[النساء : 20] وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
(وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) أي أخذ بدلها بأن طلقتموها (و) قد (آتيتم إحداهن) أي الزوجات (قنطارا) مالا كثيرا صداقا (فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا) ظلما (وإثما مبينا) بينا ، ونصبهما على الحال
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، وإن أردتم ، أيها المؤمنون ، نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها، "وآتيتم إحداهن"، يقول : وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر، "قنطارا".
و القنطار المال الكثير، وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه ، والصواب من القول في ذلك عندنا. "فلا تأخذوا منه شيئا"، قيل : فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن ، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره : أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن ، "بهتانا"، يقول : ظلماً بغير حق ، "وإثما مبينا"*، يعني : وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم.
فيه ست مسائل:
الأولى- لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالاً.
الثانية- اختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفارق وكان منهما نشوز وسوء عشرة فقال مالك رضي الله عنه : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو وقال جماعة من العلماء :لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك .
الثالثة- قوله تعالى :" وآتيتم إحداهن قنطارا" الآية دليل على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح، وخطب عمر رضي الله عنه فقال :
ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر, وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإنكار أخرج أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمين قال:
خطب عمر الناس فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقيه، ولم يذكر:فقامت إليه امرأة إلى آخره وأخرجه في سننه عن أبي العجفاء وزاد بعد قوله: أوقيه وأن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كلفت إليك علق القربة- أو عرق القربة وكنت رجلاً عربياً مولداً ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة قال الجوهري: وعلق القربة لغة في عرق القربة قال غيره: ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به يقول كلفت إليه حتى عصام القربة قال غيره:ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق بها يقول كلفت إليك حتى عصام القربة وعرق القربة ماؤها جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة، وهو ماؤها في السفر ويقال : بل عرق القربة أن يقول :نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة، وهو سيلانها وقيل: إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر، ففسر به اللفظان: العرق والعلق. وقال الأصمعي: عرق القربة كلمة معناها الشدة قال: ولا أدري ما أصلها قال الأصمعي : وسمعت ابن أبي طرفة وكن من أفصح من رأيت يقول: سمعت شيخاننا يقولون: لقيت من فلان عرق القربة ، يعنون الشدة وأنشدني لابن الأحمر:
ليست بمشتمة تعد وعفوها عرق السقاء على القعود اللاغب
قال أبو عبيد: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها ، وقد أبلغت إليه كعرق القربة، فقال: كعرق الساق لما لم يمكنه الشعر، ثم قال: على القعود اللاغب وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم، وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه، فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر. وكان الفراء يجعل هذا تفسير في علق القربة باللام. وقال قوم، لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد وهذا "كقوله صلى الله عليه وسلم :
من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاه بنى الله له بيتاً في الجنة " ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة، وقد "قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره فسأله عنه فقال: مائتين فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل" فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور، وهذا لا يلزم وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكاراً لأجل المغالاة والإكثار في المهور وإنما الإنكار لأنه كان فقيراً في تكل الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال وهذا مكروه باتفاق وقد أصدق عمر أم كلثوم بن علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم. وروى أبو داود "عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل:
أترضى أن أزوجك فلانة قال: نعم . وقال للمرأة : أترضين أن أزوجك فلاناً قالت: نعم فزوج أحدهما من صاحبه"، فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً، إني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف، وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق لقوله تعالى :" وآتيتم إحداهن قنطارا" واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى :" أن تبتغوا بأموالكم" [النساء:24] ومضى القول في تحديد القول في تحديد القنطار في آل عمران وقرأ بن محيصن وآتيتم احداهن بوصل ألف " إحداهن" وفي لغة ومنه قول الشاعر:
وتسمع من تحت العجاج لها ارملا
وقول الآخر
إن لم أقاتل فالبسوني برقعاً
الرابعة- قوله تعالى :" فلا تأخذوا منه شيئا" قال بكر بن عبد الله المزني: لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئاً لقول الله تعالى :" فلا تأخذوا" وجعلها ناسخة لآية البقرة وقال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" [البقرة :229] والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض. قال الطبري: هي محكمة ولا معنى لقول بكر إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما سق إليها :" بهتانا" مصدر في موضع الحال "وإثما" معطوف عليه " مبينا" من نعته.

قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الشيباني عن عكرمة, عن ابن عباس, ـ قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي, ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاؤوا زوجوها, وإن شاؤوا لم يزوجوها, فهم أحق بها من أهلها, فنزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان, عن عكرمة, وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء, كوفي أعمى, كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي, حدثني علي بن حسين عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله تعالى عن ذلك, أي نهى عن ذلك, تفرد به أبو داود, وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عن مقسم, عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها, فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها, وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم, ألقى ثوبه على امرأته, فورث نكاحها, ولم ينكحها أحد غيره, وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال زيد بن أسلم في الاية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, وكان يعضلها حتى يرثها, أو يزوجها من أراد, وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها, ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا علي بن المنذر, حدثنا محمد بن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه, قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت, أراد ابنه أن يتزوج امرأته, وكان لهم ذلك في الجاهلية, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة, حبسها أهله على الصبي يكون فيهم, فنزلت "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" الاية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذ توفي, كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس, توفي عنها أبو قيس بن الأسلت, فجنح عليها ابنه, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, لا أنا ورثت زوجي, ولا أنا تركت فأنكح, فأنزل الله هذه الاية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها, جاء وليه فألقى عليها ثوباً, فإن كان له ابن صغير, أو أخ, حبسها حتى يشب, أو تموت فيرثها, فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً, نجت, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال مجاهد في هذه الاية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها, فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه, رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. قلت: فالاية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد, ومن وافقه, وكل ما كان فيه نوع من ذلك, والله أعلم. وقوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي لا تضاروهن في العشرة, لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك, أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تعضلوهن" يقول: ولا تقهروهن "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" يعني الرجل, تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها, ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي, وكذا قال الضحاك وقتادة, واختاره ابن جرير, وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني, قال: نزلت هاتان الايتان, إحداهما في أمر الجاهلية, والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" في الجاهلية, "ولا تعضلوهن" في الإسلام. وقوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا, يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها, وتضاجرها حتى تتركه لك, وتخالعها, كما قال تعالى في سورة البقرة: " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " الاية, وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان, واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان, والنشوز وبذاء اللسان, وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها, وهذا جيد, والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت, أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية, ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام, وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة, فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه, فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد, فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" الاية, وقال مجاهد في قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" أي طيبوا أقوالكم لهن, وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها, فافعل أنت بها مثله, كما قال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر, يداعب أهله, ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته, ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, يتودد إليها بذلك, قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته, وذلك قبل أن أحمل اللحم, ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني, فقال "هذه بتلك" ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان, ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها, وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد, يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار, وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام, يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام, ولله الحمد.
وقوله تعالى "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه, خير كثير لكم في الدنيا والاخرة, كما قال ابن عباس في هذه الاية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً, ويكون في ذلك الولد خير كثير, وفي الحديث الصحيح "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر".
وقوله تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال, وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الاية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل, وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق, ثم رجع عن ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين, قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا في صداق النساء, فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله, كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة, ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مسيب البصري, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق, قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس, ما إكثاركم في صدق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم, فما دون ذلك, ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل, فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين, نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم, قال: نعم, فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً, كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم, فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل, إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق, عن قيس بن ربيع, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر, إن الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" ـ من ذهب ـ قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود, " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ", فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد, ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة, في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية, فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض" أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟" قالها ثلاثاً, فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال "لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها, وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها". في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها, فإذا هي حامل من الزنا, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقضى لها بالصداق, وفرق بينهما, وأمر بجلدها, وقال "الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع" ولهذا قال تعالى "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض".
وقال تعالى: "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي, نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاية: هو قوله "أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله" فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة, قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, قال له "جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" رواه ابن أبي حاتم, وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها "واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
وقال تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, يحرم الله تعالى زوجات الاباء تكرمة لهم, وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده, حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها, وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت, عن رجل من الأنصار, قال: لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار, فخطب ابنه قيس امرأته, فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك, ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أبا قيس توفي, فقال "خيراً" ثم قالت: إن ابنه قيساً خطبني, وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها "ارجعي إلى بيتك", قال: فنزلت "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة, وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف, وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار, وكان عند أبيه خلف, وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف, فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاباء كان معمولاً به في الجاهلية, ولهذا قال "إلا ما قد سلف" كما قال "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة, تزوج بامرأة أبيه, فأولدها ابنه النضر بن كنانة, قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم "ولدت من نكاح لا من سفاح" قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك, فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي, حدثنا قراد, حدثنا ابن عيينة عن عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين, فأنزل الله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" "وأن تجمعوا بين الأختين", وهكذا قال عطاء وقتادة, ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر, والله أعلم, وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاية, مبشع غاية التبشع, ولهذا قال تعالى: "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً" وقال " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وقال " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " فزاد ههنا "ومقتاً" أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه, ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته, فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله, ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب, بل حقه أعظم من حق الاباء بالإجماع, بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه . وقال عطاء بن أبي رباح في قوله "ومقتاً" أي يمقت الله عليه, "وساء سبيلاً" أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس, فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه, فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب, عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية: ابن عمر, وفي رواية: عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة, واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع, أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية, فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة, فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب, فجعل يهوي به إلى متاعها, ويقول: هذا المتاع, لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا, ادع لي ربيعة بن عمرو الجرسي, وكان فقيهاً, فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد, فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له, ثم قال: نعم ما رأيت, ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري, فدعوته وكان آدم شديد الأدمة, فقال: دونك هذه بيض بها ولدك, قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته, ثم أعتقته, ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
قوله 20- "وآتيتم إحداهن قنطاراً" قد تقدم بيانه في آل عمران والمراد به هنا المال الكثير فلا تأخذوا منه شيئاً. قيل: هي محكمة، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " والأولى أن الكل محكم والمراد هنا غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً. قوله "أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي.
20-"وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج"، أراد بالزوج والزوجة ولم يكن من قبلها نشوز ولا فاحشة،"وآتيتم إحداهن قنطاراً"، وهو المال الكثير، صداقاً،"فلا تأخذوا منه"، من القنطار، "شيئاً أتأخذونه"، استفهام بمعنى التوبيخ،"بهتاناً وإثماً مبيناً" ، انتصابهما من وجهين أحدهما بنزع الخافض ، والثاني بالإضمار تقديره: تصيبون في أخذه بهتاناً وإثماً ثم قال:
20" وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " تطليق امرأة وتزوج أخرى. " وآتيتم إحداهن " أي إحدى الزوجات، جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس. " قنطارا " مالاً كثيراً. " فلا تأخذوا منه شيئا " أي من القنطار. " أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا " إستفهام إنكار وتوبيخ، أي تأخذونه باهتين وآثمين،و يحتمل النصب على العلة كما في قولك: قعدت عن الحرب جبناً، لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم. قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة، فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقد يستعمل في افعل الباطل ولذلك فسر ها هنا بالظلم.
20. And if ye wish to exchange one wife for another and ye have given unto one of them a sum of money (however great), take nothing from it. Would ye take it by the way of calumny and open wrong?
20 - But if ye decide to take one wife in place of another, even if ye had given the latter a whole treasure for dower, take not the least bit of it back: would ye take it by slander and a manifest wrong?