[النساء : 101] وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا
(وإذا ضربتم) سافرتم (في الأرض فليس عليكم جناح) في (أن تقصروا من الصلاة) بأن تردوها من أربع إلى اثنتين (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه (الذين كفروا) بيان للواقع ، وبينت السنة أن المراد بالسفر الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان ويؤخذ من قوله {فليس عليكم جناح} أنه رخصة لا واجب وعليه الشافعي (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) بيني العداوة
قوله تعالى وإذا ضربتم الآية أخرج ابن جرير عن علي قال سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله بين الصلاتين إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إلى قوله عذابا مهينا فنزلت صلاة الخوف
وأخرج أحمد والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن ابن عياش الززقي قال كنا مع رسول الله بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد ابن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الحديث وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة وابن جرير ونحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وإذا ضربتم في الأرض"، وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، "فليس عليكم جناح"، يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم، "أن تقصروا من الصلاة"، يعني: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعاً، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقل عددها في حال ضربكم في الأرض، أشار إلى واحدة، في قول آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة.
"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم. وفتنتهم إياهم فيها: حملهم عليهم وهم فيها ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم ، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له.
ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: "إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا"، يعني: الجاحدين وحدانية الله، "كانوا لكم عدوا مبينا"، يقول: عدوا قد أبانوا لكم عدوانهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى: القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله.
فقال بعضهم : في السفر، من الصلاة التي كان واجبا إتمامها في الحضر أربع ركعات ، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى ابن منية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم"، وقد أمن الناس! فقال: عجبت مما عجبت منه، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن جريج قال، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث، عن عبد الله بن بابيه يحدث، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا، وقد قال الله تبارك وتعالى: "أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي العالية قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلي ركعتين، فلقيني قراء من أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي؟ قلت ركعتين. قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كل، سنة وقرآن، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. قالوا: إنه كان في حرب! قلت: قال الله: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون" [الفتح: 27]، وقال: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، فقرأ حتى بلغ: "فإذا اطمأننتم".
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها! فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك" إلى قوله: "إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا"، فنزلت صلاة الخوف.
قال أبو جعفر: وهذا تأويل للآية حسن، لو لم يكن في الكلام إذا، و إذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها. ولو لم يكن في الكلام إذا، كان معنى الكلام - على هذا التأويل الذي رواه سيف عن أبي روق -: إن خفتم، أيها المؤمنون، أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم، يا محمد، فأقمت لهم الصلاة، "فلتقم طائفة منهم معك" الآية.
وبعد، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبي بن كعب: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا".
حدثني بذلك الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال. حدثنا الثوري، عن واصل بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: "أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، ولا يقرأ: إن خفتم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا بكر بن شرود عن الثوري، عن واصل الأحدب، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بن كعب أنه قرأ: "أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم"، قال بكر: وهي في الإمام مصحف عثمان رحمة الله عليه: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا".
وهذه القراءة تنبىء عن أن قوله: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، مواصل قوله : "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض، فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، وأن قوله: "وإذا كنت فيهم"، قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية.
وذلك أن تأويل قراءة أبي هذه التي ذكرناها عنه: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا، فحذفت لا لدلالة الكلام عليها، كما قال جل ثناؤه: "يبين الله لكم أن تضلوا" [النساء: 76 ]، بمعنى: أن لا تضلوا.
ففيما وصفنا دلالة بجنة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.
وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدو يخشى أن يفتنه في صلاته.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد قال، حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين؟ فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا
حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين.
حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أي أصحاب رسول الله !صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص.
وقال آخرون: بل عني بهذه الآية قصر صلاة الخوف، في غير حال المسايفة. قالوا: وفيها نزل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان، والمشركون بضجنان، فتواقفوا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه صلاة الظهر ركعتين - أو: أربعاً، شك أبو عاصم - ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: "فلتقم طائفة منهم معك"، فصلى العصر، فصف أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعاً، ثم سجد الأولون سجدة، والآخرون قيام، ثم سجد الآخرون حين قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر بهم وركعوا جميعاً، فتقدم الصف الآخر واستأخر الأول، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصر العصر إلى ركعتين.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتواقفوا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعاً، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: "فلتقم طائفة منهم معك"، فصلى بهم صلاة العصر، فصف أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعاً، ثم سجد الأولون لسجوده، والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر بهم؟ركعوا جميعاً، فتقدم الصف الآخر واستأخر الصف المقدم، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أول مرة، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وعلى المشركين خالدبن الوليد. قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون لقد كانوا على حال، لو أردنا لأصبنا غرة، لأصبنا غفلة. فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، "فأخذ الناس السلاح وصفوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مستقبلهم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبروا جميعاً، ثم ركع، وركعوا جميعاً، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء، ثم نكص الصف الذي يليه وتقدم الآخرون، فقاموا في مقامهم، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعاً، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون، ثم استووا معه، فقعدوا جميعاً، ثم سلم عليهم جميعاً، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان النحوي، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، وعن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة: أي يوم أنزل؟ أو: أي يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشام، حتى إذا كنا بنخل، "جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! قال: نعم. قال: هل تخافني؟ قال: لا! قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك! قال: فسل السيف، ثم هدده وأوعده، ثم نادى بالرحيل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى يحرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتن، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح".
وقال آخرون: بل عني بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، إلا أنه عني به القصر من صلاة السفر لا من صلاة الإقامة. قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان، تمام غبر قصر، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة. قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف ، وهي تمام في السفر. ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف، ركعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا"، إلى قوله: "عدوا مبينا"، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهو تمام. والتقصير لا يحل، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة. والتقصير ركعة: يقوم الإمام ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدو، فيصلي بمن معه ركعة، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى. ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة. والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلي أحد منهم إلى ركعته شيئاً، تجزئه ركعة الإمام. فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة. فذلك قول الله: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله: "وخذوا حذركم".
حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ قال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كيف تكون قصراً وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، حدثني بكر بن سوادة: أن زياد بن نافع حدثه عن كعب - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قطعت يده يوم اليمامة -: أن صلاة الخوف لكل طائفة، ركعة وسجدتان. واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم يحفظ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة : أنا. فأقامنا خلفه صفاً، وصفاً موازي العدو،-فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا، حدثنا سفيان، عن الركين بن الربيع، عن القاسم بن حسان قال، سألت زيد بن ثابت عنه فحدثني، بنحوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، عن حذيفة بنحوه.
حدثنا ابن بشار قال، حدثني يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة ولم يقضوا.
حدثنا تميم بن المنتصر قال، اخبرنا إسحق الأزرق، عن شريك، عن أبي بكر بن صخير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس مثله.
حدثنا بشر بن معاذ- قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله.
حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا المحاربي، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله.
حدثنا يعقوب بن ماهان قال: حدثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى تأموا مقام هؤلا، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتي ، ولهم ركعة " .
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكر بن سوادة حدثه، عن زياد بن نافع حدثه، عن أبي موسى: أن جابر بن عبد الله حدثهم:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يرم محارب وثعلبة، لكل طائفة ركعة وسجدتين". حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي قال، حدثنا عبد الله بن شقيق قال، حدثنا أبو هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة. وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ".
وقال آخرون: عني به القصر في السفر، إلا أنه عني به القصر في شدة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلي أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله: "ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا".
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وإذا ضربتم في الأرض"، الآية، قصر الصلاة، إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة: أن تكبر الله، وتخفض رأسك إيماء، راكباً كنت أو ماشياً.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال: عني بالقصر فيها، من حدودها. وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها، مستقبل القبلة فيها ومستدبرها، وراكباً وماشياً، وذلك في حالة السلة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" [البقرة: 239]، وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكباً، إيماءً بالركوع والسجود، على نحو ما روي عن ابن اعباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، لدلالة قول الله تعالى: "فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، على أن ذلك كذلك. لأن إقامتها: إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها، دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.
فإن ظن ظان أن ذلك أمر من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم ، غير مقيم صلاته، لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين. وذلك قول إن قاله قائل، مخالف لما عليه الأمة مجمعة: من أن المسافر لا يستحق أن يقال له -إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين-: إنه غير مقيم صلاته.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفاً من عدوه أن يفتنه، أن يقيم صلاته إذا اطمأن وزال الخوف، كان معلوماً أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف. وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة: إقامة صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة: ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها، على ما بينا.
فيه عشر مسائل :
الأولى- قوله تعالى :" ضربتم " سافرتم ، وقد تقدم، واختلف العلماء في حكم القصر في السفر، فروي عن جماعة أنه فرض وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها:
"فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" الحديث ولا حجة فيه لمخالفتها له فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، وقد قال غيرها من الصحابة كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم:
"إن الصلاة فرضت في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة" رواه مسلم عن ابن عباس. ثم إن حديث عائشة قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة "عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين" وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة "عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين"، الحديث وهذا اضطراب. ثم إن قولها: فرضت الصلاة ليس على ظاهرة فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح، فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها، وكذلك الصبح، وهذا كله يضعف متنه لا سنده وحكي ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة، وهو قول الشافعي، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير، وهو قول أصحاب الشافعي. ثم اختلفوا في أيهما أفضل فقال بعضهم : القصر أفضل، وهو قول الأبهري وغيره. وقيل: إن الإتمام أفضل وحكي عن الشافعي وحكي أن سعيد الفروي المالكي أن الصحيح في مذهب مالك التخيير .
قلت- وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى :" فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" إلا أن مالكاً رحمه الله يستحب له القصر، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم وحكى أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة قال: القصر في السفر للرجال والنساء سنة قال أبو عمر: وحسبك بهذا في مذهب مالك، مع أنه لم يختلف قوله : أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت، وذلك استحباب عند من فهم، لا إيجاب.وقال الشافعي: القصر في غير الخوف بالسنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة ومن صلى أربعاً فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة . وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعاً؟قال:لا ما يعجبني السنة ركعتان وفي موطأ مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد، أنه سأل عبد الله بن عمر فقال :
يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟فقال عبد الله بن عمر: يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً فإنا نفعل كما رأيناه يفعل ففي هذا الخبر قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة لا فريضة، لأنها لا ذكر لها في القرآن وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفراً وخوفاً واجتمعا فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين. ومثله في القرآن :" ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح " [النساء: 25] الآية وقد تقدم ثم قال تعالى :" فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " أي فأتموها، وقصر رسول الله صلى الله عليه السلام من أربع إلى اثنين إلا المغرب في أسفاره كلها آمناً لا يخاف إلا الله تعالى ، فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنة وبينه مما ليس له في القرآن ذكر وقوله: كما رأيناه يفعل مع حديث عمر حيث "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف فقال:
تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان نبيه من غيار ذلك الشرط وسأل حنظلة بن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان.
قلت: فأين قوله تعالى :" إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ونحن آمنون ؟ قال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة، وكذلك قال ابن عباس: فأين المذهب عنهما ؟ قال أبو عمر: ولم يقم مالك إسناد هذا الحديث لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر وأسقط من الإسناد رجلاً والرجل الذي لم يسمه هو أميه بن عبد الله بن خالد بن أسدي بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والله أعلم .
الثانية- واختلف العلماء في حق المسافة التي تقصر فيها الصلاة فقال داود: تقصر في كل سفر طويل أو قصير ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة متمسكاً بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال :
"سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ- شعبة الشك - صلى ركعتين "وهذا لا حجة فيه لأنه مشكوك فيه وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافرة التي بدأ منها القصر، وكان سفراً طويلاً زائداً على ذلك والله أعلم قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ولا أفكر فيه بفضول قلبي ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظ عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن فنحن نعلم قطعاً أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعاً وإن مشى ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعاً. كما أنا نحكم على أن من مشى يوماً وليلة كان مسافراً "لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها" وهذا هو الصحيح لأنه سوط بين الحالين وعليه عول مالك ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقاً عليه وروى مرة :
"يوماً وليلة " ومرة "ثلاثة أيام " فجاء إلى عبد الله بن عمر فعول على فعله فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم وهي أربعة برد لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم قال غيره : وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفاً وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالباً، فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوماً تاماً وقول مالك يوماً وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يرد بقوله : مسرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله وإنما أراد أن يسير سيراً يبيت فيه بعيداً عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم، وفي البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشرة فرسخاً وهذا مذهب مالك، وقال الشافعي والطبري: ستة وأربعون ميلاً وعن مالك في العتيبة فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلاً قال : يقصر وهو أمر متقارب وعن مالك في الكتب المنثورة : أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلاً وهي تقرب من يوم وليلة وقال يحيى بن عمر: يعيد أبداً ! ابن عبد الحكم: في الوقت! وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو ول عثمان وابن مسعود وحذيفة . وفي صحيح البخاري "عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم " قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام، وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين، وروي هذا القول عن مالك ورواه أبو سعيد الخدري "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم " وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلاً وأنس في خمسة عشر ميلاً. وقال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر على اليوم التام ، وبه نأخذ قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها ومجملها عندي - والله أعلم- أنها خرجت على أجوبه السائلين فحدث كل واحد بمعنى ما سمع كأنه "قيل له صلى الله عليه وسلم في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم فقال: لا وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال: لا وقال له وآخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم؟ فقال: لا "وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم ويجمع معاني الآثار في هذا الباب- وإن اختلف ظواهرها -الحضر على المرأة أن تسافر سفراً يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم قصيراً كان أو طويلاً والله أعلم .
الثالثة- واختلوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس واختلفوا فيما سوى ذلك فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها وروي عن ابن مسعود أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبيل الخير. وروى عنه أيضاً: تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور.
وقال مالك: إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزهاً أو خرج لمشاهدة بلدة متنزهاً ومتلذذاً لم يقصر والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك وروي عن مالك وقد تقدم في البقرة واختلف عن أحمد فمرة قال يقول الجمهور ومرة قال : لا يقصر إلا في حج أو عمرة، والصحيح ما قاله الجمهور لأن القصر إنما شرع تخفيفاً عن المسافر للمشتقات اللاحقة فيه ومعونته على ما هو بصدده ما يجوز وكل الأسفار في ذلك سواء لقوله تعالى :" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح " أي إثم " أن تقصروا من الصلاة " فعم و"قال عليه السلام:
خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا " وقال الشعبي:
"إن الله يحب أن يعمل برخصة كما يحب أن يعمل بعزائمه " وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه، لأن ذلك يكون عوناً له على معصية الله والله تعالى يقول : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " [المائدة: 2].
الرابعة - واختلفوا متى يقصر، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض وهو قول مالك في المدونة ولم يحد مالك في القرب حداً وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال وإلى ذلك في الرجوع، وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها وروي عن الحارث ن أبي ربيعة أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن زيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى .
قلت: ويكون معنى الآية على هذا : " وإذا ضربتم في الأرض" أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض والله أعلم. وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل وهذا شاذ وقد ثبت من "حديث أنس بن مالك :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين" أخرجه الأئمة وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة .
الخامسة- وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء صلاته جعلها ناقلة وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، ثم صلى صلاة مقيم، قال الأبهري وابن الجلاب: هذا والله أعلم- استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته قال أبو عمر: هو عندي كما قالا، لأنها ظهر سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس .
السادسة - واختلف العلماء من هذا الباب في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم فقال مالكو الشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم وروي وعن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم وإن كان أقل قصر، وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي، وروي عن سعيد أيضاً وقال أحمد: إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم وبه قال داود والصحيح ما قاله مالك لحديث ابن الحضرمي:
"عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر" أخرجه الطحاوي وابن ماجة وغيرهما ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة وأبقى عليه فيها حكم المسافر، ومنعه من مقام الرابع، فحكم له بحكم الحاضر القاطن، فكان ذلك أصلاً معتمداً عليه.
ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم، قال ابن العربي: وسمعت بعض أحبار المالكية يقول: إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا، فقال تعالى :" تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " [ هود:65]
وفي المسألة قول غير هذه الأقوال، وهو أن المسافر يقصر أبداً حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطناً له ، روي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر: إني آتي المدينة فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالباً حاجة فقال : صل ركعتين وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين وأقام ابن عمر بأذربيجان يصلي ركعتين ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول: قال أبو عمر: محمل هذه الأحاديث عندنا على أن لا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة، وإنما مثل ذلك أن يقول: أخرج اليوم،أخرج غداً، وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة .
السابعة - روى مسلم عن عروة عن عائشة قالت
فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. قال الزهري: فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر ؟ قال : إنها تأولت ما تأول عثمان وهذا جواب ليس بموعب وقد اختلف الناس في تأويل إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما على أقوال: فقال معمر عن الزهري: إن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعاً لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج. وروى مغيرة عن إبراهيم أن عثمان صلى أربعاً لأنه اتخذها وطناً وقال يونس عن الزهري قال: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعاً قال: ثم أخذ به الأئمة بعده وقال أيوب عن الزهري، إن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع. ذكر هذه الأقوال كلها أبو داود في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بمنى وذكر أبو عمر في التمهيد قال ابن جريج: وبلغني إنما أوفاها عثمان أربعاً بمنى من أجل أن أعرابياً ناداه في مسجد الخيف بمنى فقال: يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس إنما الصلاة ركعتان قال ابن جريج: وإنما أوفاها فقط قال أبو عمر: وأما التأويلات في إتمام عائشة فليس مها شيء يروى عنها، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل وأضعف ما قيل في ذلك: أنها أم المؤمنين وأن الناس حيث كانوا هم بنوها وكان منازلهم منازلها، وهل كنت أم المؤمنين، إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم وهو الذي سن القصر في أسفاره وفي غزواته وحجة وعمره، وفي قراءة أبي بن كعب ومصحفة النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وقال مجاهد في قوله تعالى :" هؤلاء بناتي هن أطهر لكم" [ هود : 78] قال: لم يكن بناته ولكن كن نساء أمته، وكل نبي فهو أبو أمته .
قلت: وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعاً، وليست هي كذلك فانفصلا وأضعف من هذا قول من قال: إنها حيث أتممت لم تكن في سفر جائز، وهذا باطل قطعاً، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه، وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الأمور عن الضبط وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى . وقيل: إنها أتمت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة وهذا باطل، لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبا ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي، وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله لتري الناس أن الإتمام ليس في حرج وإن كان غيره أفضل وقد قال عطاء: القصر سنة ورخصة، وهو الراوي "عن عائشة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر "رواه طلحة بن عمرو عنه قال: كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم وروى النسائي بإسناد صحيح:
"أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي وأنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت وصمت؟ فقال: أحسنت يا عائشة" وما عاب علي، كذا هو مقيد بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين وروى الدارقطني" عن عائشة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" قال إسناده .
الثامنة- قوله تعالى :" أن تقصروا من الصلاة" أن في موضع نصب، أي في أن تقصروا قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات : قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها واختلف العلماء في تأويله فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره لحديث يعلى بن أمية على ما يأتي وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر رضي الله عنه: تمام غير قصر وقصرها أن تصير ركعة قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام والقصر لا يحل إلا أن تخاف هذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئاً ويكون للإمام ركعتان، وروى نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك وروى ابن عباس:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا وروى جابر بن عبد الله :
أن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم محارب خصفة وبني ثعلبة وروى أبو هريرة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بين ضجنان وعسفان :
قلت: وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال:
فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، وهذا يؤيد هذا القول ويعضده، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى بالقبس : قال علماؤنا رحمة الله عليهم، هذا الحديث مردود بالإجماع.
قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره، الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق. وحكي أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن أن المراد بالقصر ههنا القصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وبترك القيام إلى الركوع قال آخرون : هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب فأبيح لمن هذه حالة أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبيرة على ما تقدم في البقرة ورجح الطبري هذا القول وقال : إنه يعادله قوله تعالى:" فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " أي بحدودها وهيئتها الكاملة .
قلت: هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر وأن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين، فلا قصر. ولا يقال في العزيمة لا جناح ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في أحكام القرآن واحتج به، ورد عليه بحديث يعلى بن أمية على ما يأتي آنفاً إن شاء الله تعالى .
التاسعة -قوله تعالى :" إن خفتم " خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية قلت لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا قال عمر:عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته "
قلت: وقد استدل أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا: إن قوله : ما لنا نقصر وقد أمنا دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات قال الكيا الطبري: ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلاً يساوي الذكر ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان، فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله وفي قراءة أبي أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا بسقوط إن خفتم والمعنى على قراءته : كراهية أن يفتنكم الذين كفروا، وثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه إن خفتم وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمناً فلا قصر له.
"روى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم :فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف" وهل أنتم تخافون ؟ وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها . وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف وفي غير الخوف بالسنة، منهم الشافعي وقد تقدم وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى :" إن خفتم " ليس متصلاً بما قبل، وأن الكلام تم عند قوله " من الصلاة" ثم افتتح فقال:" إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف وقوله :" إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا" كلام معترض قاله الجراجاني وذكر المهدوي وغيرهما ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي قال القشيري أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلف شديد، وإن أطنب الرجل -يريد الجرجاني- في التقدير وضرب الأمثلة. وقال ابن العربي: وهذا كله لم يفتقر إليه عمرو لا ابنه ولا يعلى بن أمية معهما
قلت: قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وابن عطية أيضاً في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله تعالى :" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة "ثم انقطع الكلام فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين : " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " إلى آخر صلاة الخوف، فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن، وقد روي عن ابن عباس أيضاً مثله، قال: إن قوله تعالى :" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" نزلت في الصلاة في السفر ثم نزل " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " في الخوف بعدها بعام فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين فقوله " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" يعني به السفر وتم الكلام ثم ابتدأ فريضة أخرى فقدم الشرط والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة والواو زائدة والجواب " فلتقم طائفة منهم معك" وقوله :
" إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا" اعتراض وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة وهو حديث عمر إذ روي "أن النبي صل الله عليه وسلم قاله له : هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " قال النحاس: من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخاً للآية فقد غلط لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط.
العاشرة- قوله تعالى :" أن يفتنكم الذين كفروا " قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل وفرق الخليل سيبويه بينها فقالا : فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته وأفتنته جعلته مفتتناً وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته " إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا " " عدوا" ههنا بمعنى أعداء والله أعلم
يقول تعالى: "وإذا ضربتم في الأرض" أي سافرتم في البلاد, كما قال تعالى: "علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله" الاية. وقوله: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الاية, واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك, فمن قائل: لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد, أو حج, أو عمرة, أو طلب علم, أو زيارة, وغير ذلك, كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه, لظاهر قوله: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا", ومن قائل: لا يشترط سفر القربة, بل لا بد أن يكون مباحاً, لقوله: "فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم" الاية, كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره, وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة, وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله, إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين, فأمره أن يصلي ركعتين, وهذا مرسل, ومن قائل: يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر, وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الاية وخالفهم الجمهور.
وأما قوله تعالى: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الاية, فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة, بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام, أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله, والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له, كقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً", وكقوله تعالى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم" الاية, وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس, حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار, عن عبد الله بن بابيه, عن يعلى بن أمية, قالت: سألت عمر بن الخطاب قلت له: قوله: " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه, فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر, ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو نعيم, حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء, قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر, فقال: ركعتان, فقلت: أين قوله: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ونحن آمنون ؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى, حدثنا علي بن محمد بن سعيد: حدثنا منجاب, حدثنا شريك عن قيس بن وهب, عن أبي الوداك, قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال: هي رخصة نزلت من السماء, فإن شئتم فردوها. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا ابن عون عن ابن سيرين, عن ابن عباس, قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين. وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى, عن خالد الحذاء, عن عبد الله بن عون به. قال أبو عمر بن عبد البر: وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين, عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة, عن هشيم, عن منصور, عن زاذان, عن محمد بن سيرين, عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين, فصلى ركعتين, ثم قال الترمذي: صحيح, وقال البخاري: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, حدثنا يحيى بن أبي إسحاق, قال: سمعت أنساً يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة, قلت أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال: أقمنا بها عشراً.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن أبي إسحاق, عن حارثة بن وهب الخزاعي, قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس, وآمنه ركعتين. ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عنه به, ولفظ البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أنبأنا أبو إسحاق, سمعت حارثة بن وهب, قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين, وقال البخاري: حدثنا مسدد, حدثنا يحيى, حدثنا عبيد الله, أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر, قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, وأبي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته, ثم أتمها, وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به. وقال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا عبد الواحد عن الأعمش, حدثنا إبراهيم سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات, فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع, ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين, وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين, فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ورواه البخاري أيضاً من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم.
فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف, ولهذا قال من قال من العلماء: إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية, وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه, واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر, فأقرت صلاة السفر, وزيدت في صلاة الحضر, وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي, ومسلم عن يحيى بن يحيى, وأبو داود عن القعنبي, والنسائي عن قتيبة, أربعتهم عن مالك به, قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين, فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية, لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن عمر رضي الله عنه, قال: صلاة السفر ركعتان, وصلاة الأضحى ركعتان, وصلاة الفطر ركعتان, وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر, على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به, وهذا إسناد على شرط مسلم.
وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر, وقد جاء مصرحاً به في هذا الحديث وفي غيره, وهو الصواب إن شاء الله, وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا, إنه لم يسمع منه, وعلى هذا أيضاً: فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن الثقة, عن عمر, فذكره, وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد, عن عبد الرحمن, عن كعب بن عجرة, عن عمر, فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري, زاد مسلم والنسائي: وأيوب بن عائد, كلاهما عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن عبد الله بن عباس, قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً, وفي السفر ركعتين, وفي الخوف ركعة, فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر. ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه, فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما, ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها, لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان, ولكن زيد في صلاة الحضر, فلما استقر ذلك, صح أن يقال: إن فرض صلاة الحضر أربع, كما قاله ابن عباس ـ والله أعلم ـ لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان, وأنها تامة غير مقصورة, كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه, وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" قصر الكيفية كما في صلاة الخوف, ولهذا قال: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" الاية, ولهذا قال بعدها: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الاية, فبين المقصود من القصر ههنا, وذكر صفته وكيفيته, ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" إلى قوله: "إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً", وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" قال: ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباط عن السدي في قوله: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم" الاية, إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر, فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان, والمشركون بضجنان, فتوافقوا, فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم, وسجودهم, وقيامهم معاً جميعاً فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم, روى ذلك ابن أبي حاتم, ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر, واختار ذلك أيضاً فإنه قال بعدما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصواب.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا ابن أبي فديك, حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب, عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف, ولا نجد قصر صلاة المسافر, فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به, فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الاية عليها لا على قصر صلاة المسافر, وأقره ابن عمر على ذلك, واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن, وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً: حدثنا أحمد بن الوليد القرشي, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر, فقال: ركعتان تمام غير قصر, إنما القصر في صلاة المخافة, فقلت: وما صلاة المخافة ؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة, ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء, ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء, فيصلي بهم ركعة, فيكون للإمام ركعتان, ولكل طائفة ركعة ركعة.
قوله 101- "وإذا ضربتم" قد تقدم تفسير الضرب في الأرض قريباً. قوله "فليس عليكم جناح" فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور. وذهب الأقلون إلى أنه واجب، ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك. واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر" ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت، فالعمل على الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله حديث يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت "ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" وقد أمن الناس، فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن. وظاهر قوله: "فاقبلوا صدقته" أن القصر واجب. قوله "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن كما عرفت، فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوي على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن. وقد قيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم. وفي قراءة أبي: " أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " بسقوط "إن خفتم" والمعنى على هذه القراءة: كراهة أن يفتنكم الذين كفروا. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمناً فلا قصر له. وذهب آخرون إلى أن قوله "إن خفتم" ليس متصلاً بما قبله وأن الكلام تم عند قوله "من الصلاة" ثم افتتح فقال "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله "إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً" معترض، ذكر معنى هذا الجرجاني والمهدوي وغيرهما. ورده القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي. وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه، ومما يرد هذا ويدفعه الواو في قوله "وإذا كنت فيهم" وقد تكلف بعض المفسرين فقال: إن الواو زائدة وإن الجواب للشرط المذكور، أعني قوله "إن خفتم" هو قوله "فلتقم طائفة" وذهب قوم إلى أن ذكمر الخوف منسوخ بالسنة، وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره، وما ورد في معناه. قوله "أن يفتنكم الذين كفروا" قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا فتنته: جعلت فيه فتنة مثل كحلته، وأفتنته: جعلته مفتناً، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف افتنته. والمراد بالفتنة القتال والتعرض بما يكره. قوله "عدواً" أي: أعداء.
101-قوله عز وجل " وإذا ضربتم في الأرض " أي: سافرتم،"فليس عليكم جناح" أي: حرج وإثم"أن تقصروا من الصلاة"، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ،وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء"إن خفتم أن يفتنكم"أي: يغتالكم ويقتلكم"الذين كفروا"، في الصلاة، نظيره قوله تعالى:"على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم"(يونس -83) أي: يقتلهم.
"إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً" أي: ظاهر العداوة.
اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة،/ واختلفوا في جواز الإتمام: فذهب اكثرهم إلى أن القصر واجب، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وعمر ابن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر.
وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ،عن شاء أتم شاء قصر، والصبر أفضل.
[أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أناالشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رياح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم .
وظاهر القرآن يدل على هذا، لأنه قال :"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، ولفظ لا جناح إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتماً ، فظاهر الآية[يوجب أن القصر] لا يجوز إلا عند الخوف، وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو.
والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن احمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريح أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن يعلى بن أمية ، قال: "قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قال الله تعالى"أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ، وقد أمن الناس، فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته".
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن احمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سافر رسول الله بين مكة والمدينة آمناً لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين.
وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاووسوالحسن ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقياً وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز خائفاً كان أو آمناً.
واختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير، روي ذلك عن أنس رضي الله عنه، وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد: اقصر بعرفة ، أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير.
واختلف في حد مايجوز به القصر، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً ، واليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق ، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، قالا: مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، قال: مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع: ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام.
وقيل: قوله "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله، روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: نزل قوله"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" هذا القدر ن ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً""وإذا كنت فيهم"الآية. ومثله في القرآن كثير أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه، كقوله تعالى: "الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين"(يوسف-51) وهذ حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" (يوسف-52) إخبار عن يوسف عليه السلام.
101" وإذا ضربتم في الأرض " سافرتم. " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر. وأن عائشة رضي الله تعالى عنها "اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة". وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية. بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان، فسمي الإتيان بهما قصراً على ظنهم. ونفي الجنام فيه لتطبيب[*1] به نفوسهم، وأقل سفر تقتصر فيه أربعة برد عندنا وستة عن أبي حنيفة. وقرئ " تقصروا " من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش . " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا " شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى: " فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن. وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم: وهو القتال والتعرض بما يكره.
[*1]مكتوبة كما هي في
الكتاب وأعتقد خطأ. والصحيح
(لتطييب) بدون باء.
101. And when ye go forth in the land, it is no sin for you to curtail (your) worship if ye fear that those who disbelieve may attack you. In truth the disbelievers are an open enemy to you.
101 - When ye travel through the earth, there is no blame on you if ye shorten your prayers, for fear the unbelievers may attack you: for the unbelievers are unto you open enemies.