[الحجرات : 12] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
12 - (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) أي مؤثم وهو كثير كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين وهم كثير بخلافه بالفساق منهم فلا إثم فيه في نحو ما يظهر منهم (ولا تجسسوا) حذف منه إحدى التاءين لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها (ولا يغتب بعضكم بعضا) لا يذكره بشيء يكرهه وإن كان فيه (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) بالتخفيف والتشديد أي لا يحسن به (فكرهتموه) أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته وقد عرض عليكم الثاني فكرهتموه فاكرهوا الأول (واتقوا الله) عقابه في الاغتياب بأن تتوبوا منه (إن الله تواب) قابل توبة التائبين (رحيم) بهم
قوله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا الآية أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجل أكله ورقاده فنزلت
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، لا تقربوا كثيرا من الظن بالمؤمنين ، وذلك أن تظنوا بهم سوءا ، فإن الظان غير محق . وقال جل ثناؤه :" اجتنبوا كثيرا من الظن " ولم يقل : الظن كله ، إذ كان قد أذن للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض الخير ، فقال : " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " النور : 12 فأذن الله جل ثناؤه للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض الخير وأن يقوله ، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين .
وبنحو الذي قلنا في معنىذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثني أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " يقول : نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن شرا.
وقوله " إن بعض الظن إثم " يقول : إن ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير إثم ، لأن الله قد نهاه عنه ، ففعل ما نهى الله عنه ، إثم .
وقوله " ولا تجسسوا " يقول : ولا يتتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهرو على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما لا تعلمونه من سرائره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبوصالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " ولا تجسسوا " يقول : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله " ولا تجسسوا " قال : خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا " هل تدرون ما التجسس أو التجسيس ؟ هو أن تتبع ، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سره .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان " ولا تجسسوا " قال : البحث .
حثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا " قال : حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه ، حتى أعرف حق هو ، أم باطل . قال : فسماه الله تجسسا ، قال : يتجسس كما يتجسس الكلاب . وقرأ قول الله " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا " .
وقوله " ولا يغتب بعضكم بعضا " يقول : ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الكلاب . ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله صلى الله عليه سولم وقال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك ، والأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثني يزيد بن مخلد الراسطي قال : ثنا خالد بن عبد الله الطحان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : " سئل رسول الله صلى اللله عليه وسلم عن الغيبة فقال : هو أن تقول لأخيك ما فيه ، فإن كنت صادقا فقد اغتبته ، وإن كنت كاذبا فقد بهته " .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة قال : سمعت العلاء يحدث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هل تدرون ما الغيبة ؟ قال : قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما ليس فيه . قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول له ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن يكن فيه ما تقول فقد بهته " .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا سعيد بن الربيع قال : ثنا شعبة عن العباس عن رجل سمع أبن عمر يقول : إذا ذكرت الرجل بما فيه ، فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته . وقال شعبة مرة أخرى : وإذا ذكرته بما ليس فيه ، فهي فرية قال أبو موسى : هو عباس الجريري .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : إذا ذكرت الرجل أسوأ ما فيه فقد اغتبته ، وأذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : إذا قلت في الرجل أسوأ ما فيه فقد اغتبته ، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عمر بن عبيد عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : الغيببة : أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه ، والبهتان : أن يقول ما ليس فيه .
حدثنا يونس بن عبد الاعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني معاوية بن صالح عن كثير بن الحارث عن القاسم مولى معاوية ، قال : سمعت ابن أم عبد يقول : ما التقم أحد لقمة أشر من اغتياب المؤمن ، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه ، وإن قال فيه ما لا يعلم فقد بهته .
حدثنا أبو السائب قال : ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا المعتمر قال : سمعت يونس عن الحسن أنه قال في الغيبة : أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله ، فإذا ذكرته بما ليس فيه فيه فذلك البهتان .
حدثنا ابن أبي الشوارب قال : ثنا عبد الواحد بن زياد قال : ثنا سليمان الشيباني قال : ثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة ، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أي أنها قصيرة ، فقال النبي صلى الله عليه سلم : اغتبتيها .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا أبو داود قال : ثنا أبو داود قال :ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : لو مر بك أقطع ، فقلت : ذاك الأقطع كانت منك غيبة ، قال ‎: وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك .
حدثنا ابن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة قال : سمعت معاوية بن قرة يقول : لو مر بك رجل أقطع ، فقلت له : إنه اقطع كنت قد اغتبته . قال : فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال : صدق .
حدثني جابر بن الكردي قال : ثنا ابن أبي أويس قال : ثني أخي أبو بكر عن حماد بن أبي حميد عن موسى بن وردان عن أبي هريرة " أن رجلا قام عند رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فرأوا في قيامه عجزا ، فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكلتم أخاكم واغتبتموه " .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثمان بن سعيد قال : ثنا حبان بن علي العنزي عن مثنى بن صباح عن عمرو بن شعيب عن معاذ بن الجبل قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر القوم رجلا ، فقالوا : ما يأكل إلا ما أطعم ، وما يرحل إلا ما رحل له ، وما أضعفه ‍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، : اغتبتم أخاكم ، فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدث بما فيه ؟ قال : بحسبكم أن تحدثوا عن أخيكم ما فيه " .
حدثنا أبوكريب قال : ثنا خالد بن محمد بن جعفر عن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم : " إذا ذكرت أخاك بما يكره فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قال : كنا نحدث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه ، وتعيبه بما فيه ، وإن كذبت عليه فذلك البهتان .
وقوله " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " يقول : تعالى ذكره للمؤمنين : أيحب أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا ، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه ، لأن الله حرم ذلك عليكم ، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته ، فاكرهوا غيبته حيا ، كما كرهتم لحمه ميتا ، فإن الله حرم غيبته حيا كما حرم أكل لحمه ميتا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله " ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " قال : حرم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء ، كما حرم الميتة .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " قالوا : نكره ذلك ، قال : فكذلك فاتقوا الله .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " يقول : كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره غيبته وهو حي .
وقوله " واتقوا الله إن الله تواب رحيم " يقول تعالى ذكره : فاتقوا الله أيها الناس ، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن أحدكم بأخيه المؤمن ظن السوء ، وتتبع عوراته ، والتجسس عما ستر عنه من أمره ، واغتيابه بما يكرهه ، تريدون به شينه وعيبه ، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم " إن الله تواب رحيم " يقول : إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه ، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه .
واختلفت القراء في قراءة قوله " لحم أخيه ميتا " فقرأته عامة قراء المدينة بالتثقيل ميتا ، وقرأته عامة عامة قراء الكوفة والبصرة " ميتا " بالتخيفيف ، وهما قراءتان عندنا معرفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " قيل : إنها : نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما ، وذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما ، فضم سلمان إلى رجلين ، فقتدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئاً ، فجاءا فلم يجدا طعاماً وإداماً ، فقالا له : انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً وإداماً ، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إليه فقال أسامة : ما عندي شيء ، فرجع إليهما فأخبرهما ، فقالا : قد كان عنده ولكنه بخل ، ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً ، فقالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء ، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، فقالا : يا نبي الله ، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحماً ولا غيره ، فقال : ( ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة " فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " ذكره الثعلبي ، أي لا تظنوا بأهل الخير سواء إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير .
الثانية ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " ، لفظ البخاري ، قال علماؤنا : فالظن هنا وفي الآية هو التهمة ، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها ، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلاً ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى : ( ولا تجسسوا ) وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه ، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وإن شئت قلت : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظن الفساد به والخيانة محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث ، و " عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء " ، وعن الحسن : كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام ، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت .
الثالثة : للظن حالتان : حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها ، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن ، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات ، والحالة الثانية ، أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده فهذا هو الشك فلا يجوز الحكم به ، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفاً وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به ، تحكماً في الدين ودعوى في المعقول ، وليس في ذلك أصل يعول عليه ، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه ، وإنما أورد الذم في بعضه ، وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة ( إياكم والظن ) فإن هذا لا حجة فيه ، لأن الظن في الشريعة قسمان : محمود ومذموم فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه ، والمذموم ضده ، بدلالة قوله تعالى : " إن بعض الظن إثم " ، وقوله : " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " [ النور : 12 ] ، وقوله ، " وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا " [ الفتح : 12 ] ، و" قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان أحدكم مادحاً أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحداً " ، وقال : " إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض " خرجه أبو داود وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح ، قاله الماوردي .
الرابعة : قوله تعالى : " ولا تجسسوا " وقرأ أبو رجاء و الحسن باختلاف وغيرهما ( ولا تحسسوا ) بالحاء ، واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ، فقال الأخفش : ليس تبعد إحداهما من الأخرى ، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك ، والتحسس ( بالحاء ) طلب الأخبار والبحث عنها ، وقيل : إن التجسس ( بالجيم ) هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور ، وبالحاء : هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه ، وقول ثان في الفرق : أنه بالحاء تطلبه لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره ، قاله ثعلب والأول أعرف ، جسست الأخبار وتحسستها أي تفحصت عنها ، ومنه الجاسوس ، ومعنى الآية ، خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطع عليه بعد أن ستره الله ، وفي كتاب أبي داود " عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " ، فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها ، وعن المقدام بن معدي كرب عن أبي أمامة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " وعن زيد بن وهب قال : أتي ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمراً ، فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به ، وعن أبي برزة الأسلمي قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتيع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " ، وقال عبد الرحمن بن عوف : حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة ، إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن شرب فما ترى ! ؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال الله تعالى : " ولا تجسسوا " وقد تجسسنا ، فانصرف عمر وتركهم ، وقال أبو قلابة : حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن ، إن هذا لا يحل لك ! قد نهاك الله عن التجسس ، فخرج عمر وتركه ، وقال زيد بن أسلم : خرج عمر وعبد الرحمن يعسان ، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب ، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح ، فقال عمر : وأنت بهذا يا فلان ؟ فقال : وأنت بهذا يا أمير المؤمنين ! قال عمر : فمن هذه منك ؟ قال امرأتي ، قال فما في هذا القدح ؟ قال ماء زلال فقال للمرأة : وما الذين تغنين ؟ فقالت :
تطاول هذا الليل وأسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم قال الرجل : ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين ! قال الله تعالى : ( ولا تجسسوا ) قال صدقت .
قلت : لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل ، لأن عمر لا يقر على الزنى ، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكاراً لزوجها ، وأنها قالتها في مغيبه عنها ، والله أعلم ، وقال عمرو بن دينار : كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت ، فكان يعودها فماتت فدفنها ، فكان هو الذي نزل في قبرها ، فسقط من كمه كيس بمن دنانير ، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال : لأكسفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه ، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل ناراً فجاء إلى أمه فقال : أخبريني ما كان عمل أختي ؟ فقال : قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها ! فلم يزل بها حتى قالت له : كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها ، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم ، فتتجسس عليهم وتخرج أسرارهم ، فقال : بهذا هلكت !
الخامسة : قوله تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضا " نهى عز وجل عن الغيبة وهي أن تذكر الرجل بما فيه ، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقوم فقد أغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته " ، يقال : اغتابه اغتياباً إذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، قال الحسن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى : الغيبة والإفك والبهتان ، فأما الغيبة فهو أن تقوم في أخيك ما هو فيه وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه ، وعن شعبة قال : قال لي معاوية يعني ابن قرة : لو مر بك رجل أقطع ، فقلت هذا أقطع كان غيبة ، قال شعبة : فذكرته لـ أبي إسحاق فقال صدق ، و" وروى أبو هريرة أن الأسلمي ماعزاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما ،ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن ذا يا رسول الله ، قال : انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ، فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال : فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيديه إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .
السادسة : قوله تعالى : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " مثل الله الغيبة بأكل الميتة ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه وقال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر ، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس ، وقال قتادة : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حياً واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
و " قال صلى الله عليه وسلم : ما صام من ظل يأكل لحوم الناس " ، فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم ، فمن تنقص مسلماً أو ثلم فهو كالآكل لحمه حياً ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتاً ، وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يحمشون وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبريك ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " وعن المستورد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " ، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين " وقوله للرجلين : " ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما " ن وقال أبو قلابة الرقاشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحداً مذ عرفت ما في الغيبة وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحداً ، ولا يدع أحداً يغتاب أحداً عنده ، بنهاه فإن انتهى وإلا قام وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال : " قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزاً فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلاناً ! فقال : أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه " وعن سفيان الثوري قال : أدنى الغيبة أن تقول إن فلاناً جعد قطط ، إلا أنه يكره ذلك ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وذكر الناس فإنه داء ، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء ، وسمع علي بن الحسين رضي الله عنه رجلاً يغتاب آخر ، فقال : وإياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس ، وقيل لعمرو بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك قال : إياه فارحموا ، وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ! فقال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي .
السابعة : ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب وقالوا : ذلك فعل الله به ، وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا : لا تكون الغيبة إلا في الخلق والخلق والحسب ، والغيبة في الخلق أشد ، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها ، وهذا كله مردود ، أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية :أنها امرأة قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته ، خرجه أبو داود ، وقال فيه الترمذي : حديث صحيح ، وما كان في معناه حسب ما تقدم ، وإجماع العلماء قديماً على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب ، وأما الثاني فمردود أيضاً عند جميع العلماء ، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين ، لأن عيب الدين أعظم العيب ، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه ، وكفى رداً لمن قال هذا القول قوله عليه السلام : إذا قلت في أخيك ما يكره فقد اغتبته ، الحديث ، فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصاً ، وكفى بعموم "قول النبي صلى الله عليه وسلم : دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " ، وذلك عام للدين والدنيا وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه " ، فعم كل عرض ، فمن خص من ذلك شيئاً دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
الثامنة : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ، وهل يستحل المغتاب ؟ اختلف فيه ، فقالت فرقة : ليس عليه استحلاله ، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه ، واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه ، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه ، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن وقالت فرقة : هي مظلمة ، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ، وقالت فرقة : هي مظلمة وعليه الاستحلال منها ، واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته "، خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه "، وقد تقدم هذا المعنى في سورة آل عمران عند قوله تعالى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء " [ آل عمران : 169 ] ، وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة : ما أطول ذيلها ! فقالت لها عائشة : لقد اغتبتيها فاستحليها ، فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها ، وأما قول من قال : إنما الغيبة في المال والبدن ، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه ، وذلك ليس في البدن ولا في المال ، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال ، وقد قال الله تعالى في القاذف ، " فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " [ النور : 13 ] ، وقد " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ك من بهت مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال "، وذلك كله في غير المال والبدن ، وأما من قال : إنها مظلمة ، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها ، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال : كفارتها أن يستغفر لصاحبها ، لأن قوله مظلمة تثبت ظلامة المظلوم ، فإذا ثبت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له ، وأما قول الحسن فليس بحجة ، وقد " قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه " ، وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله ، ورأى أنه لا يحل له ما حرم الل عليه ، منهم سعيد بن المسيب قال : لا أحلل من ظلمني ، وقيل لـ ابن سيرين : يا أبا بكر ، هذا رجل سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده ، فقال : إني لم أحرمها عليه فأحلها ، إن الله حرم الغيبة عليه ، وما كنت لأحل ما حرم الله عليه أبداً ، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل ، وهو الحجة والمبين ، والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو ، وقد قال تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " [ الشورى : 40 ] .
التاسعة : ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر ، فإن في الخبر : " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " ، و " قال صلى الله عليه وسلم : اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " ، فالغيبة إذاً في المرء الذي يستر نفسه ، وروي عن الحسن أنه قال : ثلاثة ليست لهم حرمة : صاحب الهوى ، والفاسق المعلن ، والإمام الجائز ، وقال الحسن لما مات الحجاج : اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته وفي رواية شينه فإنه أتانا أخيفش أعيمش ، يمد بيد قصيرة البنان ، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله ، يرجل جمته ويخطر في مشيته ، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل ، ثم يقول الحسن : هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط ، وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال : ليس لأهل البدع غيبة ، وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي ، ليس بغيبة ، وعلماء الأمة على ذلك مجمعة و"قال النبي صلى الله عليه وسلم : لصاحب الحق مقال " ، وقال : " مطل الغني ظلم "، وقال : " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " ، ومن ذلك الاستفتاء ، كـ " قول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي ، فآخذ من غير علمه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم فخذي ، فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها " ، ولم يرها مغتابة ، لأنه لم يغير عليها ، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها ، وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة كـ"قوله صلى الله عليه وسلم : أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " فهذا جائز ، وكان مقصوده ألا تغتر بنت قيس بهما ، قال جميعه المحاسبي رحمه الله .
العاشرة : قوله تعالى : " ميتا " وقرئ ( ميتاً ) وهونصب على الحال من اللحم ويجوز أن ينصب على الأخ ، ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى : " فكرهتموه " وفيه وجهان : أحدهما فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة ، روي عن مجاهد ، الثاني : فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس وقال الفراء : أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه ، وقيل : لفظه خبر ومعناه أمر ، أي اكرهوه " واتقوا الله " عطف عليه ، وقيل : عطف على قوله : ( اجتنبوا ) ، ( ولا تجسسوا ) " إن الله تواب رحيم " .
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن, وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً, فليتجنب كثير منه احتياطاً وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً, وأنت تجد لها في الخير محملاً. وقال أبو عبد الله بن ماجة: حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحمصي, حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي قيس النضري, حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك, ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً" تفرد به ابن ماجة من هذا الوجه, وقال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث, ولا تجسسوا ولاتحسسوا ولا تنافسوا ولاتحاسدوا, ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً" رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن العتبي عن مالك به.
وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا, وكونوا عباد الله إخواناً, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي, حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني, حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري, حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه, عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن" فقال الرجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حسدت فاستغفر الله, وإذا ظننت فلا تحقق, وإذا تطيرت فامض" وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد رضي الله عنه قال: أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً, فقال عبد الله رضي الله: قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دخين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم, قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني داع لهم الشرط فتأخذهم , فقال له عقبة: ويحك لا تفعل ؟ فإني سمعت رسول الله يقول: "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤدة من قبرها" ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه, وقال سفيان الثوري عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم" فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها, ورواه أبو داود منفرداً به من حديث الثوري به.
وقال أبو داود أيضاً: حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة, وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" "ولا تجسسوا" أي على بعضكم بعضاً والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالباً في الخير كما قال عز وجل إخباراً عن يعقوب أنه قال "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله" وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً" وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم, والتدابر: الصرم, رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً" فيه نهي عن الغيبة, وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القعنبي, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وقال أبو داود: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى عن سفيان, حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد: تعني قصيرة, فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنساناً فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا" ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري, عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب الأرحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال: حسن صحيح.
وقال ابن جرير: حدثني ابن أبي الشوارب, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا سليمان الشيباني, حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها, فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي إنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اغتبتها" والغيبة محرمة بالإجماع, ولا يستثنى من ذلك إلا من رجحت مصلحته, كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم, لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة!" وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها, وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: "أما معاوية فصعلوك, وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" وكذا ما جرى مجرى ذلك, ثم بقيتها على الترحيم الشديد, وقد ورد فيها الزجر الأكيد, ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه" أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوه ذاك شرعاً, فإن عقوبته أشد من هذا, وهذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى الله عليه وسلم في العائد في هبته: "كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه" وقد قال: "ليس لنا مثل السوء" وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
وقال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى , حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه, حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم" ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال: حسن غريب. وحدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا الأسود بن عامر, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" تفرد به أبو داود وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهيم بن دينار, حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات, عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها ـ أو قال ـ في خدورها, فقال: يا معشر من آمن بلسانه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته".
(طريق أخرى) عن ابن عمر. قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: حدثنا عبد الله بن ناجية, حدثنا يحيى بن أكثم, حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه, لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" قال: ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح, حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن محكول, عن وقاص بن ربيعة عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم, ومن كسا ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم, ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة" تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة, حدثنا صفوان, حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخشمون وجوههم وصدورهم, قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن عبدة, أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي, أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال: ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير, رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم, فيجذون منه الجذة مثل النعل ثم يضعونها في في أحدهم. فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه, فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة, فيقال: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه وهو يكره على أكل لحمه, هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه بطوله في أول تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة, وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوماً ولا يفطرن أحد حتى آذن له, فصام الناس, فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائماً فائذن لي فأفطر فأذن له ويجيء الرجل فيقول ذلك, فيأذن له حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين, فائذن لهما فليفطرا, فأعرض عنه ثم أعاد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صامتا, وكيف صام من ظل يأكل من لحوم الناس ؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا" ففعلتا, فقاءت كل واحدة منهما علقة, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار" إسناد ضعيف ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون.
حدثنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلاً يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ههنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا تموتان من العطش, أراه قال بالهاجرة, فأعرض عنه أوسكت عنه, فقال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا تموتان, فقال: ادعهما. فجاءتا قال: فجيء بقدح أو عس, فقال لإحداهما قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح, ثم قال للأخرى : قيئي, فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره حتى ملأت القدح, ثم قال: "إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما, جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس". وهكذا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي, كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي به مثله أو نحوه, ثم رواه أيضاً من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان بن غياث. حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنهم أمروا بصيام, فجاء رجل في نصف النهار فقال: يا رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو ثلاثاً ثم قال "ادعهما" فجاء بعس أو قدح فقال لإحداهما: قيئي. فقاءت لحماً ودماً عبيطاً وقيحاً, وقال للأخرى مثل ذلك ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما. أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحاً. قال البيهقي: كذا قال عن سعد, والأول وهو عبيد أصح.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد, حدثنا أبي, حدثنا أبي أبو عاصم, حدثنا ابن جريج, أخبرني أبو الزبير عن ابن عم لأبي هريرة أن ماعزاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت, فأعرض عنه حتى قالها أربعاً, فلما كان في الخامسة قال: وتدري ما الزنا ؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً. قال: ما تريد إلى قول هذا ؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر ؟ قال: نعم يا رسول الله قال: فأمر برجمه, فرجم, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه, فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: "أين فلان وفلان ؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه, والذي نفسي بيده إنه الان لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" إسناد صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالصمد, حدثني أبي. حدثنا واصل مولى ابن عيينة, حدثني خالد بن عرفطة عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس".
(طريق أخرى) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا إبراهيم بن الأشعث, حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن نفراً من المنافقين اغتابوا ناساً من المسلمين فلذلك بعثت هذه الريح" وربما قال "فلذلك هاجت هذه الريح" وقال السدي في قوله تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" زعم أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما وينال من طعامهما, وأن سلمان رضي الله عنه لما سار الناس ذات يوم, وبقي سلمان رضي الله عنه نائماً لم يسر معهم, فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه, فضربا الخباء فقالا: ما يريد سلمان أو هذا العبد شيئاً غير هذا أن يجيء إلى طعام مقدور وخباء مضروب, فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداماً, فانطلق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قدح له فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال صلى الله عليه وسلم: "ما يصنع أصحابك بالأدم ؟ قد ائتدموا" فرجع سلمان رضي الله عنه يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقا حتى أتيا رسول الله فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما" قال: ونزلت "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" أنه كان نائماً.
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حبان بن هلال عن حماد بن سلمة عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار, وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاماً فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه, فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام ويستأدمانك فقال صلى الله عليه وسلم: "إنهما قد ائتدما" فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بلحم أخيكما, والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما" فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله, فقال صلى الله عليه وسلم "مراه فليستغفر لكما" وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا محمد بن مسلم عن محمد بن إسحاق, عن عمه موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الاخرة فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً ـ قال ـ فيأكله ويكلح ويصيح" غريب جداً.
وقوله عز وجل: "واتقوا الله" أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه "إن الله تواب رحيم" أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود, وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع, وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه فطريقه إذاً أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها, وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته, لتكون تلك بتلك كما قال الإمام أحمد, حدثنا أحمد بن الحجاج, حدثنا عبد الله, أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجهني أخبره عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حمى مؤمناً من منافق يغتابه, بعث الله تعالى إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم, ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال" وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به بنحوه. وقال أبو داود أيضاً: حدثنا إسحاق بن الصباح, حدثنا ابن أبي مريم, أخبرنا الليث, حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يخذل امراءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه, إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته, وما من امرىء ينصر امرءاً مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته" تفرد به أبو داود.
12- "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن" الظن هنا: هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظن يظنه حتى يعلم وجهه، لأن من الظن ما يجب اتباعه، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظن، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم، ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به فارتفع عن الشك والتهمة. قال الزجاج: هو أن يظن بأهل الخير سواءاً، فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءاً، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم. وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، وجملة "إن بعض الظن إثم" تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن، وهذا البعض هو ظن السوء بأهل الخير، والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة. ومما يدل على تفييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى: "وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً" فلا يدخل في الظن المأمور باجتنابه بشيء من الظن المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كياداً للدين وشذوذاً عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها. ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال: "ولا تجسسوا" التجسس: البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم. قرأ الجمهور تجسسوا بالجيم، ومعناه ما ذكرنا. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء. قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما من الآخر، لأن التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقيل إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره قاله ثعلب: "ولا يغتب بعضكم بعضاً" أي لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوءه، والغيبة: أن تذكر الرجل بما يكرهه، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. ذكر معناه الزجاج. وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، وتستكرهه الجبلة البشرية، فضلاً عن كونه محرماً شرعاً "فكرهتموه" قال الفراء: تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا، والمعنى: فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً قال الرازي: الفاء في تقدير جواب كلام. كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره: عرض عليكم ذلك فكرهتموه "واتقوا الله" بترك ما أمركم باجتنابه "إن الله تواب رحيم" لمن اتقاه عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم "لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت فيهم "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الآية". وقد روي نحو هذا من وجوه أخر. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجت في نفسي من هذه الآية، إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض، فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس
"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" االآية. قال: كان قتال بالنعال والعصي، فأمرهم أن يصلحوا بينهما. وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت. ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم" قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال وسليمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولا تلمزوا أنفسكم" قال: لا يطعن بعضكم على بعض. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب، وأهل السنن الأربع وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة "ولا تنابزوا بالألقاب" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحداً منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه، فنزلت "ولا تنابزوا بالألقاب". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب: أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في الآية قال: إذا كان الرجل يهودياً فأسلم فيقول: يا يهودي يا نصراني يا مجوسي، ويقول للرجل المسلم: يا فاسق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله :" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " قال : نهى الله المؤمن ان يظن بالمؤمن سوءا . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولا تجسسوا" قال: نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن زيد بن وهب قال: أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان تفطر لحيته خمراً، فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه. وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين والتجسس عن عيوبهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: "ولا يغتب بعضكم بعضاً" الآية قال: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة. والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث.
12. " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن "، قيل: " نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيء لهما شيئا، فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئاً؟ قال: لا، غلبتني عيناي، قالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى أسامة بن زيد، وقل له: إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك، وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله، فأتاه فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة طعام ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئاً، فلما رجع قالا: لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثم انطلقا يتجسسان، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما، قالا: والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً، قال: بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة، فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ""، وأراد: أن يظن بأهل الخير سوءاً " إن بعض الظن إثم "، قال سفيان الثوري : الظن ظنان: أحدهما إثم، وهو أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم.
" ولا تجسسوا "، التجسس: هو البحث عن عيوب الناس، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوات عباد الله إخواناً ".
أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيي بن أكثم ، أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورات المسلمين، يتتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ".
قال ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك.
وقال زيد بن وهب: قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به " ولا يغتب بعضكم بعضاً "، يقول: لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ".
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو الطاهر الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده "أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يرحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتموه فقالوا: إنما حدثنا بما فيه، قال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه ".
قوله عز وجل: " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه "، قال مجاهد : لما قيل لهم (( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً )) قالوا: لا، قيل: " فكرهتموه " أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً.
قال الزجاج : تأويله: إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك، وهو ميت لا يحس بذلك.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو، حدثنا راشد بن سعد و عبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخشمون بها وجوههم ولحومهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ".
قال ميمون بن سياه : بينا أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول: كل، قلت: يا عبد الله ولم آكل؟ قال: بما اغتبت عبد فلان، فقلت: والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً، قال لكنك استمعت ورضيت به، فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب عنده أحدا.
" واتقوا الله إن الله تواب رحيم ".
12-" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن " كونوا منه على جانب ، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل ، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ، وما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يحالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ، وما يباح كالظن في الأمور المعاشة . " إن بعض الظن إثم " مستأنف للأمر ، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه . والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي بكسرها . " ولا تجسسوا " ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس ، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس .وفي الحديث " لا تتبعوا عورات المسلمين ،فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته " . " ولا يغتب بعضكم بعضاً " ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته ، و"سئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال أن تذكر أخاك بما يكرهه ،فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته " . " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً " تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وجعل المأكول أخاً وميتاً وتعقيب ذلك بقوله :" فكرهتموه " تقريراً وتحقيقاً لذلك . والمعنى أن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته ، وانتصاب " ميتاً " على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع . " واتقوا الله إن الله تواب رحيم " لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرظ منه ، والمبالغة في الـ" تواب " لأنه بليغ في قبول التوبة إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب ، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم ، روي : "أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً ، وكان أسامة على طعامه فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما ،فقالا : ما تناولنا لحماً ،فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت" .
12. O ye who believe! Shun much suspicion; for lo! some suspicion is a crime. And spy not, neither backbite one another. Would one of you love to eat the flesh of his dead brother? Ye abhor that (so abhor the other)! And keep your duty (to Allah). Lo! Allah is Relenting, Merciful.
12 - O ye who believe! Avoid suspicion as much (as possible): for suspicion is some cases is a sin: and spy not on each other, nor speak ill of each other behind their backs. Would any of you like to eat the flesh of his dead brother? Nay, ye would abhor it But fear God: for God is Oft Returning, Most Merciful.