[النساء : 78] أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ َإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
(أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج) حصون (مشيدة) مرتفعة فلا تخشوا القتال خوف الموت (وإن تصبهم) أي اليهود (حسنة) خصب وسعة (يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة) جدب وبلاء كما حصل لهم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة (يقولوا هذه من عندك) يا محمد أي بشؤمك (قل) لهم (كل) من الحسنة والسيئة (من عند الله) من قبله (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون) أي يقاربون أن يفهموا (حديثا) يلقى إليهم ، وما استفهام تعجيب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشد من نفيه
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : حيثما تكونوا ينلكم الموت فتموتوا، "ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول : لا تجزعوا من الموت ، ولا تهربوا من القتال ، وتضعفوا عن لقاء عدوكم ، حذراً على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت بإزائكم أين كنتم ، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : "ولو كنتم في بروج مشيدة". فقال بعضهم : يعني به : قصور محصنة.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول : في قصور محصنة.
حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا أبو همام قال ، حدثنا كثير أبو الفضل ، عن مجاهد قال : كان فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجير، فولدت جارية. فقالت لأجيرها: اقتبس لنا ناراً ، فخرج فوجد بالباب رجلاً، فقال له الرجل : ما ولدت هذه المرأة؟ قال : جارية . قال : أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فقال الأجير في نفسه : فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية، وعولجت فبرئت ، فشتت ، وكانت تبغي . فأتت ساحلاً من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي . ولبث الرجل ما شاء الله ، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل : ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت : ههنا امرأة من أجمل الناس ، ولكنها تبغي . قال : ائتيني بها. فأتتها فقالت : قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي كذا، فقلت له كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوجته! قال : فتزوجها، فوقعت منه موقعاً. فبينا هو يوماً عندها إذ أخبرها بأمره ، فقالت : أنا تلك الجارية! - وأرته الشق في بطنها - وقد كنت أبغي ، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال : فإنه قال لي : يكون موتها بعنكبوت . قال: فبنى لها برجا بالصحراء وشيده . فبينما هما يوما في ذلك البرج ، إذا عنكبوت في السقف ، فقالت : هذا يقتلني ؟ لا يقتله أحد غيري ! فحركته فسقط ، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته ، وساح سمه بين ظفرها واللحم ، فاسودت رجلها فماتت . فنزلت هذه الآية: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "ولو كنتم في بروج مشيدة"، قال : قصور مشيدة .
وقال اخرون : معنى ذلك : قصور بأعيانها في السماء.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال ، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله : "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول : ولو كنتم في قصور في السماء.
واختلف أهل العربية في معنى المشيدة.
فقال بعض أهل البصرة منهم : المشيدة، الطويلة . قال : وأما المشيد، بالتخفيف ، فإنه المزين.
وقال آخر منهم نحو ذلك القول ، غير أنه قال : المشيد بالتخفيف المعمول بالشيد، و الشيد الجص .
وقال بعض أهل الكوفة : المشيد و المشيد، أصلهما واحد، غير أن ما شدد منه ، فإنما يشدد لنفسه ، والفعل فيه في جمع ، مثل قولهم : هذه ثياب مصبغة، و غنم مذبحة، فشدد؟ لأنها جمع يفرق فيها الفعل . وكذلك مثله ، قصور مشيدة، لأن القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل : "بروج مشيدة"، ومنه قوله : "وغلقت الأبواب" [يوسف : 23]، وكما يقال : كسرت العود ، إذا جعلته قطعاً، أي : قعطعة بعد قطعة . وقد يجوز في ذلك التخفيف ، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه ، جاز التشديد عندهم والتخفيف ، فيقال منه : هذا ثوب مخرق وجلد مقطع ، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق . وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد، لم يجيزوه إلا بالتخفيف ، وذلك نحو قولهم : رأيت كبشا مذبوحا ،ولا يجيزون فيه : مذبحاً، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرق في الثوب .
وقالوا : فلهذا قيل : قصر مشيد، لأنه واحد، فجعل بمنزلة قولهم : كبش مذبوح . وقالوا : جائز في القصر أن يقال : قصر مشيد بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في كبش مذبوح ، لما ذكرنا .
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله"، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة، "يقولوا هذه من عند الله"، يعني : من قبل الله ومن تقديره ، "وإن تصبهم سيئة"، يقول : وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم ، يقولوا لك يا محمد: "هذه من عندك"، بخطئك التدبير.
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه : "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم".
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك"، قال : هذه في السراء والضراء.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر، عن الربيع ، عن أبي العالية مثله .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" فقرأ حتى بلغ : "وأرسلناك للناس رسولا"، قال : إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب . فقرأ "يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا" فقرأ حتى بلغ : "وإن تصبهم سيئة"، يقولوا : هذه من عند محمد عليه السلام ، أساء التدبير وأساء النظر! ما أحسن التدبير ولا النظر.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "قل كل من عند الله"، قل ، يا محمد، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة : "هذه من عند الله"، وإذا أصابتهم سيئة : "هذه من عندك": كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري ، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفل والهزيمة، كما :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر، عن قتادة : "قل كل من عند الله"، النعم والمصائب .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "كل من عند الله"، النصر والهزيمة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا"، يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "فمال هؤلاء القوم"، فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا: "هذه من عند الله"، وإن تصبهم سيئة يقولوا : "هذه من عندك"، "لا يكادون يفقهون حديثا"، يقول : لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به ، من أن كل ما أصابهم من خير أو شر، أو ضر وشدة ورخاء، فمن عند الله ، لا يقدر على ذلك غيره ، ولا يصيب أحداً سيئة إلا بتقديره ، ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته .
وهذا إعلام من الله عباده أن مفاتح الأشياء كلها بيده ، لا يملك شيئاً منها أحد غيره.
فيه أربع مسائل
الأولى- قوله تعالى :" أينما تكونوا يدرككم الموت " شرط ومجازاة وما زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذي قالوا: " لولا أخرتنا إلى أجل قريب" أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه بالمنافقين كما ذكرنا لقولهم لما أصيب أهل أحد قالوا:" لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا " [آل عمران : 156] فرد الله عليهم " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه وواحد البروج برج وهو البناء المرتفع والقصر العظيم قال طرفة يصف ناقة
كأنها برج رومي تكففها بان بشيد وآجر وأحجار
وقرأ طلحة بن سليمان يدرككم برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
أراد فالله يشكرها .
واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج ، فقال الأكثر وهو الأصح إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة فمثل الله لهم بها وقال قتادة: في قصور محصنة وقال ابن جريج والجمهور ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد: البروج القصور : ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع ومعنى "مشيدة" مطولة قاله الزجاج والقتبي. عكرمة : المزينة بالشيد وهو الجص، قال قتادة، محصنة والمشيد والمشيد سواء ومنه " وقصر مشيد" [ الحد: 45] والتشديد للتكثير وقيل: المشيد المطول والمشيد المطلي بالشيد. يقال : شاد البنيان وأشاد بذكره وقال السدي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية وحيك هذا القول مكي عن مالك وأنه قال: ألا ترى إلى قوله تعالى :" والسماء ذات البروج " [البروج:1] " جعل في السماء بروجا" [الفرقان:61] " ولقد جعلنا في السماء بروجا" [ الحجر : 16] وحكاه ابن العربي أيضاً عن ابن القاسم عن مالك. وحكي النقاش عن ابن عباس أنه قال : " في بروج مشيدة " معناه في قصور من حديث قال ابن عطية: وهذا ا يعطيه ظاهر اللفظ .
الثانية - هذه الآية ترد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى :" أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد، كان ذلك يقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به وقالت المعتزلة : إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش وقد تقدم الرج عليهم في آل عمران ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين .
الثالثة - اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس وهي سنة الله في عباده. وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول، التوكل ترك الأسباب فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة زيادة في التمنع، وقد قيل للأحنف ما حكمه السور؟ فقال ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه .
الرابعة- وإذا نزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء فبروج الفلك أثنا عشر برجاً مشيدة من الرفع وهي الكواكب العظام وقيل للكواكب بروج لظهورها من بروج يبرج إذا ظهر وارتفع، ومنه قوله " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" [الأحزاب:33] خلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها ورتب الأزمنة عليها، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلماً على القبلة ، وطريقاً إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد وغر ذلك من أحوال المعاش .
قوله تعالى :" وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله " أي إن يصب المنافقين خصب قالوا: هذا من عند الله " وإن تصبهم سيئة " أي جدب ومحل قالوا: هذا من عندك أي أصابنا ذلك بشؤمك أصحابك، وقيل: الحسنة السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف وقيل: الحسنة الغنى والسيئة الفقر. وقيل: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة السراء، والسيئة الضراء هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل- ابن عباس وغيره - في الآية . وأنها نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: مازلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم عليها هذا الرجل وأصحابه قال ابن عباس: ومعنى " من عندك " أي بسوء تدبيرك وقيل: " من عندك " بشؤمك كما ذكرنا أي بشؤمك الذي لحقنا قالوه على جهة التطهير قال الله تعالى :" قل كل من عند الله " أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله أي بقضاء الله وقدره " فمال هؤلاء القوم " يعني المنافقين " لا يكادون يفقهون حديثا" أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله .
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة, وإن لم تكن ذات النصب, وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين, وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم, ومنها: كونهم كانوا في بلدهم, وهو بلد حرام, أشرف بقاع الأرض, فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال, فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار, ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه, جزع بعضهم منه, وخافوا مواجهة الناس خوفاً شديداً "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى, فإن فيه سفك الدماء, ويتم الأولاد, وتأيم النساء, وهذه الاية كقوله تعالى: "ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال" الايات, قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعلي بن زنجة, قالا: حدثنا علي بن الحسن عن الحسين بن واقد, عن عمرو بن دينار, وعن عكرمة, عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة, فقالوا: يا نبي الله, كنا في عزة ونحن مشركون, فلما آمنا صرنا أذلة, قال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ", فلما حوله الله إلى المدينة, أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم" الاية, ورواه النسائي والحاكم وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به, وقال أسباط, عن السدي: لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة, فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال, فلما فرض عليهم القتال "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" وهو الموت. قال الله تعالى: " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ". وقال مجاهد: إن هذه الاية نزلت في اليهود, رواه ابن جرير, وقوله: " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى " أي آخرة المتقي خير من دنياه. "ولا تظلمون فتيلاً" أي من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء, وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الاخرة وتحريض لهم على الجهاد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا حماد بن زيد عن هشام, قال: قرأ الحسن "قل متاع الدنيا قليل" قال: رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك, وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين كان أبو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنهـــــــا متــــــــاع قليل والزوال قريب
وقوله تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم, كما قال تعالى: "كل من عليها فان" الاية, وقال تعالى: "كل نفس ذائقة الموت", وقال تعالى: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة, ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد, فإن له أجلاً محتوماً, ومقاماً مقسوماً, كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً, وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية, وها أنا أموت على فراشي, فلا نامت أعين الجبناء, وقوله: "ولو كنتم في بروج مشيدة" أي حصينة منيعة عالية رفيعة, وقيل, هي بروج في السماء قال السدي, وهو ضعيف, والصحيح أنها المنيعة, أي لا يغني حذر وتحصن من الموت, كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم قيل: المشيدة هي المشيدة كما قال: وقصر مشيد وقيل: بل بينهما فرق, وهو أن المشيدة بالتشديد هي المطولة, وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ـ ههنا ـ حكاية مطولة عن مجاهد, أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق, فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار, فخرج فإذا هو برجل واقف على الباب, فقال: ما ولدت المرأة ؟ فقال: جارية, فقال: أما إنها ستزني بمائة رجل ثم يتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فكر راجعاً, فبعج بطن الجارية بسكين فشقه ثم ذهب هارباً, وظن أنها قد ماتت, فخاطت أمها بطنها فبرئت وشبت وترعرعت ونشأت أحسن امرأة ببلدتها, فذهب ذاك الأجير ما ذهب ودخل البحور فاقتنى أموالاً جزيلة, ثم رجع إلى بلده وأراد التزوج, فقال لعجوز: أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة, فقالت ليس ههنا أحسن من فلانة, فقال: اخطبيها علي, فذهبت إليها فأجابت, فدخل بها فأعجبته إعجاباً شديداً, فسألته عن أمره ومن أين مقدمه, فأخبرها خبره وما كان من أمره في الجارية, فقالت: أنا هي وأرته مكان السكين, فتحقق ذلك, فقال: لئن كنت إياها فلقد أخبرني باثنتين لا بد منهما (إحداهما) أنك قد زنيت بمائة رجل, فقالت: لقد كان شيء من ذلك ولكن لا أدري ما عددهم فقال: هم مائة: (والثاني) أنك تموتين بالعنكبوت فاتخذ لها قصراً منيعاً شاهقاً ليحرزها من ذلك, فبينما هم يوماً فإذا بالعنكبوت في السقف فأراها, فقالت: أهذه هي التي تحذرها علي, والله لا يقتلها إلا أنا, فأنزلوها من السقف, فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها, فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها, فكان في ذلك أجلها, فماتت, ونذكر ههنا قصة صاحب الحضر وهو الساطرون لما احتال عليه سابور حتى حصره فيه وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين, وقالت العرب في ذلك أشعاراً منها:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـ ــلة تجـــبى إليه والخابور
شـــــاده مرمراً وجلـــــله كلــ ـــساً فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد الـ ـملــــــك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللهم اجمع أمة محمد ثم تمثل بقول الشاعر:
أرى الموت لا يبقي عزيزاً ولم يدع لـــعاد مــــلاذاً في البلاد ومربعا
يبيت أهل الحصن والحصن مغـــلق ويأتي الجبال في شماريخها معا
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر, وقال ابن هشام: إن الذي قتل صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان, وأذل ملوك الطوائف, ورد الملك إلى الأكاسرة, فأما سابور ذو الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل, والله أعلم, ذكره السهيلي, قال ابن هشام: فحصره سنتين وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته وهو في العراق, وأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة, فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج, وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ, فدست إليه أن تتزوجني إن فتحت لك باب الحصن, فقال: نعم, فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران, فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب, ويقال: دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء, ثم ترسل, فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب, ففعل ذلك, فدخل سابور, فقتل ساطرون واستباح الحصن وخربه, وسار بها معه وتزوجها, فبينما هي نائمة على فراشها ليلاً إذ جعلت تتململ لا تنام, فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس, فقال لها سابور: هذا الذي أسهرك فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير, ويطعمني المخ, ويسقيني الخمر, قال الطبري: كان يطعمني المخ والزبد, وشهد أبكار النحل, وصفو الخمر! وذكر أنه كان يرى مخ ساقها, قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به ؟! أنت إلي بذاك أسرع, ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس, فركض الفرس حتى قتلها, وفيه يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة.
أيــــها الشامت المـــــعيــر بالدهـ ـر أأنت المبـــرأ المـــوفور
أم لديك العهد الـــــوثيق من الأيـ ـام بل أنت جاهل مـــــغرور
من رأيت المنــــون خلــــد أم من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وان أم أين قبله سابـــــور
وبنو الأصفر الكرام مــــــلوك الـ ـروم لم يبق منهم مذكــور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـــلة تجبـــــى إلــيه والخابــــور
رشاده مرمــــــراً وجللـــــــه كلـ ساً فللطير فــــي ذراه وكور
لم يهبه ريــــــب المنـــــون فباد الملك عنه فبابـــــه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ شـــرف يــــوماً وللــــهدى تفكــــير
سره ماله وكثرة مــــــا يــــملك والبـــــحر معرضاً والسدير
فارعوى قلــــبه وقـــال فما غبـ ـطة حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهــــــم ورق جف فألوت بـــــه الصبا والدبور
ثم بعد الفلاح والمــــلك والأمــ ــة وارتهم هنــــاك القبـــور
وقوله: "وإن تصبهم حسنة" أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك, هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي "يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة" أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو إنتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي "يقولوا هذه من عندك" أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك, كما قال تعالى عن قوم فرعون " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " وكما قال تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حرف" الاية, وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر, ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال السدي: وإن تصبهم حسنة, قال: والحسنة الخصب, تنتج مواشيهم وخيولهم, ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان, قالوا "هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة" والسيئة الجدب والضرر في أموالهم, تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا "هذه من عندك" يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء, فأنزل الله عز وجل "قل كل من عند الله" فقوله: قل كل من عند الله, أي الجميع بقضاء الله وقدره, وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, قل كل من عند الله, أي الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري. ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب, وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم " فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا " ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى: "قل كل من عند الله" قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا السكن بن سعيد, حدثنا عمر بن يونس, حدثنا إسماعيل بن حماد عن مقاتل بن حيان, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس وقد ارتفعت أصواتهما, فجلس أبو بكر قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم, وجلس عمر قريباً من أبي بكر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم ارتفعت أصواتكما ؟" فقال رجل: يا رسول الله, قال أبو بكر: يا رسول الله الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما قلت يا عمر ؟" فقال: قلت الحسنات والسيئات من الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر، وقال جبريل مقالتك يا عمر" فقال: "نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض, فتحاكما إلى إسرافيل فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله". ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال: "احفظا قضائي بينكما, لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس" قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة. ثم قال تعالى مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب "ما أصابك من حسنة فمن الله" أي من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته "وما أصابك من سيئة فمن نفسك" أي فمن قبلك, ومن عملك أنت, كما قال تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" قال السدي والحسن البصري وابن جريج وابن زيد "فمن نفسك" أي بذنبك. وقال قتادة في الاية "فمن نفسك" عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك. قال وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم, ولا اختلاج عرق إلا بذنب, وما يعفو الله أكثر" وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلاً في الصحيح "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن, ولا نصب, حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه" وقال أبو صالح "وما أصابك من سيئة فمن نفسك" أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك, رواه ابن جرير, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمار, حدثنا سهل يعني بن بكار, حدثنا الأسود بن شيبان, حدثني عقبة بن واصل ابن أخي مطرف عن مطرف بن عبد الله, قال: ما تريدون من القدر أما تكفيكم الاية التي في سورة النساء " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك " ؟ أي من نفسك والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون, وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضاً. ولبسطه موضع آخر. وقوله تعالى: "وأرسلناك للناس رسولاً" أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه, وما يكرهه ويأباه "وكفى بالله شهيداً" أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضاً بينك وبينهم, وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفراً وعناداً.
وقوله 78- "أينما تكونوا يدرككم الموت" كلام مبتدأ، وفيه حث لمن قعد عن القتال خشية الموت، وبيان لفساد ما خالطه من الجن وخامره من الخشية، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة.
فمن لم يمت بالسيف مات بغيره
والبروج جمع برج: وهو البناء المرتفع، والمشيدة: المرفعة من شاد القصر: إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجص، وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقد اختلف في هذه البروج ما هي؟ فقيل: الحصون التي في الأرض، وقيل: هي القصور. قال الزجاج والقتيبي: ومعنى مشيدة مطولة، وقيل: معناه مطلية بالشيد وهو الجص، وقيل: المراد بالبروج بروج في سماء الدنيا مبنية حكاه مكي عن مالك، وقال: ألا ترى إلى قوله "والسماء ذات البروج"، "جعل في السماء بروجاً"، "ولقد جعلنا في السماء بروجاً" وقيل: إن المراد بالبروج المشيدة هنا قصور من حديد. وقرأ طلحة بن سليمان "يدرككم الموت" بالرفع على تقدير الفاء كما في قوله:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها
78-قوله عز وجل:" أينما تكونوا يدرككم الموت "أي: ينزل بكم الموت، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فرد/ الله عليهم بقوله :" أينما تكونوا يدرككم الموت "،"ولو كنتم في بروج مشيدة"، والبروج: الحصون والقلاع، والمشيدة: المرفوعة المطولة، قال قتادة: معناه في قصور محصنة، وقال عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص، "وإن تصبهم حسنة" ، نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك انهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
قال الله تعالى: "وإن تصبهم"يعني: اليهود"حسنة" أي خصب ورخص في السعر،"يقولوا هذه من عند الله"، لنا "وإن تصبهم سيئة" يعني: الجدب وغلاء الأسعار" يقولوا هذه من عندك" أي : من شؤم محمد وأصحابه ، وقيل: المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، يقولوا هذه من عندك أي: أنت الذي حملتنا عليه يا محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين ، "قل" لهم يا محمد،"كل من عند الله"،أي: الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال:"فمال هؤلاء القوم"يعني: المنافقين واليهود،"لا يكادون يفقهون حديثاً"أي: لا يفقهون قولاً، وقيل: الحديث ها هنا هو القرآن أي: لا يفهمون معاني القرآن.
قوله :"فمال هؤلاء"قال الفراء: كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها وانهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة.
78"أينما تكونوا يدرككم الموت" قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها. أو على أنه كلام مبتدأ، وأينما متصل بـ"لا تظلمون". "ولو كنتم في بروج مشيدة" في قصور أو حصون مرتفعة، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور، من تبرجت المرأة إذا ظهرت. وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بوصف فاعلها كقولهم: قصيدة شاعرة، ومشيدة من شيد القصر إذا رفعه. "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية، وهما المراد في الآية أي: وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى، وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها. "قل كل من عند الله" أي يبسط ويقبض حسب إرادته. "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً" يوعظون به، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى، أو حديثاً ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثاً من صروف الزمان فيفتكرون في فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى.
78. Wheresoever ye may be, death will overtake you, even though ye were in lofty towers. Yet if a happy thing befalleth them they say: This is from Allah; and if an evil thing befalleth them they say: This is of thy doing (O Muhammad). Say (unto them): All is from Allah. What is amiss with these people that they come not nigh to understand a happening?
78 - Wherever ye are, death will find you out, even if ye are in towers built up strong and high if some good befalls them, they say, this is from God; but if evil, they say, this is from thee (O prophet). say: all things are from God. but what hath come to these people, that they fail to understand a single fact?