[الزخرف : 71] يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
71 - (يطاف عليهم بصحاف) بقصاع (من ذهب وأكواب) جمع كوب وهو إناء لا عروة له ليشرب الشارب من حيث شاء (وفيها ما تشتهيه الأنفس) تلذذا (وتلذ الأعين) نظرا (وأنتم فيها خالدون)
يقول تعالى ذكره : يطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الآخرة بصحاف من ذهب ، وهي جمع للكثير من الصحفة . والصحفة : القصعة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ،" يطاف عليهم بصحاف من ذهب " قال : القصاع .
حدثنا ابو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : < إن أدنى أهل الجنة منزلة ، من له قصر فيه سبعون ألف خادم ، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبها ، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم > .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : < إن أخس أهل الجنة منزلاً من له سبعون ألف خادم ، مع كل خادم صحفة من ذهب ، لو نزل به جميع أهل الأرض لأوسعهم ، لا يستعين عليهم بشيء من غيره ، وذلك في قول الله تبارك وتعالى : " لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد " [ ق : 35 ] ولهم " فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال :ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : < ما أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه > .
وقوله : " وأكواب " وهي جمع كوب ، والكوب : الإبريق المستدير الرأس ، الذي لا أذن له ولا خرطوم ، وإياه عنى الأعشى بقوله :
صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال :ثنا أحمد ، قال :ثنا أسباط ، عن السدي " وأكواب " قال : الأكواب التي ليست لها آذان . ومعنى الكلام : يطاف عليهم فيها بالطعام في صحاف من ذهب ، وبالشراب في أكواب من ذهب ، فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب ، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه < وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين > يقول تعالى ذكره : لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون ، وتلذ أعينكم " وأنتم فيها خالدون " يقول : وأنتم فيها ماكثون ، لا تخرجون منها أبداً .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن سابط " أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أحب الخيل ، فهل في الجنة خيل ؟ فقال : أن يدخلك الجنة إن شاء ، فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت ، فقال أعرابي : يا رسول الله إني أحب الإبل ، فهل في الجنة إبل ؟ فقال : يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة إن شاء الله ، ففيها ما اشتهت نفسك ، ولذت عيناك " .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار ، عن محمد بن سعد الأنصاري ، عن أبي ظبية السلفي ، قال :إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة ، قال : فتقول : ما أمطركم ؟ قال : فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم ، حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أتراباً .
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن علي بن أبي الوليد ، قال : قيل لمجاهد في الجنة سماع ؟ قال : إن فيها لشجراً يقال له العيص ، له سماع لم يسمع السامعون إلى مثله .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : أخبرنا معاوية بن صالح ، قال : ثني سليمان بن عامر ، قال : سمعت أبا أمامة ، يقول : إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر هو يطير ، فيقع متفلقاً نضيجاً في كفه ، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه ، ثم يطير ، ويشتهي الشراب ، فيقع الإبريق في يده ، ويشرب منه ما يريد ، ثم يرجع إلى مكانه .
واختلفت القراء في قراءة قوله : " وفيها ما تشتهيه الأنفس " فقرأته عامة قراء المدينة والشام : " ما تشتهيه " بزيادة هاء ، وكذلك ذلك في مصاحفهم . وقرأ ذلك عامة قراء العراق < تشتهي > بغير هاء ، وكذلك هو في مصاحفهم .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب " أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب ، ولم يذكر الأطعمة والأشربة ، لأنه يعلم لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء ، وذكر الذهب في الصحاف واستغني به عن الإعادة في الأكواب ، كقوله تعالى : " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " [ الأحزاب : 35 ] ، وفي الصحيحين " عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة "، وقد مضى في سورة الحج ، أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريماً مؤبداً ، والله أعلم ، وقال المفسرون : يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب ، يغدي عليه بها ، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها ، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها ، لا يشبه بعضه بعضاً ، ويراح عليه بمثلها ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام ، مع كل غلام صحفة من ذهب ، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها ، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها ، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها ، لا يشبه بعضه بعضاً " وأكواب "أي ويطاف بأكواب ، كما قال تعالى : "يطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب " [ الإنسان : 15 ] ، وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال : يؤتون بالطعام والشراب ، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم ، ويفيض عرقاً من جلودهم أطيب من ريح المسك ، ثم قرأ " شرابا طهورا " [ الإنسان : 21 ] ، وفي صحيح مسلم ، " عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا ينفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام ؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والكبير " ، وفي رواية " كما يلهمون النفس " .
الثانية : روى الأئمة من حديث أم سلمة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، وقال : " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها " ، وهذا يقتضي التحريم ، ولا خلاف في ذلك .
واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك ، قال ابن العربي : والصحيح أنه لا يجوز للرجل استعمالها في شيء لـ " قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير : هذان حرام لذكور أمتي حل لإناثها " ، والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل على تحريم استعمالها ، لأنه نوع من المتاع فلم يجز أصله الأكل والشرب ، ولأن العلة في ذلك استعجال أمر الآخرة ، وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع ولـ " أنه صلى الله عليه وسلم قال : هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " ، فلم يجعل لنا فيها حظاً في الدنيا .
الثالثة : إذا كان الإناء مضبباً بهما أو فيه حلقة منهما ، فقال مالك : لا يعجبني أن يشرب فيه ، وكذلك المرآة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال : لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن سيرين : كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة ، فقال أبو طلحة : لا أغير شيئاً مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتركه .
الرابعة : إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها ، لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور ، وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها ، وهو معنى فاسد ، فإن كسرها واجب فلا ثمن لقيمتها ، ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال وغير هذا لا يلتفت إليه .
قوله تعالى : " بصحاف " قال الجوهري : الصحفة كالقصعة والجمع صحاف قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ، ثم الصحفة تشبع الخمسة ، ثم الملكة تشبع الرجلين والثلاثة ، ثم الصحيفة تشبع الرجل ، والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف .
قوله تعالى : " وأكواب " قال الجوهري : الكوب كوز لا عروة له ، والجمع أكواب ، قال الأعشى يصف الخمر :
صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن
وقال آخر :
متكئاً تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب
وقال قتادة : الكوب المدور القصير العنق القصير العروة ، والإبريق : المستطيل العنق الطويل العروة ، وقال الأخفش : الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها ، وقال قطرب : هي الأباريق التي ليست لها عرى ، وقال مجاهد : إنها الآنية المدورة الأفواه ، السدي : هي التي لا آذان لها ، ابن عزيز : ( أكواب ) أباريق لا عرى لها ولا خراطيم ، واحدها كوب .
قلت : وهو معنى قول : مجاهد و السدي : وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى .
قوله تعالى : " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين " روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من خيل ؟ قال : إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت قال : وسأله رجل فقال يا رسول الله ، هل في الجنة من إبل ؟ قال : فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال : إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك " ، وقرأ أهل المدينة و ابن عامر وأهل الشام ، ( وفيها ما تشتهيه الأنفس ) ، الباقون ( تشتهي الأنفس ) أي تشتهيه الأنفس ، تقول الذي ضربت زيد ، أي الذين ضربته زيد ، " وتلذ الأعين " تقول : لذ الشيء يلذ لذاذاً ، ولذاذة ، ولذذت بالشيء ألذ ( بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل ) لذاذاً ولذاذة ، أي وجدته لذيذاً ، والتذذت به وتلذذت به بمعنى ، أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر ، وقال سعيد بن جبير : ( وتلذ الأعين ) النظر إلى الله عز وجل ، كما في الخبر : " أسألك لذة النظر إلى وجهك " ، " وأنتم فيها خالدون " باقون دائمون ، لأنها لو انقطعت لتبغضت .
يقول تعالى: هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل "إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون" أي فإنها كائنة لا محالة وواقعة, وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها فحينئذ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم, وقوله تعالى: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة, إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه, وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران, فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة, فذكر خليله فقال: اللهم إن فلاناً خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر, وينبئني أني ملاقيك, اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثلما أريتني, وترضى عنه كما رضيت عني, فيقال له اذهب فلو تعلم ماله عندي لضحكت كثيراً وبكيت قليلاً قال: ثم يموت الاخر فتجتمع أرواحهما فيقال: ليثن أحدكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل. وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك. ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير, ويخبرني أني غير ملاقيك. اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي. قال: فيموت الكافر الاخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل! رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة: صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين, وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن أحمد عن هشام بن عبد الله بن كثير, حدثنا أبو جعفر محمد بن الخضر بالرقة عن معافي, حدثنا حكيم بن نافع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والاخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته في".
وقوله تبارك وتعالى: " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " ثم بشرهم فقال: "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين" أي آمنت قلوبهم وبواطنهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم, قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع فينادي مناد "يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون" فيرجوها الناس كلهم, قال: فيتبعها "الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين" قال: فييأس الناس منها غير المؤمنين. "ادخلوا الجنة" أي يقال لهم ادخلوا الجنة "أنتم وأزواجكم" أي نظراؤكم "تحبرون" أي تتنعمون وتسعدون وقد تقدم في سورة الروم. "يطاف عليهم بصحاف من ذهب" أي زبادي آنية الطعام "وأكواب" وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى " وفيها ما تشتهيه الأنفس " وقرأ بعضهم تشتهيه الأنفس "وتلذ الأعين" أي طيب الطعام والريح وحسن المنظر. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد قال: إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد, يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب, ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله, شهوته في آخرها كشهوته في أولها, ولو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثنا عمرو بن سواد السرحي, حدثني عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم وذكر الجنة فقال: "والذي نفس محمد بيده, ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه, ثم يخطر على باله طعام آخر فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن هو ابن موسى حدثنا سكين بن عبد العزيز, حدثنا الأشعث الضرير عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات وهو على السادسة وفوقه السابعة, وإن له ثلثمائة خادم ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة ـ ولا أعلمه إلا قال من ذهب في كل صحفة لون ليس في الأخرى, وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره, ومن الأشربة ثلثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الاخر, وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره, وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص مما عندي شيء, وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا, وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض" وقوله تعالى: "وأنتم فيها" أي في الجنة "خالدون" أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولاً.
ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم, فإنه لا يدخل أحداً عمله الجنة, ولكن برحمة الله وفضله, وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات قال ابن أبي حاتم: حدثنا الفضل بن شاذان المقري, حدثنا يوسف بن يعقوب يعني الصفار, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى منزله من الجنة, فيكون له حسرة فيقول "لو أن الله هداني لكنت من المتقين" وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول "وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله" فيكون له شكراً" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار, فالكافر يرث المؤمن منزله من النار. والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة. وذلك قوله تعالى "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" وقوله تعالى: "لكم فيها فاكهة كثيرة" أي من جميع الأنواع "منها تأكلون" أي مهما اخترتم وأردتم. ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النعمة والغبطة, والله تعالى أعلم.
71- "يطاف عليهم بصحاف من ذهب" الصحاف جمع صحفة: وهي القصعة الواسعة العريضة. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة، وهي تشبع عشرة، ثم الصحفة، وهي تشبه خمسة، ثم المكيلة وهي تشبه الرجلين والثلاثة، والمعنى: أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في صحاف الذهب "و" لهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في الـ "أكواب" وهي جمع كوب. قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب. قال الأعشى:
صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن
وقال آخر:
متكئاً تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب
قال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة، والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وقال قطرب: هي الأباريق التي ليس لها عرى "وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" وقرأ الجمهور "تشتهي" وقرأ نافع وابن عامر وحفص "تشتهيه" بإثبات الضمير العائد على الموصول، والمعنى: ما تشتهيه أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة ونحوهما مما تطلبه النفس وتهواه كائناً ما كان، وتلذ الأعين من كل المستلذات التي تستلذ بها وتطلب مشاهدتها، تقول لذ الشيء يلذ لذاذاً ولذاذة: إذا وجده لذيذاً والتذ به، وفي مصحف عبد الله بن مسعود تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين "وأنتم فيها خالدون" لا تموتون ولا تخرجون منها.
71. " يطاف عليهم بصحاف "، جمع صحفة وهي القصعة الواسعة، " من ذهب وأكواب "، جمع كوب وهو إناء مستدير مدور الرأس لا عرى لها، " وفيها "، أي في الجنة، " ما تشتهيه الأنفس "، قرأ أهل المدينة والشام وحفص: (تشتهيه)، وكذلك في مصاحفهم، وقرأ الآخرون بحذف الهاء. " وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ".
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "قال رجل: يارسول الله أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل، فقال:إن يدخلك الله الجنة لا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت، إلا فعلت، فقال أعرابي: يارسول الله أفي الجنة إبل؟ فقال: فقال:يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك ".
71-" يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب " الصحاف جمع صحفة ، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له . " وفيها " وفي الجنة " ما تشتهيه الأنفس " وقرأ نافع و ابن عامر و حفص " تشتهيه الأنفس " على الأصل . " وتلذ الأعين " بمشاهدته وذلك تعميم بعد تخصيص ما يعد من الزوائد في التنعم والتلذذ . " وأنتم فيها خالدون " فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الحال .
71. Therein are brought round for them trays of gold and goblets, and therein is all that souls desire and eyes find sweet. And ye are immortal therein.
71 - To them will be passed round, dishes and goblets of gold: there will be there all that the souls could desire, all that the eyes could delight in: and ye shall abide therein (for aye).