[النساء : 171] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً
(يا أهل الكتاب) الإنجيل (لا تغلوا) تتجاوزوا الحد (في دينكم ولا تقولوا على الله إلا) القول (الحق) من تنزيهه عن الشريك والولد (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها) أوصلها الله (إلى مريم وروحٍ) أي ذو روح (منه) أضيف إليه تعالى تشريفا له وليس كما زعمتم ابن الله أو إلها معه أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركب والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه (فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا) الآلهة (ثلاثة) الله وعيسى وأمه (انتهوا) عن ذلك وأتوا (خيرا لكم) منه وهو التوحيد (إنما الله إله واحد سبحانه) تنزيها له عن (أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض) خلقا وملكا وعبيدا والملكية تنافي النبوة (وكفى بالله وكيلا) شهيدا على ذلك
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب"، يا أهل الإنجيل من النصارى، "لا تغلوا في دينكم"، يقول : لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه ، ولا تقولوا في عيسى غير الحق ، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله ، قول منكم على الله غير الحق . لأن الله لم يتخذ ولداً فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنا، "ولا تقولوا على الله إلا الحق".
وأصل الغلو، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده . يقال منه في الدين : قد غلا فهو يغلو غلوا، وغلا بالجارية عظمها ولحمها، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها، يغلو لها غلوا، وغلاءً ، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي :
خمصانة قلق موشحها رؤد الشباب غلا بها عظم
وقد:
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال : صاروا فريقين : فريق غلوا في الدين ، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه ، وفريق منهم قصروا عنه ، ففسقوا عن أمر ربهم .
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "إنما المسيح عيسى ابن مريم"، ما المسيح ، أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب ، بابن الله ، كما تزعمون ، ولكنه عيسى ابن مريم ، دون غيرها من الخلق ، لا نسب له غير ذلك . ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته فقال : هو رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه .
وأصل المسيح ، الممسوح ، صرف من مفعول إلى فعيل . وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب. وقيل: مسح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين ، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه ، فيطهر منه . ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله : المسيح ، الصديق .
وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية مشيحا، فعربت فقيل : المسيح ، كما عرب سائر أسماء الأنبياء التي في القران مثل : إسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى.
قال أبو جعفر: وليس ما مثل به من ذلك لالمسيح بنظير. وذلك أن إسماعيل وإسحاق وما أشبه ذلك ، أسماء لا صفات ، والمسيح صفة . وغير جائز أن تخاطب العرب ، وغيرها من أجناس الخلق ، في صفة شيء إلا بمثل ما تفهم عمن خاطبها. ولو كان المسيح من غير كلام العرب ، ولم تكن العرب تعقل معناه ، ما خوطبت به . وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته .
وأما المسيح الدجال ، فإنه أيضا بمعنى : الممسوح العين ، صرف من مفعول إلى فعيل . فمعنى : المسيح في عيسى صلى الله عليه وسلم : الممسوح البدن من الأدناس والآثام ، ومعنى : المسيح في الدجال : الممسوح العين اليمنى أو اليسرى، كالذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما قوله : "وكلمته ألقاها إلى مريم"، فإنه يعني : ب الكلمة، الرسالة التي أمر الله ملائكته أن تأتي مريم بها، بشارة من الله لها، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله : "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه" [آل عمران :45]، يعني : برسالة منه ، وبشارة من عنده .
وقد قال قتادة في ذلك ما:
حدثنا به الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة: "وكلمته ألقاها إلى مريم"، قال : هو قوله : كن ، فكان .
وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : "ألقاها إلى مريم"، يعني : أعلمها بها وأخبرها، كما يقال : ألقيت إليك كلمة حسنة، بمعنى : أخبرتك بها وكلمتك بها.
وأما قوله : "وروح منه"، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله .
فقال بعضهم : معنى قوله : "وروح منه"، ونفخة منه ، لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه بذلك ، فنسب إلى أنه روح من الله ، لأنه بأمره كان. قال : وإنما سمي النفخ روحاً، لأنها ريح تخرج من الروح ، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها:
فلما بدت كفنتها، وهي طفلة، بطلساء لم تكمل ذراعاً ولا شبرا
وقلت له ارفعها إليك ، وأحيها بروحك ، واقتته لها قيتةً قدرا
وظاهر لها من يابس الشخت ، واستعن عليها الصبا، واجعل يديك لها سترا
ولما تنمت تأكل الرم لم تدع ذوابل مما يجمعون ولا خضرا
فلما جرت في الجزل جريا كأنه سنا البرق ، أحدثنا لخالقها شكرا
وقالوا : يعني بقوله : أحيها بروحك ، أي : أحيها بنفخك.
وقال بعضهم يعني بقوله : "وروح منه" أنه كان إنساناً بإحياء الله له بقوله : كن. قالوا: وإنما معنى قوله : "وروح منه"، وحياة منه ، بمعنى إحياء الله إياه بتكوينه.
وقال آخرون : معنى قوله : "وروح منه"، ورحمة منه ، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: "وأيدهم بروح منه" [المجادلة : 22]. قالوا : ومعناه في هذا الموضع : ورحمة منه . قالوا : فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدقه ، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
وقال آخرون : معنى ذلك : وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها، فصيرها الله تعالى روح عيسى عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع ، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله : "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" [الأعراف : 172]، قال : أخذهم فجعلهم أرواحاً ، ثم صورهم ، ثم استنطقهم ، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق ، فأرسل ذلك الروح إلى مريم ، فدخل في فيها، فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام.
وقال آخرون : معنى الروح ههنا، جبريل عليه السلام . قالوا : ومعنى الكلام : وكلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها أيضاً إليها روح من الله . قالوا : ف الروح معطوف به على ما في قوله : "ألقاها" من ذكر الله ، بمعنى : أن إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله ، ثم من جبريل عليه السلام.
قال أبو جعفر: ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "فآمنوا بالله ورسله"، فصدقوا، يا أهل الكتاب ، بوحدانية الله وربوبيته ، وأنه لا ولد له ، وصدقوا رسله فيما جاؤوكم به من عند الله ، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له ، ولا صاحبة له ، ولا ولد له ، "ولا تقولوا ثلاثة"، يعني : ولا تقولوا : الأرباب ثلاثة .
ورفعت الثلاثة، بمحذوف دل عليه الظاهر، وهو هم . ومعنى الكلام : ولا تقولوا هم ثلاثة . وإنما جاز ذلك ، لأن القول حكاية، والعرب تفعل ذلك في الحكاية، ومنه قول الله : "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم"، [الكهف : 22]. وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه ، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم .
ثم قال لهم جل ثناؤه ، متوعدا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله : "انتهوا"، أيها القائلون : الله ثالث ثلاثة، عما تقولون من الزور والشرك بالله ، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قيله ، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم -على قيلكم ذلك ، إن أقمتم عليه ، ولم تنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالإنابة إليه - والأجل في معادكم .
قال أبو جعفر: يعني بقوله : "إنما الله إله واحد"، ما الله ، أيها القائلون : الله ثالث ثلاثة، كما تقولون ، لأن من كان له ولد، فليس بإله . وكذلك من كان له صاحبة، فغير جائز أن يكون إلهاً معبوداً. ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة، إله واحد معبود، لا ولد له ، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك .
ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكفرة به فقال : "سبحانه أن يكون له ولد"، يقول : علا الله وجل وعز وتعظم وتنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة.
ثم أخبر جل ثناؤه عباده : أن عيسى وأمه ومن في السماوات ومن في الأرض ، عبيده وإماؤه وخلقه ، وأنه رازقهم وخالقهم ، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه ، احتجاجاً منه بذلك على من ادعى أن المسيح ابنه ، وأنه لو كان ابنه كما قالوا، لم يكن ذا حاجة إليه ، ولا كان له عبداً مملوكاً، فقال : "له ما في السماوات وما في الأرض"، يعني : لله ما في السماوات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكاً وخلقاً، وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم ، فكيف يكون المسيح ابناً لله ، وهو في الأرض أو في السماوات ، غير خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن؟
وقوله : "وكفى بالله وكيلا"، يقول : وحسب ما في السماوات وما في الأرض بالله قيماً ومدبراً ورازقاً، من الحاجة معه إلى غيره.
قوله تعالى :" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " هي عن الغلو والغلو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلوا غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها، ويعنى بذلك فمي ذكره المفسرون غلق اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم وغلوا النصارى فيه حتى جعلوه رباً، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله : الحسنة بين سيئتين ، وقلا الشاعر :
وأوف ولا تسوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال الآخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة لوا تركب ذلولاً ولا صعبا
وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام :
" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله"
قوله تعالى :" ولا تقولوا على الله إلا الحق " أي لا تقولوا إن له شريكاً أو ابنا ، ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال:
فيه ثلاث مسائل:
الأولى - قوله تعالى :" إنما المسيح " المسيح رفع بالابتداء وعيسى بدل منه وكذا ابن مريم ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى : إنما المسيح ابن مريم ودل بقوله: عيسى ابن مريم على أن من كان منسوباً بوالدته كيف يكون إلهاً، وحق الإله أن يكون قديماً لا محدثاً ويكون رسول الله خبراً بعد خبر .
الثانية- لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه مريم إلا ابنه عمران فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعاً لحكمه ذكرها بعض الأشياخ، فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ ولا يبتذلون أسماءهن بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها، وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها .
الثالثة- اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب فإذا تكرر اسمه منسوباً للأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله والله أعلم .
قوله تعالى :" وكلمته ألقاها إلى مريم " أي هو مكون بكلمة كن فكان بشراً من غير أب والعرب تسمى الشيء باسم الشيء إذا كان صادراً عنه وقيل: كلمته بشارة الله تعالى مريم عليها السلام ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام، وذلك قوله :" إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " [ آل عمران : 45] وقيل الكلمة ههنا بمعنى الآية قال الله تعالى :" وصدقت بكلمات ربها " [ الحريم : 12]و" ما نفدت كلمات الله " [ لقمان: 27] وكان لعيسى أربعة أسماء، المسيح وعيسى وكلمة وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن، ومعنى ألقاها إلى مريم أم بها مريم .
قوله تعالى :" وروح منه " هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا وعنه أجوبة ثمانية الأول - قال أبي بن كعب : خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السم فلما أدار خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام، فلهذا قال: "وروح منه " وقيل: هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه هذا كقوله :" وطهر بيتي للطائفين " [ الحج : 26] وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم وقيل: يسمى روحاً بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحاً لأنه ريح يخرج من الروح قال الشاعر - هو ذو الرمة - :
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيته قدرا
وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله وعلى هذا يكون وروح منه معطوفاً على المضمر الذي هو اسم الله في ألقاها التقدير : ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم وقيل: روح منه أي منه خلقه، كما قال : " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " [ الجاثية:13] أي من خلقه وقيل: روح منه أي رحمة منه فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه، ومنه قوله تعالى :" وأيدهم بروح منه " [ المجادلة :22] أي برحمة وقرئ "فروح وريحان " [الواقعة :89] وقيل: وروح منه وبرهان منه وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى :" فآمنوا بالله ورسله " أي آمنوا بأن إله واحد خالق المسيح ومرسله وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلهاً " ولا تقولوا " آلهتنا " ثلاثة " عن الزجاج قال ابن عباس: يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله تعالى :" سيقولون ثلاثة " [الكهف:22] قال أبو علي: التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة وبالابن المسيح، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين ومحصول كلامها يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفاً بالإلهية فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك فإن اعترفت النصارى بذلك فقط سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به، وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضاً، لأنهم معارضون بموسى عليه السلام وما كان يجري على يديه من الأمور العظام مثل قلب العصا ثعباناً وفلق البحر واليد والبيضاء والمن والسلوى وغير ذلك وكذلك ما جرى على يد الأنبياء فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضاً من ظهوره على يد عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى، فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن ويكذبون من أتى به ، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر، وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعد ما رفع عيسى يصلون إلى القبلة، ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإن أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار، وكان له فرس يقال لها العقاب فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى : أنا بولس عودكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتاً فأقام فيه سنة لا يخرج ليلاً ولا نهاراً، حتى تعلم الإنجيل، فخرج وقال : نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله ، ثم توجه إلى الروم وعليهم اللاهوت والناسوت، وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكه ابن الله وعلم رجلاً يقال له يعقوب ذلك ثم دعا رجلاً يقال له الملك فقال له ، إن الإله ولا يزل ولا يزال عيسى فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً وقال له : أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عنه، وقال لكل واحد منهم إني غداً أذبح نفسي وأتقرب بها، فادع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، فما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا فجميع النصارى من الفرق الثلاث، فهذا كان سبب شركهم فيما يقال، والله أعلم وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى :" فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " [ المائدة:14] وسيأتي إن شاء الله تعالى :
قوله تعالى :" انتهوا خيرا لكم " خيراً منصوب عند سيبويه بإضمار فعل كأنه قال : ائتوا خيراً لكم، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمره بإتيان ما هو خير لهم قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره" انتهوا خيرا لكم " لأنك إذا قلت : ائته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر وأنشد :
فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا
ومذهب أبو عبيدة: انتهوا يكن خيراً لكم قال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأنه يضمر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب، ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف قال علي بن سليمان: هذا خطأ فاحش، لأنه يكون المعنى :انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم .
قوله تعالى :" إنما الله إله واحد " هذا ابتداء وخبر واحد نعت له ويجوز أن يكون إله بدلاً من اسم الله عز وجل واحد خبره التقدير إنما المعبود واحد " سبحانه أن يكون له ولد " أي تنزيها عن أن يكون له ولد فلما سقط عن كان أن في محل النصب بنزع الخافض، أي كيف يكون له ولد، وولد الرجل مشبه له ولا شبيه لله عز وجل " له ما في السماوات وما في الأرض " فلا شريك له وعيسى ومريم من ولا جملة ما في السماوات وما في الأرض وما فيهما مخلوق فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق! وإن جاز له فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولداً له .
"وكفى بالله وكيلا " أي لأوليائه وقد تقدم .
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء, وهذا كثير في النصارى, فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها, فنقلوه من حيز النبوة, إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه, فادعوا فيهم العصمة, واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً, أو ضلالاً أو رشاداً, أو صحيحاً أو كذباً, ولهذا قال الله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" الاية. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم قال: زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس, عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله". ثم رواه هو وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة, عن الزهري كذلك, ولفظه "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" وقال علي بن المديني: هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري عن الحميدي, عن سفيان بن عيينة, عن الزهري به, ولفظه "فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلاً قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا, وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهويكم الشيطان, أنا محمد بن عبد الله, عبد الله ورسوله, والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" تفرد به من هذا الوجه. وقوله تعالى: "ولا تقولوا على الله إلا الحق" أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً, وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته, فلا إله إلا هو, ولا رب سواه, ولهذا قال: " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه, قال له: كن فكان, ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم, أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل, فكان عيسى بإذنه عز وجل, وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها, فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم, والجميع مخلوق الله عز وجل, ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه, لأنه لم يكن له أب تولد منه, وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان, والروح التي أرسل بها جبريل قال الله تعالى: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام". وقال تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون". وقال تعالى: " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " وقال تعالى: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها" إلى آخر السورة, وقال تعالى إخباراً عن المسيح: " إن هو إلا عبد أنعمنا عليه " الاية.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" هو قوله: "كن فيكون". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول الله "وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" قال: ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى, وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: "ألقاها إلى مريم" أي أعلمها بها, كما زعمه في قوله: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " أي يعلمك بكلمة منه ويجعل ذلك كقوله تعالى: "وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك" بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم, فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام. وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل, حدثنا الوليد, حدثنا الأوزاعي, حدثني عمير بن هانىء, حدثنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه, وأن الجنة حق والنار حق, أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" .
وقال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير بن هانىء, عن جنادة زاد "من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء", وكذا رواه مسلم عن داود بن رشيد, عن الوليد, عن ابن جابر به, ومن وجه آخر عن الأوزاعي به, فقوله في الاية والحديث "وروح منه" كقوله: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" أي من خلقه ومن عنده وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعه ـ بل هي لابتداء الغاية كما في الاية الأخرى, وقد قال مجاهد في قوله: "وروح منه" أي ورسول منه, وقال غيره: ومحبة منه, والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف, كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: "هذه ناقة الله" وفي قوله: "وطهر بيتي للطائفين" وكما روي في الحديث الصحيح: "فأدخل على ربي في داره" أضافها إليه إضافة تشريف, وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد.
وقوله: "فآمنوا بالله ورسوله" أي فصدقوا بأن الله واحد أحد, لا ولد له ولا صاحبة, واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله, ولهذا قال تعالى: "ولا تقولوا ثلاثة" أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, وهذه الاية كالتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد" وكما قال في آخر السورة المذكورة: " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني " الاية, وقال في أولها "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" الاية, ـ فالنصارى عليهم لعائن الله ـ من جهلهم ليس لهم ضابط, ولا لكفرهم حد, بل أقوالهم وضلالهم منتشر, فمنهم من يعتقده إلهاً, ومنهم من يعتقده شريكاً, ومنهم من يعتقده ولداً, وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة, وأقوال غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولاً.
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطريق بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية, أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم, وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة, وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة, وأنهم اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر, فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً, فكانوا أحزاباً كثيرة, كل خمسين منهم على مقالة, وعشرون على مقالة, ومائة على مقالة, وسبعون على مقالة, وأزيد من ذلك وأنقص. فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر, وقد توافقوا على مقالة, فأخذها الملك ونصرها وأيدها, وكان فيلسوفاً داهية, ومحق ما عداها من الأقوال, وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر, وبنيت لهم الكنائس, ووضعوا لهم كتباً وقوانين, وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها وأتباع هؤلاء هم الملكانية. ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً, فحدث فيهم اليعقوبية, ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم النسطورية, وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ويختلفون في كيفية ذلك, وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم هل اتحدا, أو ما اتحدا, أو امتزجا, أو حل فيه على ثلاث مقالات وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى, ونحن نكفر الثلاثة, ولهذا قال تعالى: "انتهوا خيراً لكم" أي يكن خيراً لكم "إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد" أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً "له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً" أي الجميع ملكه وخلقه, وجميع ما فيها عبيده وهم تحت تدبيره وتصريفه, وهو وكيل على كل شيء, فكيف يكون له منهم صاحبة وولد, كما قال في الاية الأخرى: "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد" الاية, وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ".
قوله 171- " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " الغلو: هو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاءً، وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها. والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى، فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه رباً، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
"ولا تقولوا على الله إلا الحق" وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله" المسيح مبتدأ وعيسى بدل منه، وابن مريم صفة لعيسى، ورسول الله الخبر، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان والجملة تعليل للنهي، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران. قوله "وكلمته" عطف على رسول الله، و"ألقاها إلى مريم" حال، أي كونه بقوله كن فكان بشراً من غير أب، وقيل "كلمته" بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبرين بقوله "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه" وقيل: الكلمة ها هنا بمعنى الآية، ومنه "وصدقت بكلمات ربها"، وقوله "ما نفدت كلمات الله". قوله "وروح منه" أي: يرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى، وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله: أي من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل "روح منه" أي: من خلقه كما قال تعالى "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" أي: من خلقه وقيل "روح منه" أي: رحمة منه، وقيل "روح منه" أي: برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه. وقوله "منه" متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي: كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ "فآمنوا بالله ورسله" أي: بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة. قوله "ولا تقولوا ثلاثة" ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج: أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله "سيقولون ثلاثة" وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة، الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالآب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح. وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح. وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً.
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى: فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الرب، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين. والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين. ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام.
وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام. وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه ينزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه. قوله "انتهوا خيراً لكم" أي: انتهوا عن التثليث، وانتصاب خيراً هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله "فآمنوا خيراً لكم". "إنما الله إله واحد" لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد "سبحانه أن يكون له ولد" أي: أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد "له ما في السموات وما في الأرض" وما جعلتمون له شريكاً أو ولداً هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ولا ولداً "وكفى بالله وكيلاً" بكل الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: "دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، قالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله "لكن الله يشهد" الآية". وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عوداً من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
171-"يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" ، نزلت في النصارى وهم أصناف : الماريعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية : عيسى هو الله ، وكذلك الملكانية، وقالت النسطورية : عيسى هو ابن الله ، وقالت : المرقوسية ثالث ثلاثة. علمهم رجل من اليهود يقال له بولس، سيأتي في سورة التوبة إن شاء الله تعالى.
وقال الحسن:يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى، فإنهم جميعاً غلوا في أمر عيسى، فاليهود بالتقصير، والنصارى بمجاوزة الحد، وأصل الغلو: مجاوزة الحد، وهو في الدين حرام.
قال الله تعالى:"لا تغلوا في دينكم"، لا تشددوا في دينكم فتفتروا على الله"ولا تقولوا على الله إلا الحق"، لا تقولوا إن له شريكاً وولداً"إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته"،وهي قوله كن فكان بشراً من غير أب،[وقيل غيره] ،"ألقاها إلى مريم"أي أعلمها وأخبرها بها، كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة،"وروح منه"، هو روح كسائر الأرواح إلا أن الله تعالى أضافة إلى نفسه[تشريفاً].
وقيل: الروح هو النفخ الذي نفخه جبريل عليه السلام في درع مريم فحملت بإذن الله تعالى، سمي النفخ روحاً لأنه ريح/يخرج من الروح وأضافة إلى نفسه لأنه كان بأمره.
وقيل: روح منه أي ورحمة، فكان عيسى عليه السلام رحمةً لمن تبعه وآمن به.
وقيل:الروح: الوحي،أوحى إلى مريم بالبشارة ، وإلى جبريل عليه السلام بالنفخ ، وإلى عيسى أن كن فكان، كما قال الله تعالى :"ينزل الملائكة بالروح من أمره"(النحل-2) يعني: بالوحي ، وقيل:أراد بالروح جبريل عليه السلام، معناه: وكلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها إليها أيضاً روح منه بأمره وهو جبريل عليه السلام، كما قال:"تنزل الملائكة والروح"(القدر-4) يعني: جبريل فيها، وقال:"فأرسلنا إليها روحنا"(مريم-17) يعني: جبريل.
أخبرناعبد الواحد بن أحمد المليحيأناأحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسفأخبرنامحمد ابن إسماعيلأناصدقة بن الفضلأناالوليد عن الأوزاعيحدثناعمرو بن هانيحدثنيجنادة بن أميةعن عبادة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه،وأن الجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
"فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة" ،أي: ولا تقولوا هم ثلاثة، وكانت النصارى تقول:أب وابن وروح قدس،"انتهوا خيراً لكم" تقديره: انتهوا يكن الانتهاء خيراً لكم،"إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد"، واعلم أن التبني لا يجوز لله تعالى، لأن التبني غنما يجوز لمن يتصور له ولد، " له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ".
171" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " الخطاب للفريقين، غلت اليهود في حط عيسى عليه الصلاة والسلام حتى رموه بأن ولد من رشدة، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً. وقيل الخطاب للنصارى خاصة فإنه أوفق لقوله: " ولا تقولوا على الله إلا الحق " يعني تنزيهه عن الصاحبة والولد. " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم " أوصلها إليها وخصلها فيها. " وروح منه " وذو روح صدر منه بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له، وقيل سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب " فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة " أي الألهة ثلاثة الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله تعالى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " أو الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله ثلاثة أقانيم[*1] الأب والابن وروح القدس، ويريدون الأب بالذات، والابن العلم، وبروح القدس الحياة. " انتهوا " عن التثليث. " خيرا لكم " نصبه كما سبق. " إنما الله إله واحد " أي واحد بالذات لا تعدد فيه بوجه ما. " له ما في السموات وما في الأرض " ملكاً وخلقاً لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولداً. " وكفى بالله وكيلا " تنبيه على غناه عن الولد فإن الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلقه أو يعينه.
[*1]أعتقد خطأ والمطلوب التحري
لأني لم أخمن الصحيح...
171. O People of the Scripture! Do not exaggerate in your religion nor utter aught concerning Allah save the truth. The Messiah, Jesus son of Mary, was only a messenger of Allah, and His word which He conveyed unto Mary, and a spirit from Him. So believe in Allah and His messengers, and say not "Three". Cease! (it is) better for you! Allah is only One God. Far is it removed from His transcendent majesty that he should have a son. His is all that is in the heavens and all that is in the earth. And Allah is sufficient as Defender.
171 - O people of the book commit no excesses in your religion: nor say of God aught but the truth. Christ Jesus the son of Mary was (no more than) an apostle of God, and his word, which he bestowed on Mary and a spirit proceeding from him: so believe in God and his apostles. say not trinity: desist: it will be better for you: for God is one God: glory be to him: (far exalted is he) above having a son. to him belong all things in the heavens and on earth, and enough is God as a disposer of affairs.