنظروا، فجاؤوا بحبة من فاكهتهم بوقر الرجل، فقالوا : اقدروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا" [المائدة: 24].
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وقال الله لبني إسرائيل: "إني معكم"، يقول: إني ناصركم على عدوكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم ، إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم.
وفي الكلام محذوف ، استغني بما ظهر من الكلام عما حذف منه. وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لهم إني معكم، فترك ذكر لهم، استغناء بقوله: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل"، إذ كان متقدم الخبر عن قوم مسمين بأعيانهم، فكان معلوماً أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم ، إذ لم يكن الكلام مصروفاً عنهم إلى غيرهم.
ثم ابتدأ ربنا جل ثناؤه القسم فقال: قسماً لئن أقمتم، معشر بني إسرائيل ، الصلاة، "وآتيتم الزكاة"، أي: أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها، "وآمنتم برسلي"، يقول : وصدقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني.
وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر.
حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس: أن موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثني عشر: سيروا إليهم -يعني: إلى الجبارين- فحدثوني حديثهم ، وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم، وأقرضتم الله قرضاً حسناً.
قال أبو جعفر: وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب ، غير أن من قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصر من أطاعه، وولي من اتبع أمره وتجنب معصيته، وتحامى ذنوبه . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه، كان معلوماً أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به ، لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم. فكان ذلك بأن يكون ندباً للقوم جميعاً، وحضاً لهم على ما حضهم عليه، أحق وأولى من أن يكون ندباً لبعض، وحضاً لخاص دون عام.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وعزرتموهم".
فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وعزرتموهم"، قال: نصرتموهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "وعزرتموهم"، قال: نصرتموهم بالسيف.
وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله: "وعزرتموهم"، قال: التعزير و التوقير، الطاعة والنصرة.
واختلف أهل العربية في تأويله.
فذكر عن يونس الحرمري أنه كان يقول: تأويل ذلك: أثنيتم عليهم.
حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه.
وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك : نصرتموهم ، وأعنتموهم ، ووقرتموهم ، وعظمتوهم، وأيدتموهم. وأنشد في ذلك:
وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي
وكان الفراء يقول: العزر ، الرد. عزرته، رددته، إذا رأيته يظلم فقلت : اتق الله، أو نهيته ، فذلك العزر.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: نصرتموهم. وذلك أن الله جل ثناؤه قال في سورة الفتح: "إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه" [الفتح: 8، 9]، فـالتوقير هو التعظيم. وإذ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه: التعظيم، وكان النصر قد يكون باليد واللسان، فأما باليد فالذب بها عنه بالسيف وغيره، وأما باللسان فحسن الثناء والذب عن العرض ، صح أنه النصر، إذ كان النصر يحوي معنى كل قائل قال فيه قولاً مما حكينا عنه.
وأما قوله: "وأقرضتم الله قرضا حسنا"، فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله ، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم ، "قرضا حسنا"، يقول : وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله ، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدود الله وما ندبكم إليه وحثكم عليه، إلى غيره.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال: "وأقرضتم الله قرضا حسنا"، ولم يقل: إقراضاً حسناً، وقد علمت أن مصدر أقرضت الإقراض؟
قيل: لو قيل ذلك كان صواباً، ولكن قوله : "قرضا حسنا"، أخرج مصدراً من معناه لا من لفظه. وذلك أن في قوله : أقرض، معنى قرض، كما في معنى أعطى أخذ. فكان معنى الكلام: وقرضتم الله قرضاً حسناً. ونظير ذلك: "والله أنبتكم من الأرض نباتا" [نوح: 17]، إذ كان في أنبتكم معنى: فنبتم، وكما قال امرؤ القيس:
ورضت فذلت صعبةً أي إذلال
إذ كان في رضت معنى أذللت ، فخرج الإذلال مصدراً من معناه لا من لفظه.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جل ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائر ما وعدتكم عليه جنتي، "لأكفرن عنكم سيئاتكم"، يقول: لأغطين بعفوي عنكم -وصفحي عن عقوبتكم ، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم- على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم ، "ولأدخلنكم" مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة، "جنات تجري من تحتها الأنهار".
فـ الجنات، البساتين.
وإنما قلت معنى قوله: "لأكفرن"، لأغطين ، لأن الكفر، معناه الجحود، والتغطية ، والستر، كما قال لبيد:
في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني : غطاها، فـ التكفير التفعيل من الكفر.
واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: "لأكفرن".
فقال بعض نحويي البصرة: اللام الأولى على معنى القسم ، يعني اللام التي في قوله: "لئن أقمتم الصلاة". قال: والثانية معنى قسم آخر.
وقال بعض نحويي الكوفة: بل اللام الأولى وقعت موقع اليمين ، فاكتفي بها عن اليمين ، يعني بـ اللام الأولى: "لئن أقمتم الصلاة"، قال: واللام الثانية، يعني قوله: "لأكفرن عنكم سيئاتكم"، جواب لها، يعني اللام التي في قوله : "لئن أقمتم الصلاة"، واعتل لقيله ذلك بأن قوله: "لئن أقمتم الصلاة" غير تام ، ولا مستغن عن قوله : "لأكفرن عنكم سيئاتكم". وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز أن يكون قوله: "لأكفرن عنكم سيئاتكم" قسماً مبتدأ، بل الواجب أن يكون جواباً لليمين ، إذ كانت غير مستغنية عنه.
وقوله: "تجري من تحتها الأنهار"، يقول: تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها، الأنهار.
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره : فمن جحد منكم ، يا معشر بني إسرائيل ، شيئاً مما أمرته به فتركه ، أو ركب ما نهيته عنه فعمله، بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي، "فقد ضل سواء السبيل"، يقول : فقد أخطأ قصد الطريق الواضح ، وزل عن منهج السبيل القاصد.
والضلال، الركوب على غير هدى، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع.
وقوله "سواء" يعني به: وسط، و "السبيل"، الطريق.
وقد بينا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فيه ثلاثة مسائل:
قوله تعالى:" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا"
فيه ثلاثة مسائل :
الأولى - قول ابن عطية : هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر رضي الله عنه : إنه كان لنقابا فالنقباء الضمان واحدهم نقيب وهو شاهد القوم وضمينهم يقال : نقب عليهم : وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة والنقب والنقب الطريق وفي الجبل وإنما قيل: نقب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم وقال قوم النقباء الأمناء على قومهم وهذا كله قريب بعضه من بعض والنقيب أكبر مكانه من العريف قال عطاء بن يسار: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ذكره الدارمي في مسنده قال قتادة رحمه الله - وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة ، بايع فيها سبعون رجلاً وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلاً وسماهم النقباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقاء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعهم فساروا ليختبروا حال من بها ويعلموه بما اطلعوا عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة على ما يأتي وظنوا أنهم لا قبل لهم بها فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم ، ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل فقالوا: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " [ المائدة : 24].
الثانية - في الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية فيركب عليه الأحكام ويرتبط به الحلال والحرام وقد جاء أيضاً مثله في الإسلام "قال صلى الله عليه وسلم لهوازن .
ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم " أخرجه البخاري.
الثالثة - وفيها أيضاً دليل على اتخاذ الجاسوس والتجسس، التبحث وقد .
بعث رسول اله صلى الله عليه وسلم بسبسة عيناً أخرجه مسلم وسيأتي حكم الجاسوس في الممتحنة إن شاء الله تعالى وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في المحبر فقال : من سبط روبيل شموع بن ركوب ومن سبط شمعون وشوقوط بن حورى ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الحسار يوغول بن يوسف ومن سبط أفراثيم بن وسف يوشع بن النون ومن سبط بنيامين يلظى بن روقوا ومن سبط ربالون كرابيل بن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدى بن سوشا ومن سبط دان عمائيل بن كسل ومن سبط شير ستور بن ميخائيل ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا ومن سبط كاذ كوال بن موخى فالمؤمنان منهم يوشع وكالب ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطاً عليهم قاله المارودي : وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظر هناك قوله تعالى :" وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة" الآية قال الربيع بن أنس: قال ذلك للنقباء وقال غيره : قال ذلك لجميع بني إسرائيل: وكسرت إن لأنها مبتدأة معكم منصوب لأنه ظرف أي بالنصر والعون ثم ابتدأ فقال : " لئن أقمتم الصلاة " إلى أن قال " لأكفرن عنكم سيئاتكم " أي إن فعلتم ذلك " لأكفرن عنكم " واللام في لئن لام توكيد ومعناها القسم وكذا عنكم سيئاتكم وتضمن شرطاً آخر لقوله : " لأكفرن " أي إن فعلتم ذلك لأكفرن وقيل: قوله " لئن أقمتم الصلاة " جزاء لقوله "إني معكم " وشرط لقوله: " لأكفرن " والتعزير: التعظيم والتوقير وأنشد أبو عبيدة:
وكم من ماجد لهم كريم ومن ليس يعزر في الندي
أي يعظم ويوقر والتعزير: الضرب دون الحد والرد تقول : عزرت فلاناً إذا أدبته ورددته عن القبيح قوله عزرتموهم أ] رددتم عنهم أعداءهم " وأقرضتم الله قرضا حسنا " يعني الصدقات ولم يقل إقراضً وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله " والله أنبتكم من الأرض نباتا" [ نوح : 17] " فتقبلها ربها بقبول حسن " [ آل عمران : 37] وقد تقدم ثم قيل: حسنا أي طيبة بها نفوسكم وقيل: يبتغون بها وجه الله وقيل: حلالا وقيل: قرضاً اسم لا مصدر " فمن كفر بعد ذلك منكم " أي بعد الميثاق " فقد ضل سواء السبيل" أي أخطأ قصد الطريق والله أعلم .
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وأمرهم بالقيام بالحق, والشهادة بالعدل, وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى, شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى, فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم, وطرداً عن بابه وجنابه, وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق, وهو العلم النافع, والعمل الصالح, فقال تعالى: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه, وقد ذكر ابن عباس عن ابن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة, فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب, قال محمد بن إسحاق: فكان من سبط روبيل شامون بن ركون, ومن سبط شمعون شافاط بن حري, ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا, ومن سبط أتين ميخائيل بن يوسف, ومن سبط يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون, ومن سبط بنيامين فلطم بن دفون ومن سبط زبولون جدي بن شورى ومن سبط منشأ بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان خملائيل بن حمل ومن سبط أشار ساطور بن ملكيل, ومن سبط نفثالي بحر بن وقسي, ومن سبط يساخر لايل بن مكيد .
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق, والله أعلم, قال فيها: فعلى بني روبيل اليصور بن سادون, وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي, وعلى بني يهوذا الحشون بن عمياذاب, وعلى بني يساخر شال بن صاعون, وعلى بني زبولون الياب بن حالوب, وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهور, وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون, وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون, وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي, وعلى بني أشار نحايل بن عجران, وعلى بني كان السيف بن دعواييل, وعلى بني نفتالي أجذع بن عمينان .
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة, كان فيهم اثنا عشر نقيباً: ثلاثة من الأوس: وهم أسيد بن الحضير, وسعد بن خيثمة, ورفاعة بن عبد المنذر, ويقال بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه, وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة, وسعد بن الربيع, وعبد الله بن رواحة, ورافع بن مالك بن العجلان, والبراء بن معرور, وعبادة بن الصامت, وسعد بن عبادة, وعبد الله بن عمرو بن حرام, والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم, وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له, كما أورده ابن إسحاق رحمه الله, والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك, وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي, عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن, فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن, هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك, ثم قال: نعم, ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه, وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي, فسألت أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم. ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم, ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم, بل وقد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر, وعمر, وعثمان, وعلي, رضي الله عنهم, ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس, ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة, والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره, فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه, فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً, وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا, فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية, بل هو من هوس العقول السخيفة, وتوهم الخيالات الضعيفة, وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم .
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام, وإن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً, وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة, وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر, فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى: "وقال الله إني معكم" أي بحفظي وكلاءتي ونصري "لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي" أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي, "وعزرتموهم" أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق "وأقرضتم الله قرضاً حسناً" وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته, "لأكفرن عنكم سيئاتكم" أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها, "ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود .
وقوله "فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده, وعامله معاملة من لا يعرفه, فقد أخطأ الطريق الواضح, وعدل عن الهدى إلى الضلال, ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده, فقال "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم, أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى , "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها, "يحرفون الكلم عن مواضعه" أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله, وتأولوا كتابه على غير ما أنزله, وحملوه على غير مراده, وقالوا عليه مالم يقل, عياذاً بالله من ذلك, "ونسوا حظاً مما ذكروا به" أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها, وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة, فلا قلوب سليمة, ولا فطر مستقيمة, ولا أعمال قويمة, "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك . وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم "فاعف عنهم واصفح" وهذا هو عين النصر والظفر, كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه, وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق, ولعل الله أن يهديهم, ولهذا قال تعالى: "إن الله يحب المحسنين" يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية (فاعف عنهم واصفح) منسوخة بقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية .
وقوله تعالى: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم" أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسوا كذلك, أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومناصرته, ومؤازرته, واقتفاء آثاره, وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض, ففعلوا كما فعل اليهود, خالفوا المواثيق, ونقضوا العهود, ولهذا قال تعالى: "فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً, ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة, وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً, ويلعن بعضهم بعضاً, فكل فرقة تحرم الأخرى, ولا تدعها تلج معبدها, فالملكية تكفر اليعقوبية, وكذلك الآخرون, وكذلك النسطورية والآريوسية, كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد, ثم قال تعالى: "وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله, وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً, من جعلهم له صاحبة وولداً, تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
قوله: 12- "ولقد أخذ الله" كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة. وقد تقدم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم. واختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم العالم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ويقال: نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم. والنقيب: الطريق في الجبل هذا أصله، وسمي به نقيب القوم لأنه طريق إلى معرفة أمورهم. والنقيب: أعلى مكاناً من العريف، فقيل: المراد ببعث هؤلاء النقباء أنهم بعثوا أمناء على الاطلاع على الجبارين والنظر في قوتهم ومنعتهم فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم، ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو وقالوا: "اذهب أنت وربك فقاتلا" وقيل: إن هؤلاء النقباء كفل كل واحد منهم على سبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله، وهذا معنى بعثهم، وسيأتي ذكر بعض ما قاله جماعة من السلف في ذلك. قوله: "وقال الله إني معكم" أي قال ذلك لبني إسرائيل، وقيل: للنقباء، والمعنى: إني معكم بالنصر والعون، واللام في قوله: "لئن أقمتم الصلاة" هي الموطئة للقسم المحذوف، وجوابه: "لأكفرن" وهو ساد مسد جواب الشرط. والتعزير: التعظيم والتوقير، وأنشد أبو عبيدة:
وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعـــزر في النــــدي
أي يعظم ويوقر. ويطلق التعزير على الضرب والرد، يقال: عزرت فلاناً: إذا أدبته ورددته عن القبيح، فقوله: "وعزرتموهم" أي عظمتموهم على المعنى الأول، أو رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني. قوله: "وأقرضتم الله قرضاً حسناً" أي أنفقتم في وجوه الخير، و "قرضاً" مصدر محذوف الزوائد كقوله تعالى: "وأنبتها نباتاً حسناً" أو مفعول ثان لأقرضتم. والحسن: قيل هو ما طابت به النفس، وقيل ما ابتغي به وجه الله، وقيل الحلال. قوله: "فمن كفر بعد ذلك" أي بعد الميثاق أو بعد الشرط المذكور "فقد ضل سواء السبيل" أي أخطأ وسط الطريق.
12- قوله عز وجل :" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " ، وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، فلما استقر لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا من أرض الشام وهي الأرض المقدسة، وكانت لها ألف قرية في كن قرية ألف بستان، وقال: يا موسى إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيباً من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، فاختار موسى النقباء وسار موسى ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحا فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها، فلقيهم رجل من الجبابرة يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاث وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع، وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه أليها ثم يأكله. ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء [وقلع] صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام،وكان فرسخاً في فرسخ، وحملها ليطبقها عليه فبعث الله الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فرصعته، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله، وكانت أمه[عنق] إحدى بنات آدم وكان مجلسها[جريباً] من الأرض، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة من حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته وانطلق بهم إلى امرأته، وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك.
وروي أنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فطرحهم بين يديه، فقال الملك:ارجعوا فأخبرهم بما رأيتم، وكان لا يحمل عنقوداً من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس، فرجع النقباء وجعلوا يتعرفون أحوالهم، وقال بعضهم لبعض يا قوم: إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما وأخذ بعضهم على بعضهم الميثاق بذلك، ثم إنهم نكثوا العهد وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى: إلا رجلان فذلك قوله تعالى:" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ".
" وقال الله إني معكم " ، ناصركم على عدوكم، ثم ابتدأ الكلام فقال:" لئن أقمتم الصلاة " يا معشر بني إسرائيل، " وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " ، نصرتموهم، وقيل: ووقرتموهم وعظمتموهم، " وأقرضتم الله قرضاً حسناً " قيل: هو إخراج الزكاة، وقيل: هو النفقة على الأهل، " لأكفرن عنكم سيئاتكم"، لأمحون عنكم سيئاتكم، " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل "، أي: أخطأ قصد السبيل، يريد طريق [الحق]، وسواء كل شيء: وسطه.
12" ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " شاهداً من كل سبط ينقب عن أحوال قومه ويفتش عنها، أو كفيلاً يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به. روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون واستقروا بمصر، أمرهم الله سبحانه وتعالى بالمسير إلى أريحاء من ارض الشام، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذ من كل سبط كفيلاً عليهم بالوفاء بما أمروا به، فأخذ عليهم الميثاق واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار، ونهاهم أن يحدثوا قومهم، فرأوا أجراماً عظيمة وبأساً شديداً فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ونكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف. " وقال الله إني معكم " بالنصرة " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " أي نصرتموهم وقويتموهم وأصله الذب ومنه التعزير. " وأقرضتم الله قرضا حسنا " بالإنفاق في سبيل الخير وقرضاً يحتمل المصدر والمفعول. " لأكفرن عنكم سيئاتكم " جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط. " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك " بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم. " منكم فقد ضل سواء السبيل " ضلالاً لا شبه فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك، إذ قد يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم له معذرة.
12. Allah made a covenant of old with the Children of Israel and We raised among them twelve chieftains: and Allah said: Lo! I am with you. If ye establish worship and pay the poor due, and believe in My messengers and support them, and lend unto Allah a kindly loan, surely I shall remit your sins, and surely I shall bring you into gardens underneath which rivers flow. Whoso among you disbelieveth after this will go astray from a plain road.
12 - God did aforetime take a convenient from the children of Israel, and we appointed twelve captains among them. and God said: I am with you: if ye (but) establish regular prayers, practise regular charity believe in my apostles, honor and assist them, and loan to God a beautiful loan, verily I will wipe out from you your evils, and admit you to gardens with rivers flowing beneath; but if any of you, after this, resisteth faith, he truly wandered from the path of rectitude.