[الحجرات : 3] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
3 - (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن) اختبر (الله قلوبهم للتقوى) أي لتظهر منهم (لهم مغفرة وأجر عظيم) الجنة ونزل في قوم جاؤوا وقت الظهيرة والنبي صلى الله عليه وسلم في منزله فنادوه
يقول تعالى ذكره : إن الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول الله . وأصل الغض : الكف في لين .
ومنه : غض البصر ، وهو كفه عن النظر ، كما قال جرير :
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقوله " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ، وهم الذين اختبر الله قلوبهم بامتحنه إياها ، فاصطفاها وأخلصها للتقوى ، يعني لاتقائه بأداء طاعاته ، واجتناب معاصيه ، كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخلص جيدها ، ويبطل خبثها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله " امتحن الله قلوبهم " قال : اخلص .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة في قوله " امتحن الله قلوبهم " قال : أخلص الله قلوبهم فيما أحب .
وقوله " لهم مغفرة " يقول : لهم من الله عفو عن ذنوبهم السلفة ،وصفح منه عنها لهم " وأجر عظيم " يقول : وثواب جزيل ، وهو الجنة .
قوله تعالى : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالاً له ، أو كلموا غيره بين يديه إجلالاً له ، قال أبو هريرة : لما نزلت " لا ترفعوا أصواتكم " قال أبو بكر رضي الله عنه : والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار ، وذكر سنيد قال : حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال : لما نزلت : " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال أبو بكر : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار ، وقال عبد الله بن الزبير ، لما نزلت : " لا ترفعوا أصواتكم " ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض ، فنزلت " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " قال الفراء : أي أخلصها للتقوى ، وقال الأخفش : أي اختصها للتقوى ، وقال ابن عباس : ( امتحن الله قلوبهم بالتقوى ) طهرهم من كل قبيح ، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى ، وقال عمر رضي الله عنه ، أذهب عن قلوبهم الشهوات ، والامتحان افتعال من محنت الأديم محناً حتى أوسعته ، فمعنى امتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى ، وعلى الأقوال المتقدمة : امتحن قلوبهم فأخلصها ، كقولك : امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت ، ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام ، وهو الإخلاص ، وقال أبو عمرو : كل شي جهدته فقد محنته ، وأنشد :
أتت رذايا بادياً كلالها قد محنت واضطربت آطالها
" لهم مغفرة وأجر عظيم " .
هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين, فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام, فقال تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله, بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم ؟" قال: بكتاب الله تعالى, قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد ؟" قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد ؟" قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي, فضرب في صدره وقال "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة, ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة, وقال العوفي عنه: نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه, وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه, وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم, وقال سفيان الثوري "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" بقول ولا فعل, وقال الحسن البصري "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" قال: لا تدعوا قبل الإمام, وقال قتادة: ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا, لو صنع كذا, فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه "واتقوا الله" أي فيما أمركم به "إن الله سميع" أي لأقوالكم "عليم" بنياتكم.
وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته, وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي, حدثنا نافع بن عمر عن أبي مليكة, قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم, فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع, وأشار الاخر برجل آخر, قال نافع: لا أحفظ اسمه, فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما, ما أردت إلا خلافي, قال: ما أردت خلافك, فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاية حتى يستفهمه, ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.
ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد, حدثنا حجاج عن ابن جريج, حدثني ابن أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد, وقال عمر رضي الله عنه: بل أمر الأقرع بن حابس, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي, فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك, فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" حتى انقضت الاية "ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم" الاية. وهكذا رواه ههنا منفرداً به أيضاً وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. حصين بن عمر, هذا وإن كان ضعيفاً لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك, والله أعلم. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا أزهر بن سعد, أخبرنا ابن عون, أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه, فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك ؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار, فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا, قال موسى: فرجع إليه المرة الاخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى قوله "وأنتم لا تشعرون " وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزيناً ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا , بل هو من أهل الجنة" قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة, فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس, وقد تحنط ولبس كفنه فقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى آخر الاية, جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال: أنا من أهل النار, واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: "يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى ؟" فقال سعد رضي الله عنه: إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه: أنزلت هذه الاية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار, فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة" ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به, قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, وعن قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه, وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثني هدبة بن عبد الأعلى الأسدي, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, والصحيح أن حال نزول هذه الاية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجوداً, لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس, وهذه الايات نزلت في وفد بني تميم, والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة, والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس, حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول" قال: قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي, قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال: ما يبكيك يا ثابت ؟ قال: هذه الاية أتخوف أن تكون نزلت في وأنا صيت رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول, فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار, فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى, أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: "اذهب فادعه لي" فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده, فجاء إلى أهله, فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: اكسر الضبة, قال: فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ثابت ؟" فقال رضي الله عنه: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الاية نزلت في "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟" فقال: رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله , ولا أرفع صوتي أبدا ًعلى صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأنزل الله تعالى: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" الاية: وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك, فقد نهى الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما, فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال: من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف, فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام, لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائماً, ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه, بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم, ولهذا قال تبارك وتعالى: "ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" كما قال تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً".
وقوله عز وجل: "أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده, خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه, فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض" ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك, وأرشد إليه, ورغب فيه فقال: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً "لهم مغفرة وأجر عظيم" وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين, رجل لا يشتهي المعصية, ولا يعمل بها أفضل, أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم".
ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به، فقال: 3- "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله" أصل الغض النقص من كل شيء، ومنه نقص الصوت "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" قال الفراء: أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه ويسقط خبيثه. وبه قال مقاتل ومجاهد وقتادة. وقال الأخفش: اختصها للتقوى، وقيل طهرها من كل قبيح، وقيل وسعها وسرحها، من منحت الأديم: إذا وسعته. وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد منحته، واللام في للتقوى متعلقة بمحذوف: أي صالحة للتقوى كقولك أنت صالح لكذا، أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب، كقولك جئتك لأداء الواجب: أي ليكون مجيئي سبباً لأداء الواجب "لهم مغفرة وأجر عظيم" أي أولئك لهم، فهو خبر آخر لاسم الإشارة، ويجوز أن يكون مستأنفاً لبيان ما أعد الله لهم في الآخرة.
3. " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " الآية.
قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم، فقال: أف لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا، واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية منالمعسكر عند فرس يسير في طوله، وقد وضع على درعي برمة، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن علي ديناً حتى يقضى، وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه له، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته.
قال مالك بن أنس: لا أعلم وصيةً أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
قال أبو هريرة وابن عباس: لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار.
وقال ابن الزبير: لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته، فأنزل الله تعالى: " إن الذين يغضون أصواتهم "، يخفضون " أصواتهم عند رسول الله "، إجلالاً له، " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى "، اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه، " لهم مغفرة وأجر عظيم ".
3-" إن الذين يغضون أصواتهم " يخفضونها . " عند رسول الله " مراعاة للأدب ، أو مخافة عن مخالفة النهي . قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما . " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " جربها للتقوى ومرنها عليها ، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها ، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى ، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها ، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه ." لهم مغفرة " لذنوبهم ." وأجر عظيم " لغضبهم وسائر طاعاتهم ، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن أو استئناف لبيان ما هو جزاء الغاضبين إحماداً لحالهم كما أخبر عنه بجملة مؤلفة من معرفتين ، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنواناً لهم ، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضبهم والارتضاء له ، وتعريضاً بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك .
3. Lo! they who subdue their voices in the presence of the messenger of Allah, those are they whose hearts Allah hath proven unto righteousness. Theirs will be forgiveness and immense reward.
3 - Those that lower their voice in the presence of Gods's Apostle, their hearts has God tested for piety: for them is Forgiveness and a great Reward.