[النساء : 102] وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا
(وإذا كنت) يا محمد حاضرا (فيهم) وأنتم تخافون العدو (فأقمت لهم الصلاة) وهذا جري على عادة القرآن في الخطاب (فلتقم طائفة منهم معك) وتتأخر طائفة (وليأخذوا) أي الطائفة التي قامت معك (أسلحتهم) معهم (فإذا سجدوا) أي صلوا (فليكونوا) أي الطائفة الأخرى (من ورائكم) يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة تحرس (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) معهم إلى أن تقضوا الصلاة ، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ببطن نخل رواه الشيخان (ود الذين كفروا لو تغفلون) إذا قمتم إلى الصلاة (عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم وهذا علة الأمر بأخذ السلاح (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) فلا تحملوها وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولين للشافعي والثاني أنه سنة ورجح (وخذوا حذركم) من العدو أي احتزروا منه ما استطعتم (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) ذا إهانة1
ك قوله تعالى ولا جناح عليكم أخرج البخاري عن ابن عباس قال نزلت إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك ، يا محمد، الخائفين عدوهم أن يفتنهم ، "فأقمت لهم الصلاة"، يقول : فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوهم وتزاحف بعضهم على بعض ، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها، "فلتقم طائفة منهم معك"، يعني : فلتقم فرقة من أصحابك الذي تكون أنت فيهم معك في صلاتك ، وليكن سائرهم في وجوه العدو.
وترك ذكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلية مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله ، لدلالة الكلام المذكور على المراد به ، والاستغناء بما ذكر عما ترك ذكره. "وليأخذوا أسلحتهم".
واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح.
فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ومعنى الكلام: "وليأخذوا"، يقول: ولتأخذ الطائفة المصلية معك من طوائفهم، "أسلحتهم"، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم، كالسيف يتقلده أحدهم، والسكين، والخنجر يشده إلى درعه وثيابه التي هي عليه، ونحو ذلك من سلاحه.
وقال آخرون : بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم : الطائفة التي كانت بإزاء العدو، دون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك قول ابن عباس.
حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "فإذا سجدوا"، يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلي بصلاتك ففرغت من سجودها، "فليكونوا من ورائكم"، يقول : فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي العدو في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصل معك، ولم تدخل معك في صلاتك.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم".
فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلوا ففرغوا من صلاتهم ، فليكونوا من ورائكم.
ثم اختلف أهل هذه المقالة.
فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة، سلمت وانصرفت من صلاتها، حتى تأتي مقام أصحابها بإزاء العدو، ولا قضاء عليها. وقالوا: هم الذين عنى الله بقوله: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، أن تجعلوها -إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم- ركعة. ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفة صلاة الخوف ركعة، ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا.
وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه.
وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة، التي أمرها الله بالقيام مع نبيها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو، وإذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه، أن تقوم في مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصلي لأنفسها بقية صلاتها وتسلم، وتأتي مصاف أصحابها، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت قائماً في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلت معه مما يجوز قصر عددها من الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصاف أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافةً عدوها،فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها.
ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون.
فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من ركعتيه ورفع رأسه من سجوده في ركعته الثانية، أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لانشغالها بعدوها، أن تقوم فتقضي ركعتها الفائتة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعداً في تشهده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم.
وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد، أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده. فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم. ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ فقضت ركعتها الفائتة. وكل قائل من الذين ذكرنا قولهم، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخباراً بأنه كما قال فعل.
ذكر من قال: انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين حتى قضت كل طائفة صلاتها، ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني مالك ، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو. فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم. ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.
حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني عبيد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في خوف، فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام، فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدموا وتخلف الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم".
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف: تقوم طائفة بين يدي الإمام وطائفة خلفه، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين، ثم يتحولون إلى مكان أصحابهم. ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين، ثم يسلم".
ذكر من قال: "كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم تقضي ما بقي عليها بعد".
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد قال ، سمعت القاسم قال: حدثني صالح بن خوات بن جبير: أن سهل بن أبي حثمة حدثه: أن صلاة الخوف : أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلي ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة أخرى مواجهة العدو، فيصلي. فيركع الإمام بالذين معه ويسجد، ثم يقوم، فإذا استوى قائماً ركع الذين وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا فانصرفوا ، والإمام قائم ، فقاموا إزاء العدو، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الإمام ، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم ، فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين ، ثم سلموا.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يزيد بن هرون قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد: أن صالح بن خوات أخبره ، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وسأله قال، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم بن محمد، عن صالح، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه ، وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم ، ويذهبون إلى مقام أولئك ، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين ، فهي له ركعتان ولهم واحدة. ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين.
قال بندار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد، وقال لي: اكتبه إلى جنبه ، فلست أحفظه ، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد.
حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات: أن الإمام يقوم فيصف صفين، طائفة مواجهة العدو، وطائفة خلف الإمام. فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة، ثم يقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون، ثم ينطلقون فيصفون. ويجيء الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلاة الخوف: أن تقوم طائفة من خلف الإمام وطائفة يلون العدو، فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة ويقوم قائماً، فيصلي القوم إليها ركعة أخرى، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم ، ويجيء أصحابهم والإمام قائم ، فيصلى بهم ركعة، فيسلم. ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى، ثم ينصرفون ، قال عبيد الله: فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف بشيء هو أحسن عندي من هذا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، فهذا عند الصلاة في الخوف، يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم ، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو. فيصلي الإمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته ، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية والإمام جالس ، لم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم ، فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية. فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة.
وقال آخرون: بل تأويل قوله: "فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"، فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته فدخلت معه في صلاته، السجدة الثانية من ركعتها الأولى، "فليكونوا من ورائكم"، يعني: من ورائك ، يا محمد، ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو. قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدو، عليها بقية صلاتها. قالوا: وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو حتى تدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته، فيصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا: وذلك معنى قول الله عز ذكره: "ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم".
ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان تبقى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته، على قول قائلي هذه المقالة ومتأولي هذا التأويل.
فقال بعضهم: كان الطائفة الثانية التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها، إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في مقامها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدو بعد لم تتم. فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت بقية صلاتها.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله قال، "قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقامت طائفة منا خلفه، وطائفة بإزاء -أو: مستقبلي- العدو، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين خلفه ركعة، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم. وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم رسول الله. ثم قام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أصحابهم مستقبلي العدو، ورجع الآخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة".
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا خصيف ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر نحوه.
حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحق قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقف أصحابها الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها -فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة. وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة- فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هناك وسلمت، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وأقبلت الطائفة التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت الركعة الثانية من صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت، انصرفت إلى أصحابها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان ، عن حماد، عن إبراهيم في صلاة الخوف ، قال: يصف صفاً خلفه ، وصفاً بإزاء العدو في غير مصلاه، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك ، وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، وقد صلى هو ركعتين ، وصلى كل صف ركعة . ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو، فقاموا مقامهم ، وجاؤوا فقضوا الركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بإزاء العدو، وجاء أولئك فصلوا ركعة. قال سفيان: فتكون لكل إنسان ركعتين ركعتين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد، جميعاً، عن سفيان قال: كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف، فذكر نحوه.
حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور، عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مثل ذلك.
وقال آخرون: بل كل طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها، من غير تضييع بعضها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها. قال : فصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس ، فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة، وخلفهم الآخرون فقاموا مقامهم ، فصلى بهم ركعة ثم سلم ، فقامت كل طائفة فصلت ركعةً.
حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي موسى، بنحوه.
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة، عن أبي العالية ويونس بن جبير قالا، صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بالدير من أصبهان، وما بهم يومئذ خوف ، ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم . فصفهم بصفين : صفاً خلفه ، وصفاً مواجهة العدو مقبلين على عدوهم . فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم . وجاء أولئك ، فصفهم خلفه ، فصلى بهم ركعة ثم سلم . فقضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض . فكانت للإمام ركعتان في جماعة ، ولهم ركعة ركعة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن أبي موسى، بمثله.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه قال في صلاة الخوف: يصلي بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس . ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم ، ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم . فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة.
حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه صلى صلاة الخوف، فذكر نحوه.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثي أبي قال ، حدثنا ابن جريج قال ، أخبرني الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر: أنه كان يحدث أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو، ثم ذكر نحوه.
حدثنا محمد بن هرون الحربي قال ، حدثنا أبو المغيرة الحمصي قال ، حدثنا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع ، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، ثم ذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله : "فليصلوا معك"، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح ، فيقبلون على العدو، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة، ثم يأخذون أسلحتهم فيستقبلون العدو، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة، فيكون للإمام ركعتان ، ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى. وهذا تمام الصلاة.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، إذ كان العدو بين الإمام والقبلة.
ذكر الأخبار المنقولة بذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثني يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلقي المشركين بعسفان ، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم ، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم! قال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى آخر الآية، وأعلمه مما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة، فجعل المسلمين خلفه صفين، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعاً، ثم ركع وركعوا معه جميعاً. فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام، سجد الصف الثاني ثم قاموا، وتأخر الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ركع ركعوا معه جميعاً، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد الذين يلونه ، سجد الصف المؤخر، ثم قعدوا فتشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عليهم جميعاً. فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردنا!"
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمر بن ذر قال ، حدثني مجاهد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان بالماء الذي يلي مكة، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه سجد وسجد الناس، قالوا: إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه! فحذره الله ذلك. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكبر وكبر الناس معه، فذكر نحوه.
حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، أخبرني عبيد الله بن عمرو، عن أبي الزبير، "عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلقينا المشركين بنخل، فكانوا بيننا وبين القبلة. فلما حضرت صلاة الظهر، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جميع. فلما فرغنا، تذامر المشركون، فقالوا: لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون! فقال بعضهم: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن، هي أحب إليهم من أبنائهم، فإذا صلوا فميلوا عليهم. قال: فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما بالخبر، وعلمه كيف يصلي. فلما حضرت العصر، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم مما يلي العدو، وقمنا خلفه صفين، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعاً"، ثم ذكر نحوه.
حدثني محمد بن معمر قال ، حدثنا حماد بن مسعدة، عن هشام بن أبي عبد الله ، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثا مؤمل بن هشام قال، حدثنا إسمعيل بن إبراهيم ، عن هشام ، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن مجاهد، "عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، وعلى المشركين خالد بن الوليد. فقال المشركون : لقد أصبنا منهم غرة، ولقد أصبنا منهم غفلة!! فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ففرقنا -يعني فرقتين- فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرقة تصلي خلفهم يحرسونهم. ثم كبر فكبروا جميعاً، وركعوا جميعاً، ثم سجد الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعاً، ثم سجد بالذين يلونه، حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم تقدم الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم. فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرة أخرى في أرض بني سليم".
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ورووا هذه الرواية: وإذا كنت يا محمد، فيهم -يعني: في أصحابك خائفاً- "فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: ممن دخل معك في صلاتك، "فإذا سجدوا" يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رؤوسها من سجودها، "فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليصر من خلفك خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك، "ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا"، يعني: الطائفة الحارسة التي صلت معه، غير أنها لم تسجد بسجوده. فمعنى قوله: "لم يصلوا" -على مذهب هؤلاء-: لم يسجدوا بسجودك، "فليصلوا معك"، يقول: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى، "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، يعني الحارسة.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها، "فليكونوا من ورائكم"، يعني : من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصل معك الركعة الأولى بإزاء العدو، وبعد فراغها من بقية صلاتها، "ولتأت طائفة أخرى"، وهي الطائفة التي كانت بإزاء العدو، "لم يصلوا"، يقول: لم يصلوا معك الركعة الأولى، "فليصلوا معك"، يقول: فليصلوا الركعة التي بقيت عليك، "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، لقتال عدوهم ، بعد ما يفرغون من صلاتهم.
وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه فعله يوم ذات الرقاع، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله عز ذكره قال: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة"، وقد دللنا على أن إقامتها، إتمامها بركوعها وسجودها، ودللنا مع ذلك على أن قوله: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، إنما هو إذن بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف.
فإذ صح ذلك، كان بيناً أن لا وجه لتأويل من تأويل ذلك: أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها، لقوله: "فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"، لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرت قبل، ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلها، عني به القصر من عدد الركعات.
وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال: أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة، على نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، أبعد. وذلك أن الله جل ثناؤه يقول: "ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك"، وكلتا الطائفتين قد كانت صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان. ومحال أن تكون التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصل معه.
فإن ظن ظان أنه أريد بقوله: "لم يصلوا"، لم يسجدوا، فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني الصلاة، وإنما توجه معاني كلام الله جل ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوهها، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية أمر من الله تعالى ذكره للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته، ولا على المسلمين الذين بإزاء العدو في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر، لم يكن لأمرها بتأخير ذلك، وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها، معنىً.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة، لصحة الأخبار بكل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من الأمور التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ثم أباح لهم العمل بأي ذلك شاؤوا.
قال أبو جعفر: وأما قوله : "ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم"، فإنه يعني : تمنى الذين كفروا بالله، "لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم"، يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها، "فيميلون عليكم ميلة واحدة"، يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم حملة واحدة، فيصيبون منكم غرة بذلك، فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم.
يقول جل ذكره: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدو، فتمكنوا عدوكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم، ولكن أقيموا الصلاة على ما بينت لكم، وخذوا من عدوكم حذركم وأسلحتكم.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ولا جناح عليكم"، ولا حرج عليكم ولا إثم، "إن كان بكم أذى من مطر"، يقول: إن نالكم أذى من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوكم، "أو كنتم مرضى"، يقول: أو كنتم جرحى أو أعلاء، "أن تضعوا أسلحتكم"، إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوكم، "حذركم"، يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارون، "إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا"، يعني بذلك: أعد لهم عذاباً مذلاً يبقون فيه أبداً، لا يخرجون منه. وذلك هو عذاب جهنم.
وقد ذكر أن قوله: "أو كنتم مرضى" نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى"، عبد الرحمن بن عوف، كان جريحاً.
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى - قوله تعالى :" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، قال : ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليه من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " وذكر الحديث وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو ولكن فيها رخص على ما تقدم في البقرة وهذه السورة بيانه من اختلاف العلماء وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة ومثله قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " [التوبة : 103] هذا قول كافة العلماء وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن عليه فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخطاب كان خاصاً له بقوله تعالى :" وإذا كنت فيهم " وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيرة في ذلك وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا وقال الجمهور : إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث فقال تعالى :" الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو " [النور: 63] و"قال صلى الله عليه وسلم :
صلوا كما رأيتموني أصلي " فلزم اتباعه مطلقاً حتى يدل دليل واضح على الخصوص ولو كان ما ذكروه دليلاً على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال وقد قال تعالى :" وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره " [ الأنعام:68] وهذا خطاب له ، وأمته داخله فيه، ومثله كثير وقال تعالى :" خذ من أموالهم صدقة " وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه، فكذلك في قوله :" وإذا كنت فيهم " إلا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف قال أبو عمر: ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف غيره لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين، وليس فيها فضل للمعطي كما في الصلاة فضل للمصلى خلفه.
الثانية- قوله تعالى :" فلتقم طائفة منهم معك " يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة " وليأخذوا أسلحتهم " يعني الذين يصلون معك ويقال: " وليأخذوا أسلحتهم " الذين هم بإزاء العدو ، على ما يأتي بيانه، ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة ولكن روي في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى على ما يأتي، وحذفت الكسرة من قوله : " فلتقم " و" فليكونوا" لثقلها وحكى الأخفش والفراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن، وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة وهي الفرق بين لام الجر ولام التأكيد. والمراد من هذا الأمر الانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذراً من توقع حملته .
وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها، فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع قال ابن العربي: "روي عن النبي صلى الله عليه وسم أنه صلى صلاة الخوف أربعاً وعشرون مرة" وقال الإمام أحمد بن حنبل وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه : لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله وكذلك قال أبو جعفر الطبري. وأما مالك وسائر أصحابه إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو ما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم ، فإذا استوى قائماً ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم، فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون قال ابن القاسم صاحب مالك: والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات قال ابن القاسم: وقد كان يأخذ بحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا، قال أبو عمر: حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات: إلا أن بينهما فصلاً في السلام ففي حديث القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم وبه قال الشافعي وإليه ذهب قال الشافعي: حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله وبه أقول . ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحداً سبقه بشيء منها، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده وكان لا يعيب من فعل شيئاً من الأوجه المروية في صلاة الخوف وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث "ابن عمر قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى لله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء" وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكباً أو قائماً يومئ إيماء، أخرج البخاري ومسلم ومالك وغيرهم وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، قال : لأنه أصحها إسناداً، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم، ولأنه أشبه بالأصول،لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات، وأما الكوفيون : أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبد الله بن مسعود أخرجه أبو داود والدارقطني قال:
"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين صفاً خلف النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل العدو، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة وجاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم "فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، وهذا الصفة والهيئة هي الهيئة المذكرة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقاً، وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده وهنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم، وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود. وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبد العزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه، والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه وروى أبو داود من حديث حذيفة و"أبي هريرة وابن عمر:
أنه عليه السلم صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا"، وهو مقتضى حديث ابن عباس "وفي الخوف ركعة" وهذا قول إسحاق وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى هذا وأن الصلاة أولى بما احتيط لها، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة وقوله في حديث حذيفة وغيره: لم يقضوا أي في علم من روى ذلك لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، وشهادة من زاد أولى ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا أي لم يقضوا إذا أمنوا، وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضى ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف، قال جميعه أبو عمر، وفي صحيح مسلم "عن جابر :
أنه عليه السلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال : فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان" وأخرجه أبو داود والدارقطني من :
حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين وأخرجه الدارقطني أيضاً عن الحسن "عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم " قال أبو داود: وبذلك كان الحسن يفتي وروي عن الشافعي وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود. وعضدوا هذا بحديث جابر: أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه الحديث وقال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك والله أعلم فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف .
الثالثة- وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو والقبلة، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين فإن في الحديث بعد قوله " فأقمت لهم الصلاة " قال :
فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين،قال ثم ركع فركعنا جميعاً، قال: ثم رفع فرفعنا جميعاً قال: ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال: والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم قال : ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء قال: ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام، يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم. قال: فصلاها رسول الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم. وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش الزرقي وقال : وهو قول الثوري وهو أحوطها وأخره أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة .
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، الحديث . وفيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة، فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان" قال : حديث حسن صحيح غريب وفي الباب عن عبد لاه بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت، وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثيمة .
قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين، وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة، قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.
الرابعة- واختلفوا في كيفية صلاة المغرب فروى الدارقطني عن الحسن "عن أبي بكرة.
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستاً وللقوم ثلاثاً ثلاثاً"، وبه قال الحسن والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ، وتقضى على اختلاف أصولهم فيه متى يكون هل قبل سلام الإمام أو بعده هذا قول مالك وأبي حنيفة، لأنه أحفظ لهيئة الصلاة وقال الشافعي: يصلي بالأولى ركعة لأن علياً رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير والله تعالى أعلم .
الخامسة- واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكباً أو قائماً يومئ إيماء قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها ، وقد تقدم في البقرة قول الضحاك وإسحاق وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا به قال مكحول.
قلت : وحكاه الكيا الطبري في أحكام القرآن له عن أبي حنيفة وأصحابه قال الكيا: وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة وإن قاتلوا في الصلاة قالوا: فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته .
قلت: وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة وهو اختيار البخاري وفيما يظهر لأنه أردفه بحديث جابر قال :
"جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغربن قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا والله ما صليتها قال فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها".
السادسة- واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب، فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء كل واحد منهما يصلي على دابته، وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح، لأن الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلى بالأرض حيثما أمكن ذلك ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب والله أعلم.
السابعة- واختلفوا أيضاً في العسكر إذا رأوا سواداً فظنوه عدواً فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء فلعلمائنا فيه روايتان: إحداهما يعيدون، وبه قال أبو حنيفة: والثانية لا إعادة عليهم وهو أظهر قولي الشافعي، ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم ووجه الثانية أنهم علموا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطأوا القبلة وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به وقد يقال: يعيدون في الوقت فأما بعد خروجه فلا والله أعلم.
الثامنة- قوله تعالى :" وليأخذوا أسلحتهم" وقال : " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم" هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب وقال عنترة:
كسوت الجعد بني أبان سلاحي بعد عري وافتضاح
يقول، أعرته سلاحي ليمتنع بها عبد عريه من السلاح قال ابن عباس: " وليأخذوا أسلحتهم " يعني الطائفة التي وجاه العدو، لأن المصلية لا تحارب . وقال غيره: هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولاً أسلحتهم، ذكره الزجاج. قال: ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح، أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو النحاس: يجوز أن يكون للجميع لأنه أهيب للعدو ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة. قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف ويحملون قوله " وليأخذوا أسلحتهم" على الندب لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه فكان الأمر به ندباً، وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه، قال ابن العربي: إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف وبه قال الشافعي وهو نص القرآن وقال أبو حنيفة: لا يحملونها لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها قلنا: لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظراً
التاسعة- قوله تعالى :" فإذا سجدوا" الضمير في سجدوا للطائفة المصلية فلينصرفوا هذا على بعض الهيئات المروية. وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة، ودلت هذه الآي على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة وهو "كقوله عليه السلام:
إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين " أي فليصل ركعتين وهو في السنة والضمير في قوله : " فليكونوا" يحتمل أن كون للذين سجدوا ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولاً بإزاء العدو.
العاشرة- قوله تعالى :" ود الذين كفروا " أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى- لأنها أولى بأخذ الحذر، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة وأيضاً يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة ومعنى " ميلة واحدة" مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية .
الحادية عشرة- قوله تعالى :" ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر " الآية للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحيتاط ثم رخص في المطر وضعه، لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد وقيل:
نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون وذلك أنه كان يوما مطيراً و"خرج صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعاً سلاحه، فرآه الكفار منقطعاً عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه فقال: من يمنعك منى اليوم ؟ فقال : الله ثم قال: اللهم اكفني الغورث بما شئت فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فانكبه لوجهه لزلقة زلقها" وذكر الواقدي .
أن جبريل عليه السلام دفعة في صدره على ما يأتي في المائدة وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "من يمنعك مني يا غورث ؟ فقال: لا أحد فقال : تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك؟ قال : لا ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدواً فدفع إليه السيف" :
ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر، ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر، ثم أمرهم فقال : " وخذوا حذركم" أي كونوا متيقظين وضعتم السلاح أو لم تضعوه وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر وقال الضحاك في قوله تعالى :" وخذوا حذركم " يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة.
صلاة الخوف أنواع كثيرة, فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة, وتارة يكون في غير صوبها, والصلاة تارة تكون رباعية, وتارة تكون ثلاثية كالمغرب, وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر, ثم تارة يصلون جماعة, وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة, بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ورجالاً وركباناً, ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم, وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي: وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد وإليه ذهب طاوس والضحاك, وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي: أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف, وإليه ذهب ابن حزم أيضاً. وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومىء بها إيماء, فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله, وقال آخرون: تكفي تكبيرة واحدة, فلعله أراد ركعة واحدة. كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه, وبه قال جابر بن عبدالله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي, ورواه ابن جرير, ولكن الذي حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة, كما هو مذهب إسحاق ابن راهويه وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال: فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش, عن شعيب بن دينار عنه, فالله أعلم.
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة, كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب, ثم صلى بعدهما المغرب, ثم العشاء, وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة, فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق, فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير, ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها, فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق, وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب, ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الفريقين, وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر, وإن كان الاخرون معذروين أيضاً, والحجة ههنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.
وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف, فإنها لم تكن نزلت بعد, فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك, وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل السنن, ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال:
(باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو) قال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة, صلوا إيماء كل امرىء لنفسه, فإن لم يقدروا على الإيماء, أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال, أو يأمنوا فيصلوا ركعتين, فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين, فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا, وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر, واشتد اشتعال القتال, فلم يقدروا على الصلاة, فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى, ففتح لنا, قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها انتهى ما ذكره, ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب, ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة, وكأنه كالمختار لذلك, والله أعلم.
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالباً, ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب, ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة, والله أعلم, قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول الجمهور علماء السير والمغازي, وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم. وقال البخاري وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى وما قدم إلا في خيبر, والله أعلم.
والعجب كل العجب أن المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية, ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام, الصلاة يوم الخندق وهذا غريب جداً, وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف, وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب, والله أعلم. فقوله تعالى: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" أي إذا صليت بهم إماماً في صلاة الخوف, وهذه حالة غير الأولى, فإن تلك قصرها إلى ركعة كما دل عليه الحديث ـ فرادى ورجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد, وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الاية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة, فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك, وأما من استدل بهذه الاية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "وإذا كنت فيهم" فبعده تفوت هذه الصفة, فإنه استدلال ضعيف, ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" قالوا: فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد, بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه, وندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن لنا, ومع هذا رد عليهم الصحابة, وأبوا عليهم هذا الاستدلال, وأجبروهم على أداء الزكاة وقتلوا من منعها منهم.
ولنذكر سبب نزول هذه الاية الكريمة أولاً قبل ذكر صفتها. قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى, حدثني إسحاق, حدثنا عبدالله بن هاشم, أنبأنا سيف عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي رضي الله عنه, قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله, إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" ثم انقطع الوحي, فلما كان بعد ذلك بحول, غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر, فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها, قال: فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " الايتين, فنزلت صلاة الخوف, وهذا سياق غريب جداً, ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت رضي الله عنه عند الإمام أحمد وأهل السنن, فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا الثوري عن منصور, عن مجاهد, عن أبي عياش الزرقي, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان, فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد, وهم بيننا وبين القبلة, فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم, ثم قالوا: تأتي عليهم الان صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم, قال: فنزل جبريل بهذه الايات بين الظهر والعصر "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" قال: فحضرت, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح, قال: فصفنا خلفه صفين, قال: ثم ركع فركعنا جميعاً, ثم رفع فرفعنا جميعاً, ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والاخرون قيام يحرسونهم, فلما سجدوا وقاموا, جلس الاخرون فسجدوا في مكانهم, ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء, وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعاً, ثم رفع فرفعوا جميعاً, ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه والاخرون قيام يحرسونهم, فلما جلسوا جلس الاخرون فسجدوا, ثم سلم عليهم, ثم انصرف, قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان, ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه, وهكذا رواه أبو داود عن سعيد بن منصور, عن جرير بن عبد الحميد, والنسائي من حديث شعبة, وعبد العزيز بن عبد الصمد, كلهم عن منصور به, وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة, فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال: حدثنا حيوة بن شريح, حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي, عن الزهري, عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه, فكبر وكبروا معه, وركع وركع ناس منهم, ثم سجد وسجدوا معه, ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم, وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة, ولكن يحرس بعضهم بعضاً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة, عن سليمان بن قيس اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل أو أي يوم هو, فقال جابر: انطلقنا نتلقى عيراً لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة, جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل تخافني ؟ قال: "لا" قال فمن يمنعك مني ؟ قال: "الله يمنعني منك" قال: فسل السيف, ثم تهدده وأوعده, ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح, ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم, فصلى بالذين يلونه ركعتين, ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم, فقاموا في مصاف أصحابهم, ثم جاء الاخرون فصلى بهم ركعتين, والاخرون يحرسونهم, ثم سلم فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات, وللقوم ركعتين ركعتين, فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
ورواه الإمام أحمد فقال: حدثنا سريج, حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر, عن سليمان بن قيس اليشكري, عن جابر بن عبد الله, قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة, فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف, فقال: من يمنعك مني ؟ قال: "الله", فسقط السيف من يده, فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "ومن يمنعك مني ؟" قال: كن خير آخذ. قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" ؟ قال: لا, ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك, فخلى سبيله, فأتى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس, فلما حضرت الصلاة, صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف, فكان الناس طائفتين: طائفة بإزاء العدو, وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا, فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو, ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات, وللقوم ركعتين ركعتين, تفرد به من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم, حدثنا المسعودي عن يزيد الفقير, قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما ؟ فقال: الركعتان في السفر تمام, إنما القصر واحدة عند القتال, بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال, إذ أقيمت الصلاة, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف طائفة, وطائفة وجهها قبل العدو, فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين, ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا, وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين, ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم, وسلم الذين خلفه, وسلم أولئك, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, وللقوم ركعة ركعة, ثم قرأ "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الاية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الحكم, عن يزيد الفقير, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, صلى بهم صلاة الخوف, فقام صف بين يديه وصف خلفه, فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين, ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم, وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء, فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم, فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين, ولهم ركعة, ورواه النسائي من حديث شعبة, ولهذا الحديث طرق عن جابر, وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر, وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمسانيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا عبدالله بن المبارك, أنبأنا معمر عن الزهري, عن سالم, عن أبيه, قال: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" قال: هي صلاة الخوف, صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة, والطائفة الأخرى مقبلة على العدو, وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ثم سلم بهم, ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة, وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به, ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة من الصحابة, وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه وألفاظه, وكذا ابن جرير, ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير, إن شاء الله وبه الثقة. وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الاية, وهو أحد قولي الشافعي, ويدل عليه قول الله تعالى: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم" أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة "إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً".
قوله 102- "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة" ونحوه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى، وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن، وقد صلوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف. ومعنى "أقمت لهم الصلاة" أردت الإقامة، كقوله " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ". وقوله " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " قوله "فلتقم طائفة منهم معك" يعني: بعد أن تجعلهم طائفتين، طائفة تقف بازاء العدو، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة "وليأخذوا أسلحتهم" أي: الطائفة التي تصلي معه، وقيل الضمير راجع إلأى الطائفة التي بإزاء العدو، والأول أظهر، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة، لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه: أي غير واضع له. وليس المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصته فيهم. وقد قال بإرجاع الضمير من قوله "وليأخذوا أسلحتهم" إلى الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس قال: لان المصلية لا تحارب، وقال غيره: إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعاً لأنه أرهب للعدو. وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب. وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة. قوله "فإذا سجدوا" أي: القائمون في الصلاة "فليكونوا" أي: الطائفة القائمة بإزاء العدو "من ورائكم" أي من وراء المصلين. ويحتمل أن يكون المعنى: فإذا سجد المصلون معه: أي أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة "فليكونوا من ورائكم" أي: فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة "ولتأت طائفة أخرى" وهي: القائمة في مقابلة العدو التي لم تصل "فليصلوا معك" على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى "وليأخذوا" أي: هذه الطائفة الأخرى "حذرهم وأسلحتهم" زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح. قيل: وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل. وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب، وقيل: لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت، لأنه آخر الصلاة، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى، وفي سائر مؤلفاتنا. قوله "ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ الصلاح: أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم، فيشدون عليكم شدة واحدة، والأمتعة ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة. قوله: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم" رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من الممطر وفي حال المرض، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي حنظلة قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان قلت: فأين قوله تعالى "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ونحن آمنون؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر: أرأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف، فقال ابن عمر: يا ابن أخي إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال:" صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال:" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين". وأخرج ابن جرير عن علي قال: " سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل
الله "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين الصلاتين " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم " إلى قوله "إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً" فنزلت صلاة الخوف". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي عياس الزرقي قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم". والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة،
وهي مستوفاة في مواطنها، فلا نطول بذكرها ها هنا. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله "إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى" قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً.
102-قوله تعالى:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة"روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لما راوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جماعة ندموا أن لو كانوا كبوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي احب إليهم من آبائهم وابنائهم ،يعني صلاة العصر، فإذا قاموا فيها فشدوا عليهم فاقتلوهم ، فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة"فعلمه صلاة الخوف.
وجملته:ان العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة فيجعل الإمام القوم فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو تحرسهم ، ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة ، فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائماً حتى أتموا صلاتهم ، ذهبوا إلى وجاه ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية ، وثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم الصلاة ، ثم يسلم بهم ، وهذه رواية سهل بن ابي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بذات الرقاع، وإليه ذهب مالك والشافعي واحمد وإسحاق.
أنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعبعن مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف : أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.
وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا .
وذهب قوم إلى أن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وجاه العدو تأتي الطائفة الثانية فيصلي به الركعة الثانية ويسلم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وجاه العدو، وتعود الطائفة الأولى فتتم صلاتها ، ثم تعود الطائفة الثانية فتتم صلاتها ، وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك . وهو قول أصحاب الرأي.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجرحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب أنا يزيد بن زريع أنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة اخرى ثم سلم بهمن فقام هؤلاء فصلوا ركعتهم.
وكلتا الروايتين صحيحة ، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح ، وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو ، وذلك لأن الله تعالى قال:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"أي: إذا صلوا: ثم قال: "ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا"،وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا /وقال:"فليصلوا معك" فمقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة، فظاهره يدل على أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة ، والاحتياط لأمر الصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء والاحتياط لأمر الحرب من حيث أنهم إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب والهرب عن احتاجوا إليه .
ولو صلى الإمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز: أنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الاسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال أنا الصنعاني أنا عفان بن مسلم ثنا أبان العطارعن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال:"أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :أتخافني؟ قال: لا. قال : فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك، قال فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأغمد السيف وعلقه فنودي بالصلاة ، قال فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان".
أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي اخبرني الثقة ابن علية او غيره عن عن الحسن عن جابر رضي الله عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم.
وروي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا ورواه زيد بن ثابت وقال: كانت للقوم ركعة واحدة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان.
وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف ، وقالوا: الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة.
وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات، وإن كان العدو في ناحية القبلة في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم صلى الإمام بهم جميعاً وحرسوا في السجود، كما أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم الأسفرايني أنا أبو عوانة الحافظ أنا عمار أنا يزيد بن هارون اخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر رضي الله عنهما قال:" صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين ، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر للسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر نحر العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود[ثم قاموا ثم] تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا،
ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً قال جابر رضي الله عنه: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم".
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . عند عامة أهل العلم . ويحكي عن بعضهم عدم الجواز ولا وجه له.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف بالعمل به جائز، روي فيها ستة أوجه أو سبعة اوجه.
وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم ، وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر.
قوله تعالى:"وإذا كنت فيهم"أي: شهيداً معهم فأقمت لهم الصلاة،"فلتقم طائفة منهم معك"، أي: فلتقف ، كقوله تعالى:"وإذا أظلم عليهم قاموا" (البقرة-20-)أي: وقفوا،"وليأخذوا أسلحتهم" واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم،فقال بعضهم:أراد هؤلاء الذين وقفوا مع الإمام يصلون يأخذون الأسلحة في الصلاة ،فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يؤذي من بجنبه[فإذا شغلته حركته وثقلته عن الصلاة كالجعبة والترس الكبير أو كان يؤذي من جنبه] كالرمح فلا يأخذه.
وقيل: وليأخذوا أسلحتهم أي: الباقون الذين قاموا في وجه العدو،"فإذا سجدوا" ،أي: صلوا، "فليكونوا من ورائكم" يريد مكان الذين هم وجاه العدو،"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا"، وهم الذين كانوا في وجه العدو،"فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، قيل: هؤلاء الذين أتوا، وقيل: هم الذين صلوا،"ود الذين كفروا"،يتمنى الكفار،"لو تغفلون"أي: لو وجدوكم غافلين ، "عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة"، فيقصدونكم ويحملون عليكم حملةً واحدة.
"ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم"، رخص في وضع السلاح في حال المطر والمرض ، لأن السلاح يثقل حمله في هاتي الحالتين،"وخذوا حذركم"، أي: راقبوا العدو كيلا يتغفلوكم ، و الحذر ما يتقى به من العدو.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما " نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وذلك أنه غزا محارباً وبني أنمار، فنزلوا ولا يرون من العدو أحداً ، فوضع الناس أسلحتهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش، فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال: قتلني الله إن لم أقتله ، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه لا سيف قد سله من غمده فقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله ثم قال: اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت ، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فأكب لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه، وندر سيفه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال: لا أحد ، قال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك؟/ قال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ، فقال غورث :والله لأنت خير مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :أجل أنا أحق بذلك منك، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا: ويلك ما منعك منه؟ قال: لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه فو الله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي، وذكر حاله قال: وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم هذه الآية: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم"" أي: من عدوكم.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحاً.
"إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً"، يهانون فيه / والجناح : الإثم / من جنحت :إذا عدلت عن القصد.
102" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضل الجماعة، وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره. " فلتقم طائفة منهم معك " فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم. " فإذا سجدوا " يعني المصلين. " فليكونوا " أي غير المصلين. " من ورائكم " يحرسونكم يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن يصلي، فغلب المخاطب على الغالب. " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا " لاشتغالهم بالحراسة. " فليصلوا معك " ظاهره يدل على أن الإمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائماً حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو، وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية. ثم ينتظر قاعداً حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة، ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى: " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " " ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة " تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة، وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح. " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم " رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب. " وخذوا حذركم " أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو. " إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا " وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى.
102. And when thou (O Muhammad) art among them and arrangest (their) worship for them, let only a party of them stand with thee (to worship) and let them take their arms. Then when they have performed their prostrations let them fall to the rear and let another party come that hath not worshipped and let them worship with thee, and let them take their precaution and their arms. Those who disbelieve long for you to neglect your arms and your baggage that they may attack you once for all. It is no sin for you to lay aside your arms, if rain impedeth you or ye are sick. But take your precaution. Lo! Allah prepareth for the disbelievers shameful punishment.
102 - When thou (O apostle) art with them, and standest to lead them in prayer, let one party of them stand up (in prayer) with thee, taking their arms with them: when they finish their prostrations, let them take their position in the rear. and let the other party come up which hath not yet prayed and let them pray with thee, taking all precautions, and bearing arms: the unbelievers wish, if ye were negligent of your arms and your baggage, to assault you in a single rush. but there is no blame on you if ye put away your arms because of the inconvenience of rain or because ye are ill; but take (every) precaution for yourselves. for the unbelievers God hath prepared a humiliating punishment.