[غافر : 51] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ
51 - (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) جمع شاهد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب
يقول القائل : وما معنى : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا " فقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه ، ومثلوا به ، كشعياء ، ويحيى بن زكريا وأشباههما . ومنهم من هم بقتله قومه ، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجياً بنفسه ، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقاً لقومه ، وعيسى الذي رفع إلىالسماء إذ أراد قومه قتله ، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله ، والمؤمنين به في الحياة الدنيا ، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت ، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به ؟ قيل : إن لقوله : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا " وجهين كلاهما صحيح معناه . أحدهما أن يكون معناه : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذبنا وإظفارنا بهم ، حتى يقهروهم غلبة ويذلوهم بالظفر ذلة ، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان ، فأعطاهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر ، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه . وإما بإنتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذبهم وعاداهم ، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه ، من تغريق قومه وإنجائه منهم ، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه ، إذ أهلكهم غرقاً ، ونجا موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك . أو بإنتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم ، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه ، بتسليطنا على قتلته من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته ، وكفعلنا بقتلة يحيى ، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له ، وكإنتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم ، فهذا أحد وجهيه . وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال :ثنا أسباط ، عن السدي قول الله : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا" وقد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون ، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوماً فينتصر بهم إولئك الذين قتلوا منهم . والوجه الآخر : أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين ، والمراد واحد ، فيكون تأويل الكلام حينئذ إنا لننصر رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم والذي آمنوا به في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، كما بينا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع ، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصاً بعينه .
واختلف القراء في قراءة قوله : " ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة " ويوم يقوم " بالياء . و " ينفع " أيضاً بالياء ، وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قراء البصرة : < تقوم > بالتاء ، و < تنفع > بالتاء .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد فبأيتهما قرأ القاريء فمصيب .
وقد بينا فيما مضى أن العرب تذكر فعل جمع الرجل وتؤنث إذا تقدم بما أغنى عن إعادته . وعنى بقوله : " ويوم يقوم الأشهاد " يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم ، وأن الأمم كذبتهم . والأشهاد : جمع شهيد ، كما الأشراف : جمع شريف .
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " ويوم يقوم الأشهاد " من ملائكة الله وأنبياؤه ، والمؤمنين به .
حدثنا محمد ، قال : ثنا أحمد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي " ويوم يقوم الأشهاد " يوم القيامة .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قول الله : " ويوم يقوم الأشهاد " قال : الملائكة .
قوله تعالى : " إنا لننصر رسلنا " ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال : ( رسلنا ) والمراد موسى عليه السلام . " والذين آمنوا في الحياة الدنيا " في موضع نصب عطف على الرسل ، والمراد المؤمن الذي وعظ . وقيل : هو عام في الرسل والمؤمنين ، ونصرهم بإعلاء الحجج وإفلاحها في قول أبي العالية : وقيل : الانتقام من أعدائهم . قال السدي : ما قتل قوم نط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المرمنين إلا بعث الله عز وجل من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا . قوله تعالى : " ويوم يقوم الأشهاد " يعني يوم القيامة . قال زيد بن أسلم : ( الأشهاد ) أربعة : الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد . وقال مجاهد و السدي : ( الأشهاد ) والملائكة تسهد للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب . وقال قتادة : الملائكة والأنبياء .ثم قيل : ( الأشهاد ) جمع شهيد مثل شريف وأشراف . وقال الزجاج : (الأشهاد ) جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب . النحاس : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقال سعليه ولكنن ما جاء منه مسموعاً أي أدي كما سمع ، وكان على حذف الزائد . وأجاز الأخفش و الفراء : ( ويوم تقوم الأشهاد ) بالتاء على تأنيث الجماعةة . وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحديثين يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله عزوجل أن يرد عنه نار جهنم " ثم تلا : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " وعنه عليه السلام أنه قال : " من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكاً يحميه يخرج مما قال " .
قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا" سؤالاً فقال قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً كإبراهيم, وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا ثم أجاب عن ذلك بجوابين (أحدهما) أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض قال وهذا سائغ في اللغة (الثاني) أن يكون المراد بالنصر والإنتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم وقد ذكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر, وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويقتل الخنزير ويكسر الصليب, ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب" وفي الحديث الاخر: "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث بالحرب" ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً, قال السدي لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان, وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً, ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم له وقتل صناديديهم, وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد, ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنفذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها ودخل الناس في دين الله أفواجاً, ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا, وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة ولهذا قال تعالى: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل, قال مجاهد: الأشهاد الملائكة. وقوله تعالى: "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم" بدل من قوله: "ويوم يقوم الأشهاد" وقرأ آخرون يوم بالرفع كأنه فسره به " ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين " وهم المشركون "معذرتهم" أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية "ولهم اللعنة" أي الإبعاد والطرد من الرحمة "ولهم سوء الدار" وهي النار قاله السدي بئس المنزل والمقيل, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "ولهم سوء الدار" أي سوء العاقبة وقوله تعالى: "ولقد آتينا موسى الهدى" وهو ما بعثه الله عز وجل به من الهدى والنور "وأورثنا بني إسرائيل الكتاب" أي جعلنا لهم العاقبة وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه بما صبروا على طاعة الله تبارك وتعالى واتباع رسوله موسى عليه الصلاة والسلام وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوارة "هدى وذكرى لأولي الألباب" وهي العقول الصحيحة السليمة. وقوله عز وجل: "فاصبر" أي يا محمد "إن وعد الله حق" أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك والله لا يخلف الميعاد وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك وقوله تبارك وتعالى: "واستغفر لذنبك" هذا تهييج للأمة على الاستغفار "وسبح بحمد ربك بالعشي" أي في أواخر النهار وأوائل الليل "والإبكار" وهي أوائل النهار وأواخر الليل. وقوله تعالى: "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم" أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه" أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع "فاستعذ بالله" أي من حال مثل هؤلاء "إنه هو السميع البصير" أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان هذا تفسير ابن جرير.
وقال كعب وأبو العالية نزلت هذه الاية في اليهود "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه" قال أبو العالية وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم وأنهم يملكون به الأرض فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم آمراً له أن يستعيذ من فتنة الدجال ولهذا قال عز وجل: "فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير" وهذا قول غريب وفيه تعسف بعيد وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وجملة 51- "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا" مستأنفة من جهته سبحانه: أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا: أي لننصر رسلنا، وننصر الذين آمنوا معهم "في الحياة الدنيا" بما عودهم الله من الانتقام منهم بالقتل والسلب والأسر والقهر "ويوم يقوم الأشهاد" وهو يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: الأشهاد هم الملائكة والنبيون. وقال مجاهد والسدي: الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. قال الزجاج. الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعاً أدي على ما يسمع، فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته ويجازي الكفار بأعمالهم فيلعنهم ويدخلهم النار.
51. قوله عز وجل: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا "، قال ابن عباس: بالغلبة والقهر. وقال الضحاك : بالحجة، وفي الآخرة بالعذر. وقيل: بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة، وكل ذلك قد كان للأنباء والمؤمنين، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم وإهلاك أعدائهم، ونصرهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل، قتل به سبعون ألفاً، فهم منصورون بأحد هذه الوجوه، " ويوم يقوم الأشهاد "، يعني: يوم القيامة يقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار التكذيب.
51-" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة " في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحياناً إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر ، و " الأشهاد " جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين .
51. Lo! We verily do help Our messengers, and those who believe, in the life of the world and on the day when the witnesses arise,
51 - We will, without doubt, help Our apostles and those who believe, (both) in this world's life and on the Day when the Witnesses will stand forth,