[الحجرات : 2] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
2 - (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) إذا نطقتم (فوق صوت النبي) إذا نطق (ولا تجهروا له بالقول) إذا ناجيتموه (كجهر بعضكم لبعض) بل دون ذلك إجلالا له (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) أي خشية ذلك بالرفع والجر المذكورين ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام ، وتغلظون له في الخطاب " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " يقول : ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا : يا محمد يا نبي الله ، يا نبي الله ، يا رسول الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قل : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " قال : لا تنادوه نداء ، ولكن قولا لينا يا رسول الله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " كانوا يجهرون بالكلام ، ويرفعون أصواتهم ، فوعظهم الله ، ونهاهم عن ذلك .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن قتادة كانوا يرفعون ، ويجهرون عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعظوا ، ونهوا عن ذلك .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ...الآية ، هو كقوله : " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " النور: 63 نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهمم أن يشرفوه ويعظموه ، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوة .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا زيد أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس قال : ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه ، قال : " لما نزلت هذه الآية " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " قال : قعد ثابت في الطريق يبكي ، ، قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان ، فقال : مايبكيك يا ثابت ؟ قال : لهذه الآية ، أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا صيت رفيع الصوت ، قال : فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وغلبه البكاء ، قال : فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي أن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي ، فشدي على الضبة بمسمار ، فضربته بسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله ، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره ، فقال : اذهب فادعه لي ، فجاء عاصم إلى المكان ، فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة ، قال : فخرجا فأتيا نبي الله صلى الله عيه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عيه وسلم : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت ، وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله ، فأنزل الله " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " ...الآية" .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب تعن حفص عن شمر بن عطية قال : " جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال : يا ثابت ما الذي أرى بك ؟ فقال : آية قرأتها الليلة ، فأخشى أن يكون قد حبط عملي " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " وكان في أذنه صمم ، فقل : يا نبي الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي ، وجهرت لك بالقول ، وأن أكون قد حبط عملي ، وأنا لا أشعر ، فقال النبي صلى الله عيه وسلم : امش على الأرض نشيطا فإنك من أهل الجنة "
حدثني يعقوب بن أبراهيم قال : ثنا علية قال : ثنا أيوب عن عكرمة قال : " لما نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " .... الآية ، قال ثابت بن قيس : فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجهر بالقول ، فأما من أهل النار . فقعد في بيته ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل عنه ، فقال رجل : إنه لجاري ، ولئن شئت لأعلمن لك علمه ، فقال : نعم ، فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفقدك ، وسأل عنك ، فقال : نزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " .. الآية وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول ، فأنا من أهل النار . فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : بل هو من أهل الجنة . فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس ، فقال : أف لهؤلاء وما يعبدون ، وأف لهؤلاء وما يصنعون ، يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرها ساعة ، قال : ورجل قائم على ثلمة ، فقتل وقتل " .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري أن ثابت بن قيس بن شماس ، قال : " لما نزلت " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال : يا نبي الله ، لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وإني امرؤ جهير الصوت ، ونهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل ، فأجدني أحب أن أحمد، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب المال ، قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة . "
حدثني علي بن سهل قال : ثنا مؤمل قال : ثنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي قال : ثني ابن أبي مليكة ، عن الزبير قال : " قدم وفد -أراه قال تميم - علىالنبي صلى الله عليه وسلم ، منهم الأقرع بن حابس فكلم أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على قومه ، قال : فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله ، قال : فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك . قال : ونزل القرآن : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ... إلى قوله " وأجر عظيم" قال : فما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وما ذكر أبن الزبير جده يعني أبا بكر " .
وقوله " أن تحبط أعمالكم " : يقول : أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها ، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم ، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض .
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : معناه : لا تحبط أعمالكم . قتل : وفيه الجزم والرفع إذا وضعت لا مكان أن .قال : وهي في قراءة عبد الله فتحبط أعمالكم وهو دليل على جواز الجزم . وقال بعض نحويي البصرة : قال : أن تحبط أعمالكم : أي مخافة أن تحبط أعماكم وقد يقال : أسند الحائط أن يميل .
وقوله " وأنتم لا تشعرون " يقول : وأنتم لا تعلمون ولا تدرون .
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " روى البخاري و الترمذي عن ابن ابي مليكة قال : حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله استعمله على قومه ، فقال عمر : لا تستعمله يا رسول الله ، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، قال : فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه ، قال : وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر ، قال : هذا حديث غريب حسن ، وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلاً ، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير .
قلت : هو البخاري قال : عن ابن أبي مليكة : كاد الخيران أن يهلكا : أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، فقال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ، فقال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني أبا بكر الصديق ، وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه : نزل قوله : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا و جعفر وزيد بن حارثة ، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر ، لأن خالتها عنده ، وقد تقدم هذا الحديث في آل عمران وفي الصحيحين " عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر ! كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار ، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، فقال موسى : فرجع إليه المرة الآخيرة ببشارة عظيمة ، فقال : اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة " ، لفظ البخاري ، و ثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد ، وقيل : أبا عبد الرحمن ، قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد : محمد ،ويحيى ، وعبد الله ، وكان خطيباً بليغاً معروفاً بذلك ، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم ، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد :
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم
فقام حسان فقال :
بني دارم لا تفخروا إن فخركم يعود وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
في أبيات لهما .
فقالوا : خطيبهم أخطب من خطيبنا ، وشاعرهم أشعر من شاعرنا ، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " وقال عطاء الخراساني : حدثني ابنة ثابت بن قيس قالت : لما نزلت " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية ، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره ، فقال : أنا رجل شديد الصوت ، أخاف أن يكون حبط عملي فقال عليه السلام : لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ، قال : ثم أنزل الله : " إن الله لا يحب كل مختال فخور " [ لقمان : 18 ] ، فأغلق بابه وطفق يبكي ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي ، فقال : لست منهم بل تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ، قالت : فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسلمة فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا ، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة ، فمر به رجل من المسلمين فأخذها ، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه فرس يستن في طوله ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ، فأت خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها ، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أبا بكر فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالداً فأخبره ، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجازه وصيته قال : ولا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، رحمه الله ، ذكره أبو عمر في الإستيعاب .
الثانية : قوله تعالى : " ولا تجهروا له بالقول " أي لا تخاطبوه : يا محمد ، ويا أحمد ، ولكن يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيراً له ، وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك ، وقيل : ( لا تجهروا له ) أي لا تجهروا عليه ، كما يقال : سقط لفيه ، أي على فيه ، " كجهر بعضكم لبعض " الكاف كاف التشبيه في محل النصب ، أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض ، وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهو عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " أي من أجل أن تحبط ، أي تبطل هذا قول البصريين ، وقال الكوفيون : أي لئلا تحبط أعمالكم .
الثالثة : معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته ، أي إذا نطلق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالباً لكلامهم ، وجهره باهراً لجهركم ، حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبهروا منطقه بصخبكم ، وفي قراءة ابن مسعود ( لا ترفعوا بأصواتكم ) وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام ، وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفاً لهم ، إذ هم ورثة الأنبياء .
الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم متياً كحرمته حياً ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه ، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به ، وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] ، وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وله من الحكمة مثل ما للقرآن ، إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه .
الخامسة : وليس الغرض برفع الصوت ، ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون ، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، وفيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزيز والتوقير ، ولم يتناول النهي أيضاً رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : اصرخ بالناس ، وكان العباس أجهر الناس صوتاً يروي أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس : يا صباحاه ! فأسقطت الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفق مرارة السبع في جوفه .
السادسة : قال الزجاج : " أن تحبط أعمالكم " التقدير لأن تحبط ، أي فتحبط أعمالكم ، فاللام المقدرة لام الصيرروة وليس قوله : " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع ، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم .
هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين, فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام, فقال تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله, بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم ؟" قال: بكتاب الله تعالى, قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد ؟" قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد ؟" قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي, فضرب في صدره وقال "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة, ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة, وقال العوفي عنه: نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه, وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه, وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم, وقال سفيان الثوري "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" بقول ولا فعل, وقال الحسن البصري "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" قال: لا تدعوا قبل الإمام, وقال قتادة: ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا, لو صنع كذا, فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه "واتقوا الله" أي فيما أمركم به "إن الله سميع" أي لأقوالكم "عليم" بنياتكم.
وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته, وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي, حدثنا نافع بن عمر عن أبي مليكة, قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم, فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع, وأشار الاخر برجل آخر, قال نافع: لا أحفظ اسمه, فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما, ما أردت إلا خلافي, قال: ما أردت خلافك, فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاية حتى يستفهمه, ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.
ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد, حدثنا حجاج عن ابن جريج, حدثني ابن أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد, وقال عمر رضي الله عنه: بل أمر الأقرع بن حابس, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي, فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك, فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" حتى انقضت الاية "ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم" الاية. وهكذا رواه ههنا منفرداً به أيضاً وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. حصين بن عمر, هذا وإن كان ضعيفاً لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك, والله أعلم. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا أزهر بن سعد, أخبرنا ابن عون, أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه, فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك ؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار, فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا, قال موسى: فرجع إليه المرة الاخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى قوله "وأنتم لا تشعرون " وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزيناً ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا , بل هو من أهل الجنة" قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة, فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس, وقد تحنط ولبس كفنه فقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى آخر الاية, جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال: أنا من أهل النار, واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: "يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى ؟" فقال سعد رضي الله عنه: إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه: أنزلت هذه الاية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار, فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة" ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به, قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, وعن قطن بن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه, وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثني هدبة بن عبد الأعلى الأسدي, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه, والصحيح أن حال نزول هذه الاية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجوداً, لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس, وهذه الايات نزلت في وفد بني تميم, والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة, والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس, حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاية "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول" قال: قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي, قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال: ما يبكيك يا ثابت ؟ قال: هذه الاية أتخوف أن تكون نزلت في وأنا صيت رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول, فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار, فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى, أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: "اذهب فادعه لي" فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده, فجاء إلى أهله, فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك, فقال: اكسر الضبة, قال: فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ثابت ؟" فقال رضي الله عنه: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الاية نزلت في "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟" فقال: رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله , ولا أرفع صوتي أبدا ًعلى صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأنزل الله تعالى: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" الاية: وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك, فقد نهى الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله, وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما, فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال: من أين أنتما ؟ قالا: من أهل الطائف, فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام, لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائماً, ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه, بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم, ولهذا قال تبارك وتعالى: "ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" كما قال تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً".
وقوله عز وجل: "أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده, خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه, فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض" ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك, وأرشد إليه, ورغب فيه فقال: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً "لهم مغفرة وأجر عظيم" وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين, رجل لا يشتهي المعصية, ولا يعمل بها أفضل, أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم".
2- "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط، والأول أولى. والمعنى لا ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون: المراد من الآية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً "ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" أي لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضاً. قال الزجاج: أمرهم الله بتجليل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار، وقيل المراد بقوله: "ولا تجهروا له بالقول" لا تقولوا يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي الله ويا رسول الله توقيراً له، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف: أي جهراً مثل جهر بعضكم لبعض، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف فإن ذلك كفر، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره. والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور: الأول عن التقدم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام. والثاني عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو في خطاب غيره. والثالث ترك [الجفاء] في مخاطبته ولزوم الأدب في مجاورته، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره. ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله: "أن تحبط أعمالكم" قال الزجاج: أن تحبط أعمالكم التقدير لأن تحبط أعمالكم أي فتحبط، فاللام المقدرة لا المصيرورة كذا قال، وهذه العلة يصح أن تكون للنهي: أي نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط، أو كراهة أن تحبط، أو علة للمنهي: أي لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدي إلى الحبوط، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأول، وجملة "وأنتم لا تشعرون" في محل نصب على الحال، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم. قال الزجاج: وليس المراد وأنتم لا تشعرون يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكف، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم.
2. " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض "، أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً، " أن تحبط أعمالكم "، لئلا تحبط حسناتكم. وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم، " وأنتم لا تشعرون ".
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال: " لما نزلت هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو من أهل الجنة ".
وروي أنه " لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغلب ثابتاً البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبره فقال له: اذهب فادعه، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة فكسرها، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأنزل الله:
2-" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته . " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب . وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول ، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به . " أن تحبط أعمالكم " كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي ، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط ، وذلك إذ انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة وقد روي : "أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهورياً ، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال : يا رسول الله لقد نزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال عليه الصلاة والسلام : لست هنالك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة " . " وأنتم لا تشعرون " أنها محبطة .
2. O ye who believe! Lift not up your voices above the voice of the Prophet, nor shout when speaking to him as ye shout one to another, lest your works be rendered vain while ye perceive not.
2 - O ye who believe! Raise not your voices above the voice of the Prophet, nor speak aloud to him in talk, as ye may speak aloud to one another, lest your deeds become vain and ye perceive not.