[ص : 3] كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ
3 - (كم) أي كثير (أهلكنا من قبلهم من قرن) أي امة من الأمم الماضية (فنادوا) حين نزول القرآن بهم (ولات حين مناص) أي ليس الحين حين فرار والتاء زائدة والجملة حال من فاعل نادوا أي استغاثوا والحال أن لا مهرب ولا منجى وما اعتبر بهم كفار مكة
يقول تعالى ذكره : كثيراً أهلكنا من قبل هؤلاء المشركين من قريش الذين كذبوا رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عندنا من الحق "من قرن" يعني : من الأمم الذين كانوا قبلهم ، فسلكوا سبيلهم في تكذيب رسلهم فيما أتوهم به من عند الله "فنادوا"يقول : فعجوا إلى ربهم وضجوا واستغاثوا بالتوبة إليه ، حين نزل بهم بأس الله وعاينوا به عذابه فراراً من عقابه ، وهرباً من أليم عذابه "ولات حين مناص" يقول : وليس ذلك حيرني فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة، وقد حقت كلمة العذاب عليهم ، وتابوا حين لا تنفعهم التوبة، واستقالوا في غير وقت الإقالة . وقوله "مناص" مفعل من النوص ، والنوص في كلام العرب : التأخر، والمناص : المفر، ومنه قول امرئ القيس:
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوةً وتبوص
يقول : أو تقدم. يقال من ذلك : ناصني فلان : إذا ذهب عنك ، وباصني : إذا سبقك ، وناض في البلاد : إذا ذهب فيها، بالضاد.وذكر الفراء أن العقيلي أنشده:
إذا عاش إسحاق وشيخه لم أبل فقيداً ولم يصعب علي مناض
ولو أشرفت من كفة الستر عاطلاً لقلت غزال ما عليه خضاض
والخضاض : الحلي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله "ولات حين مناص" قال : ليس بحين نزو، ولا حين فرار.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله "ولات حين مناص" قال : ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس ، قول الله "ولات حين مناص" قال : ليس حين نزو ولا فرار.
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "ولات حين مناص" قال : ليس حين نزو ولا فرار.
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله "ولات حين مناص" يقول : ليس حين مغاث.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، في قول الله "ولات حين مناص" ، قال : ليس هذا بحين فرار.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "فنادوا ولات حين مناص" قال : نادى القوم على غير حين نداء، وأراد، التوبة حين عاينوا عذاب الله فلم يقبل منهم ذلك.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قوله "ولات حين مناص" قال : حين نزل بهم العذاب لم يستطيعوا الرجوع إلى التوبة، ولا فراراً من العذاب.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله "فنادوا ولات حين مناص" يقول : وليس حين فرار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد، في قوله "ولات حين مناص" ولات حين منجى ينجون منه . ونصب حين في قوله "ولات حين مناص" تشبيهاً للات بليس ، وأضمر فيها إسم الفاعل.
وحكى بعض نحويي أهل البصرة الرفع مع لات في حين زعم أن بعضهم رفع ولات حين مناص فجعله في قوله ليس ، كأنه قال : ليس وأضمر الحين ، قال : وفي الشعر:
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
فجر أوان وأضمر الحين إلى أوان ، لأن لات لا تكون إلا مع الحين ، قال : ولا تكون لات إلا مع حين . وقال بعض نحويي الكوفة من العرب من يضيف لات فيخفض بها، وذكر أنه أنشد:
لات ساعة مندم
بخفض الساعة، قال : والكلام أن ينصب بها، لأنها في معنى ليس ، وذكر أنه أنشد:
تذكر حب ليلى لات حينا وأضحى الشيب قد قطع القرينا
قال : وأنشد في بعضهم:
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
بخفض أوان قال : وتكون لات مع الأوقات كلها.
واختلفوا في وجه الوقف على قراءة "لات حين" فقال بعض أهل العربية : الوقف عليه ولات بالتاء، ثم يبتدأ حين مناص ، قالوا : وإنما هي لا التي بمعنى : ما وإن في الجحد وصلت بالتاء، كما وصلت ثم بها، فقيل : ثمت ، وكما وصلت رب فقيل: ربت.
وقال آخرون منهم: بل هي هاء زيدت في لا، فالوقف عليها لاه ، لأنها هاء زيدت للوقف ، كما زيدت في قولهم:
العاطفونة حين ما من عاطف والمطعمونة حين أين المطعم
فإذا وصلت صارت تاء. وقال بعضهم : الوقف على لا، والابتداء بعدها تحين ، وزعم أن حكم التاء أن تكون في ابتداء حين ، وأوان ، والان ، ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر:
تولى قبل يوم سبي جمانا وصلينا كما زعمت تلانا
وأنه ليس ههنا لا فيوصل بها هاء أو تاء، ويقول : إن قوله "لات حين" إنما هي : ليس حين ، ولم توجد لات في شيء من الكلام.
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن لا حرف جحد ط ما، وإن وصلت بها تصير في الوصل ناء، كما فعلت العرب ذلك بالأدوات ، ولم تستعمل ذلك مع لا المدة إلا للأوقات دون غيرها ، ولا وجه للعلة التي اعتل بها القائل : أنه لم يجد لات في شيء من كلام العرب ، فيجوز توجيه قوله "ولات حين" إلى ذلك ، لأنها تستعمل الكلمة في موضع ، ثم تستعملها في موضع آخر بخلاف ذلك ، وليس ذلك بأبعد في القياس من الصحة من قولهم رأيت بالهمز، ثم قالوا : فأنا أراه بترك الهمز لما جرى به استعمالهم ، وما أشبه ذلك من الحروف التي تأتي في موضع على صورة، ثم تأتي بخلاف ذلك في موضع آخر للجاري من استعمال العرب ذلك بينها. وأما ما استشهد به من قول الشاعر:كما زعمت تلانا ، فإن ذلك منه غلط في تأويل الكلمة، وإنما أراد الشاعر بقوله : وصلينا كما زعمت تلانا : وصلينا كما زعمت أنت الآن ، فأسقط الهمزة من أنت ، فلقيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة، ، فسقطت من اللفظ ، وبقيت التاء من أنت ، ثم حذفت الهمزة من الآن ، فصارت الكلمة في اللفظ كهيئة تلان ، والتاء الثانية : على الحقيقة منفصلة من الآن ، لأنها تاء أنت. وأما زعمه أنه رأى في المصحف الذي يقال له الإمام التاء متصلة بحين ، فإن الذي جاءت به مصاحف المسلمين في أمصارها هو الحجة على أهل الإسلام ، والتاء في جميعها منفصلة عن حين ، فذلك اخترنا أن يكون الوقف على الهاء في قوله "ولات حين".
قوله تعالى : " كم أهلكنا من قبلهم من قرن " أي من قوم كانوا أمنع من هؤلاء . و < كم > لفظة التكثير " فنادوا " أي بالاستغاثة والتوبة . والنداء رفع الصوت ، ومنه الخبر : " ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً " أي أي أرفع . " ولات حين مناص " قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل . النحاس : وهذا تفسير منه لقوله عز وجل : " ولات حين مناص " فأما إسرائيل فروى عن إبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : < ولات حين مناص > قال : ليس بحين نزو ولا فرار ، قال : ضبط القوم جميعاً قال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض مناص ، أي عليكم بالفرار والهزيمة ، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص ، فقال الله عز وجل : " ولات حين مناص " قال القشيري :وعلى هذا فالتقدير : فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه ، أي ليس الوقت وقت ما تنادون به . وفي هذا نوع تحكم ، إذ يبعد أن يقال : كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار . وقيل : المعنى < ولات حين مناص > أي لا خلاص وهو نصب بوقوع لا عليه . قال القشيري : وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في < ولات حين مناص > وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص ، أي ساعة لا منجي ولا فوت . فلما قدم < لا > وأخر < حين > اقتضى ذلك الواو ،كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا ،مثل قولك جاء زيد راكباً ، فإذا جعلته مبتدأ وخبرا اقتضى الواو مثل جاءني زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : " فنادوا " . والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص ، أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص . قال الفراء :
* أمن ذكر ليلى إذا نأتك تنوص *
يقال : ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً أي فر وزاغ . النحاس : ويقال : ناص ينوص إذا تقدم .
قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد ، والنوص الحمار الوحشي . واستناص أي تأخر ، قاله الجوهري : وتكلم النحويون في < ولات حين مناص > وفي الوقف عليه ، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيراً مردود . فقال سيبويه : < لات > مشبهة بليس والاسم فيها مضمر ، أي ليست أحياننا حين مناص . وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول : ولات حين مناص . وحكي أن الرفع قليل ويكون الخبر محذوفاً كما كان الاسم محذوفاً في النصب ، أي ولات حين مناص لنا . والوقف عليها عند سيبويه و الفراء < ولات > بالتاء ثم بتتدىء < حين مناص > وهو قول ابن كيسان و الزجاج . قال أبو الحسن بن كيسان :والقول كما قال سيبويه ، لأنه شبهها بليس فكما يقال ليست يقال لات . والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه . وهو قول المبرد محمد بن يزيد وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة ، كما يقال ثمة وره . وقال القشيري : وقد يقال ثمت بمعنى ثم ، وربت بمعنى رب ، فكأنهم زادوا في لاهاء فقالوا لاه ، كما قالوا في ثم ثمة عند الوصل صارت تاء . وقال الثعلبي : وقال أهل اللغة : و < لات حين > مفتوحتان كأنهم كلمة واحدة ، وإنما هي < لا > زيدت فيها التاء نحو رب وربت ، وثم وثمت . قال أبو زبيد الطائي :
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال آخر :
تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا
ومن العرب من يخفض بها ، وأنشد الفراء :
فلتعرفن خلائقاً مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم
وكان الكسائي و الفراء و الخليل و سيبويه و الأخفش يذهبون إلى أن < ولات حين > التاء منقطعة من حين ، ويقولون معناها وليست . وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين . وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى . وقال ابو عبيد القاسم بن سلام : الوقف عندي على هذا الحرف < ولا > والابتداء < تحين مناص > فتكون التاء مع حين . وقال بعضهم : < لات > ثم يبتديء فيقول : < حين مناص > . قال المهدوي : وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين وهو غلط عند النحويين ، وهو خلاف قوله المفسرين . ومن حجة أبي عبيد أن قال : إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن ، وأنشد لأبي وجزة السعدي :
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أئن المطعم
وأنشد لأبي زبيد الطائي :
طلبوا صلحنا ولا تأوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
فأدخل التاء في أوان . قال أبو عبيد : ومن إدخالهم التاء في الآن ، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان معك . وكذلك قول الشاعر :
نولي قبل نأي داري جمانا وصلينا كما زعمت تلانا
قال أبو عبيد : ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام _ مصحف عثمان _ فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين . قال أبو جعفر النحاس : أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فرواه العلماء باللغة على أربعة أوجه ، كلها على خلاف ما أنشده ، وفي أحدها تقديران ، رواه أبو العباس محمد بن يزيد :
* العاطفون ولات ما من عاطف *
والرواية الثانية :
* العاطفون ولات حين تعاطف *
والرواية الثالثة رواها ابن كيسان :
* العاطفونة حين ما من عاطف *
جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج ، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث .
الرواية الرابعة :
* العاطفونه حين ما من عاطف *
وفي هذه الرواية تقديران ، أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب ، كماتقول : الضاربون زيداً فإذا كنيت قلت : الضاربوه . وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه ، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله . والتقدير الآخر العاطفونه على أن الهاء لبيان الحركة ، كما تقول : مر بنا المسلمونه في الوقف . ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف ، كما قرأ أهل المدينة " ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه " [ الحاقة : 28 - 29 ] وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه ، لأنه يوقف عليه < ولات أوان > غير أن فيه شيئاً مشكلاً ، لأنه يروى < ولات أوان > بالخفض ، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعاً أو منصوباً . وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ < ولات حين مناص > بكسر التاء من لات والنون من حين فإن الثبت عنه أنه قرأ < ولات حين مناص > فبنى < لات > على الكسر ونصب < حين > . فأما < ولات أوان > ففيه تقديران ، قال الأخفش : فيه مضمر أي ولات حين أوان .
قال النحاس : وهذا القول بين الخطأ . والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال : تقديره ولات أواننا فحذف المضاف إليه فوجب ألا يعرب ، وكسره لإلتقاء الساكنين . وأنشده محمد بن يزيد < ولات أوان > بالرفع . وأما البيت الثالث فبينت مولد لا يعرف قائله ولا تصح به حجة . على أن محمد بن يزيد رواه < كما زعمت الآن > . وقال غيره : المعنى كما زعمت أنت الآن . فأسقط الهمزة من أنت والنون . وأما احتجاجه بحديث ابن عمر ، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له : إذهب بها تلان إلى أصحابك فلا حجة ، في ، لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى . والدليل على هذا أن مجاهداً يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه : إذهب فاجهد جهدك . ورواه آخر : إذهب بها الآن معك . وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام < تحين > . فلا حجة فيه ، لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف فإن كان مخالفاً لها فليس بإمام لها ، وفي المصاحف كلها < ولات > فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعاً . وجمع مناص مناوص .
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: "والقرآن ذي الذكر" أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى: "ذي الذكر" كقوله تعالى: "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم" أي تذكيركم وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي "ذي الذكر" ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة, ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم هو قوله تعالى: "إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب" وقيل قوله تعالى: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير وضعفه ابن جرير, وقال قتادة جوابه "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه "ص" بمعنى صدق حق "والقرآن ذي الذكر" وقيل جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها والله أعلم, وقوله تبارك وتعالى: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" أي استكبار عنه وحمية "وشقاق" أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة, ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء, فقال تعالى: "كم أهلكنا من قبلهم من قرن" أي من أمة مكذبة "فنادوا" أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وليس ذلك بمجد عنهم شيئاً كما قال عز وجل: "فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون" أي يهربون "لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون" قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى: "فنادوا ولات حين مناص" قال ليس بحين نداء ولا نزو ولا فرار. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس بحين مغاث وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد: ـ تذكر ليلى لات حين تذكر ـ وقال محمد بن كعب في قوله تعالى: "فنادوا ولات حين مناص" يقول نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم, واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم, وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء, وقال مجاهد "فنادوا ولات حين مناص" ليس بحين فرار ولا إجابة وقد روي نحو هذا عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة, وعن مالك عن زيد بن أسلم "ولات حين مناص" ولا نداء في غير حين النداء, وهذه الكلمة وهي لات هي لا التي للنفي زيدت معها التاء كما تزاد في ثم فيقولون ثمت ورب فيقولون ربت وهي مفصولة والوقف عليها, ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين ولا تحين مناص والمشهور الأول ثم قرأ الجمهور بنصب حين تقديره وليس الحين حين مناص ومنهم من جوز النصب بها, وأنشد:
تذكر حب ليلى لات حينا وأضحى الشيب قد قطع القرينا
ومنهم من جوز الجر بها وأنشد:
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
وأنشد بعضهم أيضاً:
ولات ساعة مندم
بخفض الساعة وأهل اللغة يقولون النوص التأخر والبوص التقدم, ولهذا قال تبارك وتعالى: "ولات حين مناص" أي ليس الحين حين فرار ولا ذهاب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار فقال 3- "كم أهلكنا من قبلهم من قرن" يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل: أي كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء وأشد قوة وأكثر أموالاً، وكم هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، و من قرن تمييز، و من في من قبلهم هي لابتداء الغاية "فنادوا ولات حين مناص" النداء هنا: هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص. قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر. ولات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن. وقال النحويون: هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم: رب وربت، وثم وثمت قال الفراء: النوص التأخر، وأنشد قول امرئ القيس:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص
قال: يقال يناص عن قرنه ينوص نوصاً: أي فر وزاغ. قال الفراء: ويقال ناص ينوص: إذا تقدم. وقيل المعنى: أنه قال بعضهم لبعض مناص: أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله: "ولات حين مناص" قال سيبويه: لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر: أي ليس حيننا حين مناص. قال الزجاج: التقدير وليس أواننا. قال ابن كيسان: والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد والأخفش. قال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش: والتاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف. وقال أبو عبيد: تكتب متصلة بحين، فيقال ولا تحين ومنه قول أبي وجرة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر:
تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا
قال أبو عبيد: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن. قلت: بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر:
فلتعرفن خلائقاً مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم
وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة "ولات حين مناص" في محل نصب على الحال من ضمير نادوا. قرأ الجمهور لات بفتح التاء، وقرئ لات بالكسر كجير.
3. " كم أهلكنا من قبلهم من قرن "، يعني: من الأمم الخالية، " فنادوا "، استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة، " ولات حين مناص "، قوة ولا فرار، و(( المناص )) مصدر ينوص، وهو الفوت والتأخر، يقال: ناص ينوص إذا تأخر، وباص يبوص إذا تقدم، و (( لات )) بمعنى ليئ بلغة أهل اليمن.
وقال النحويون هي (( لا )) زيدت فيها التاء، كقولهم: رب وربت وثم وثمت، وأصلها هاء وصلت بلا، فقالوا: (( لاة )) كما قالوا: ثمة، فجعلوها في الوصل تاء، والوقف عليها بالتاء عند الزجاج ، و الكسائي بالهاء: ولاة، ذهب جماعة إلى أن التاء زيدت في (( حين ))، والوقف على (( ولا ))، ثم يبتدئ: (( تحين ))، وهو اختيار أبي عبيدة، وقال: كذلك وجدت في مصحف عثمان، وهذا كقول أبي وجرة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
وفي حديث ابن عمر، وسأله رجل عن عثمان، فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك، يريد: الآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب، قال بعضهم لبعض: مناص، أي: اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله تعالى: " ولات حين مناص " [أي ليس] حين هذا القول.
3-" كم أهلكنا من قبلهم من قرن " وعيد لهم على كفرهم به استكباراً وشقاقاً . " فنادوا " استغاثة أو توبة أو استغفاراً . " ولات حين مناص " أي ليس الحين حين مناص ، ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب ، وثم خصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين ، وقيل هي النافية للجنس أي ولا حين مناص لهم ، وقيل للفعل والنصب بإضماره أي ولا أرى حين مناص ، وقرئ بالرفع على أنه اسم لا أو مبتدأ محذوف الخبر أي ليس حين مناص حاصلاً لهم ، أو لا حين مناص كائن لهم وبالكسر كقوله :
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن لات حين بقاء
إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في قوله :
لولاك هذا العام لم أحجج
أو لأن أوان شبه بإذ لأنه مقطوع عن الإضافة إذ أصله أوان صلح ، ثم حمل عليه " مناص " تنزيلاً لما أضيف إليه منزلته لما بينهما من الاتحاد ، إذ أصله يحن مناصهم ثم بني الحين لإضافته إلى غير متمكن " ولات " بالكسر كجير ، وتقف الكوفية عليها بالهاء كالأسماء والبصرية بالتاء كالأفعال . وقيل إن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الامام ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس إذ مثله لم يعهد فيه ، والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ولقوله :
العاطفون تحين لا من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته .
3. How many a generation We destroyed before them, and they cried out when it was no longer the time for escape!
3 - How many generations before them did We destroy? in the end they cried (for mercy) when there was no longer time for being saved.