[النساء : 148] لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا
(لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) من أحد أي يعاقبه عليه (إلا من ظلم) فلا يؤاخذه بالجهر به بأن يخبر عن ظلم ظالمه ويدعو عليه (وكان الله سميعا) لما يقال (عليما) بما يفعل
قوله تعالى لا يحب الله الجهر الآية أخرج هناد بن السري في كتاب الزهد عن مجاهد قال أنزلت لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم في رجل أضاف رجلا بالمدينة فأساء قراه فتحول عنه فجعل يثني عليه بما أولاه فرخص له إن يثني عليه بما أولاه
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم الظاء .
وقرأه بعضهم : إلا من ظلم ، بفتح الظاء.
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك بضم الظاء في تأويله .
فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحب الله تعالى ذكره أن يجهر أحدنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلا من ظلم ، يقول : إلا من ظلم فيدعو على ظالمه ، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك ، لأنه قد رخص له في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، يقول : لا يحب الله أن يدعو أحذ على أحد، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : "إلا من ظلم"، وإن صبر فهو خير له.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، فإنه يحب الجهر بالسوء من القول .
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما"، عذر الله المظلوم كما تسمعون : أن يدعو.
حدثني الحارث قال ، حدثنا أبو عبيد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد، ونحوه من الدعاء.
ف من ، على قول ابن عباس هذا، في موضع رفع . لأنه وجهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه . فكان معنى الكلام على قوله : لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول ، إلا المظلوم ، فلا حرج عليه في الجهر به.
وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية . وذلك أن من لا يجوز أن يكون رفعاً عندهم ب الجهر، لأنها في صلة أن ولم ينله الجحد، فلا يجوز العطف عليه . من خطإ عندهم أن يقال : لا يعجبني أن يقوم إلا زيد.
وقد يحتمل أن تكون من نصباً، على تأويل قول ابن عباس ، ويكون قوله : "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، كلاماً تاماً، ثم قيل : إلا من ظلم فلا حرج عليه، فيكون من استثناء من الفعل ، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه ، كما قال جل ثناؤه : "لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر" [الغاشية : 22 -23] ، وكقولهم : إني لأكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك ، ولم يذكر قبله شيء من الأسماء.
ومن ، على قول الحسن هذا، نصب ، على أنه مستثنى من معنى الكلام ، لا من الاسم ، كما ذكرنا قبل في تأويل قول ابن عباس ، إذا وجه من ، إلى النصب ، وكقول القائل : كان من الأمر كذا وكذا، اللهم إلا أن فلانا جزاه الله خيرا فعل كذا وكذا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظلم فيخبر بما نيل منه.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج من عنده فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن!.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: "إلا من ظلم"، قال : إلا من أثر ما قيل له .
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال : هو الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .
وقال آخرون : عنى بذلك ، الرجل ينزل بالرجل فلا يقريه ، فينال من الذي لم يقره .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إلا من ظلم"، قال : إلا في ظلم فانتصر، يجهر بالسوء.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، مثله.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد، وعن حميد الأعرج ، عن مجاهد: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه ، فقد رخص الله له أن يقول فيه.
وحدثني أحمد بن حماد الدولابي قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد، "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال : هو في الضيافة، يأتي الرجل القوم ، فينزل عليهم ، فلا يضيفونه ، رخص الله له أن يقول فيهم .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، الآية، قال : ضاف رجل رجلاً فلم يؤد إليه حق ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : ضفت فلاناً فلم يؤد حق ضيافتي ! فذلك جهر بالسوء إلا من ظلم ، حين لم يؤد إليه ضيافته.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال مجاهد: إلا من ظلم فانتصر، يجهر بسوء. قال مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلج يضفه ، فنزلت : "إلا من ظلم"، ذكر أنه لم يضفه ، لا يزيد على ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من ظلم فانتصر من ظالمه ، فإن الله قد أذن له في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، يقول : إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد من الخلق ، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم ، فليس عليه جناح .
ف من ، على هذه الأقوال التي ذكرناها، سوى قول ابن عباس ، في موضع نصب على انقطاعه من الأول . والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا في الاستثناء المنقطع.
فكان معنى الكلام على هذه الأقوال ، سوى قول ابن عباس : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه ، أو ينتصر ممن ظلمه .
وقرأ ذلك آخرون بفتح الظاء: إلا من ظلم ، وتأولوه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظلم فلا باس أن يجهر له بالسوء من القول .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: كان أبي يقرأ: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، قال ابن زيد: يقول : إلا من أقام على ذلك النفاق ، فيجهر له بالسوء حتى ينزع . قال : وهذه مثل : "ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق" [الحجرات : 11]، أن تسميه بالفسق ، "بعد الإيمان" [الحجرات : 11]، بعد إذ كان مؤمناً، "ومن لم يتب" [الحجرات : 11]، من ذلك العمل الذي قيل له ، "فأولئك هم الظالمون" [الحجرات : 11] ، قال : هو شر ممن قال ذلك.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، فقرأ : "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" حتى بلغ "وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما". ثم قال بعد ما قال : هم في الدرك الأسفل من النار، "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما"، لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، قال : لا يحب الله أن يقول لهذا: ألست نافقت ؟ ألست المنافق الذي ظلمت وفعلت وفعلت ؟، من بعد ما تاب ، إلا من ظلم ، إلا من أقام على النفاق. قال : وكان أبي يقول ذلك له ، وبقرأها : إلا من ظلم .
ف من على هذا التأويل نصب لتعلقه ب الجهر.
وتأويل الكلام ، على قول قائل هذا القول : لا يحب الله أن يجهر أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول ، إلا من ظلم منهم فأقام على نفاقه ، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: "إلا من ظلم" بضم الظاء، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح .
فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فالصواب في تأويل ذلك : لا يحب الله ، أيها الناس ، أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول ، "إلا من ظلم"، بمعنى : إلا من ظلم ، فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء عليه.
وإذا كان ذلك معناه ، دخل فيه إخبار من لم يقر، أو أسيء قراه ، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله ، غيره من سائر الناس . وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم : أن ينصره الله عليه ، لأن في دعائه عليه إعلاماً منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له .
وإذ كان ذلك كذلك ، ف من في موضع نصب ، لأنه منقطع عما قبله ، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قوله : "لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر" [الغاشية : 22 -23].
وأما قوله : "وكان الله سميعا عليما"، فإنه يعني : "وكان الله سميعا"، لما تجهرون به من سوء القول لمن تجهرون له به ، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم ، "عليما"، بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به فلا تجهرون له به ، محص كل ذلك عليكم ، حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءكم ، المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه.
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعلى :" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " وتم الكلام ثم قال جل وعز : " إلا من ظلم " استثناء ليس من الأول في موضع نصب، أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم وقراءة الجمهور ظلم بضم الظاء وكسر اللام، ويجوز إسكانها ومن قرأ ظلم بفتح
الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة. فعلى القراءة الأولى قالت طائفة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلى من ظلم فلا يكره له الجهر به ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل: اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي فهذا دعاء المدافعة وهي أقل منازل السوء وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو خير له فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم وقال أيضاً هو والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول وقال ابن المستنبر: إلا من ظلم معناه : إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح والآية على هذا في الإكراه وكذا قال قطرب : " إلا من ظلم " يريد المكره لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر قال : يجوز أن يكون المعنى " إلا من ظلم " على البدل كأنه قال : لا يحب الله إلا من ظلم ، أي لا يحب الظالم فكأنه يقول: يحب من ظلم أي بأجر من ظلم والتقدير على هذا القول :لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم على البدل وقال مجاهد: نزلت في الضيافة فرخص له أن يول فيه قال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلم يضيفه فنزلت إلا من ظلم ورواه ابن أبي نجيح أيضاً عن مجاهد: فقال : نزلت هذه الآية " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " في الرجل يمر الرجل فلا يضفه فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته، وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية قالوا: لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها ، وهو قول الليث بن سعد والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في هود والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه ، ولكن مع اقتصاد- إن كان مؤمنًا كما قال الحسن: فأما إن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا وقد تقدم في البقرة وإن كان كافراً فأرسل لسكانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء كما "فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " وقال :
اللهم عليك بفلان وفلان سماهم وإن كان مجاهراً بالظلم دعى عليه جهراً ولم يكلن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم وقد روى أبو داود :
"عن عائشة قالت : سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبخي عنه " لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه . وروى أيضاً عن عمرو بن الشريد عن أنبيه "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " قال ابن المبارك: يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس له وفي صحيح مسلم :
" مطل الغنى ظلم " فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلا يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك حكى معناه عن سفيان، وهو معنى قوله ابن المبارك رضي الله عنهما .
الثانية - وليس من هذا الباب مع وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن الحديث ولم يرد عليه واحد منهم لأنها كانت حكومة كل واحد منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب قال ابن العربي وقال علماءنا : هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقارب وأما إذا تفاوتت فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب وهذا صحيح وعليه تدل الآثار، ووجه الآخر وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصوله سلطة العمومة فإن العم صنو الأب ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأمور، ثم انضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينيه ، فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وإن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما .
الثالثة- فأما من قرأ ظلم بالفتح في الظاء واللام- وهي قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب فالمعنى، إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق: ألست نافقت؟ إلا من ظلم، أي أقام على النفاق ودل على هذا قوله تعالى :" إلا الذين تابوا " [ النساء : 146 البقرة :160] قال ابن زيد : وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهراً بسوء من القول ثم قال لهم بعد ذلك : "ما يفعل الله بعذابكم " [النساء: 147] على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال المؤمنين.
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم في أقامته على النفاق، فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار؟ ونحو هذا من القول ، وقال قوم : معنا الكلام : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعاً : أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلماً وعدواناً وهو ظالم في ذلك .
قلت: وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم وقال أبو إسحاق الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءا، فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه ويكون الاستثناء ليس من الأول .
قلت: يدل على هذا أحاديث منها "قوله عليه السلام :
خذوا على أيدي سفهائكم" "قوله
انصرو أخالك ظالماً أو مظلوماً قالوا: هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً قال: تكفه عن الظلم" وقال الفراء: إلى من ظلم يعني ولا من ظلم .
قوله تعالى : "وكان الله سميعا عليما " تحذير للظالم حتى لا يظلم وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار.
قال ابن أبي طلحة, عن ابن عباس في الاية يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله: "إلا من ظلم" وإن صبر فهو خير له وقال أبو داود حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي, حدثنا سفيان, عن حبيب, عن عطاء, عن عائشة, قالت: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تسبخي عنه" وقال الحسن البصري: لا يدع عليه, وليقل: اللهم أعني عليه, واستخرج حقي منه, وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الاية: هو الرجل يشتمك فتشتمه, ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه, لقوله: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل". وقال أبو داود: حدثنا القعنبي, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المستبان ما قالا, فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم" وقال عبد الرزاق: أنبأنا المثنى بن الصباح عن مجاهد في قوله "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" قال: ضاف رجل رجلاً فلم يؤد إليه حق ضيافته, فلما خرج أخبر الناس فقال: ضفت فلاناً فلم يؤد إلي حق ضيافتي, قال: فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الاخر إليه حق ضيافته. وقال ابن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" قال: قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته, فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن, وفي رواية: هو الضيف المحول رحله, فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول, وكذا روي عن غير واحد عن مجاهد نحو هذا, وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي من طريق الليث بن سعد, والترمذي من حديث ابن لهيعة, كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر, قال: قلنا: يارسول الله, إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا, فما ترى في ذلك ؟ فقال: "إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف, فاقبلوا منهم, وإن لم تفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم".
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا الجودي يحدث عن سعيد بن مهاجر عن المقدام بن أبي كريمة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما مسلم ضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً, فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله" تفرد به أحمد من هذا الوجه, وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة, عن منصور, عن الشعبي, عن المقدام بن أبي كريمة, سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم, فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً له عليه, فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه". ثم رواه أيضاً عن غندر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله البكائي عن وكيع وأبي نعيم, عن سفيان الثوري, ثلاثتهم عن منصور به, وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عوانة عن منصور به.
ومن هذه الأحاديث وأمثالها, ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة, ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى, حدثنا محمد بن عجلان عن أبيه, عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إن لي جاراً يؤذيني, فقال له "أخرج متاعك فضعه على الطريق", فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق, فكل من مر به قال: مالك ؟ قال: جاري يؤذيني, فيقول: اللهم العنه, اللهم أخزه, قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك, والله لا أوذيك أبداً, وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي توبة الربيع بن نافع, عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به, ثم قال البزار: لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد, ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم, ويوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً" أي إن تظهروا أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم, فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه, فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم, ولهذا قال: "فإن الله كان عفواً قديراً", ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله, فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك, ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك, وفي الحديث الصحيح "ما نقص مال من صدقة, ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً, ومن تواضع لله رفعه" .
نفي الحب كناية عن البغض، وقراءة الجمهور 148- "إلا من ظلم" على البناء للمجهول. وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب "إلا من ظلم" على البناء للمعلوم، وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف: أي إلا جهر من ظلم، وقيل: إنه على القراءة الأولى أيضاً منقطع: أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان.
واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه، وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك، وقيل معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له، والآية على هذا في الإكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحب الله إلا من ظلم: أي لا يحب الظالم بل يحب المظلوم. والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع: أي: إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له. وقال قوم: معنى الكلام: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يحهر بالسوء ظلماً وعدواناً وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ويكون استثناء ليس من الأول "وكان الله سميعاً عليماً" هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل.
148-قوله "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم ، يجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعوا عليه، قال الله تعالى:" ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل "(الشورى-41) قال الحسن: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منهن قويل:إن شئتم جاز أن يستم بمثله لا يزيد عليه.
أخبرنا أبو عبد الله الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المستبان ما قالا ، فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم".
وقال مجاهد هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا احمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسمعيل أنا قتيبة بن سعيد أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابي الخير عن عقبة بن عامر أنه قال: "قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم".
وقرأ الضحاك بن مزاحم وزيد بن أسلم:"إلا من ظلم" بفتح الظاء واللام، معناه: لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، قويل معناه: لا يحب الله الجهر بالسور من القول لكن يجهر من ظلم والقراءة الأولى هي المعروفة ،"وكان الله سميعاً" لدعاء المظلوم،"عليماً"، بعقاب الظالم.
148" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " إلا من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه. وروي أن رجلاً ضاف قوماً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه. فنزلت وقرئ من ظلم على البناء للفاعل فيكون الاستثناء منقطعاً أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله. " وكان الله سميعا " لكلام المظلوم. " عليما " بالظالم.
148. Allah loveth not the utterance of harsh speech save by one who hath been wronged. Allah is ever Nearer, Knower.
148 - God loveth not that evil should be noised abroad in public speech, except where injustice hath been done; for God is he who heareth and knoweth all things.