[يس : 29] إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
29 - (إن) ما (كانت) عقوبتهم (إلا صيحة واحدة) صاح بهم جبريل (فإذا هم خامدون) ساكنون ميتون
وقوله " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " يقول: ما كانت هلكتهم إلا صيحة واحدة أنزلها الله من السماء عليهم.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراءة الأمصار " إن كانت إلا صيحة واحدة " نصباً على التأويل الذي ذكرت، وأن في كانت مضمراً. وذكر عن أبي جعفر المدني أنه قرأه ( إلا صيحة واحدة) رفعاً على أنها مرفوعة بكان، ولا مضمر في كان.
والصواب من القراءة في ذلك عندي النصب لإجماع الحجة على ذلك، وعلى أن في كانت مضمراً.
وقوله " فإذا هم خامدون " يقول: فإذا هم هالكون.
" إن كانت إلا صيحة واحدة " قراءة العامة < واحدة > بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع و شيبة و الأعرج : < صيحة > بالرفع هنا ، وفي قوله : " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث ، فكأنه قال : ما وقعت عليه إلا صيحة واحدة . وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف ، كما تكون ما قامت إلا هند ضعيفاً ، من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند . قال أبو حاتم : فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال : إن كانت إلا صيحة . قال النحاس : لا يمتنع شيء من هذا ، يقال : ما جاءتني إلا جاريتك ، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك . والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق ، قال : المعنى أن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة ، وقدره غيره : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة . وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب . وقرأ عبد الرحمن بن الأسود - ويقال إنه في حرف عبد الله كذلك - < إن كانت إلا زقية واحدة > . وهذا مخالف للمصحف . وأيضاً فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح ، ومنه المثل : أثقل من الزواقي ، فكان يجب على هذا أن يكون زقوة . ذكره النحاس .
قلت : وقال الجوهري : الزقو والزقي مصدر ، وقد زقا الصدى يزقو زقاء : أي صاح ، وكل صائح زاق ، والزقية الصيحة .
قلت : وعلى هذا يقال : زقوة وزقية لغتان ، فالقراءة صحيحة لا اعتراض عليها . والله أعلم . " فإذا هم خامدون " أي ميتون هامدون ، تشبيهاً بالرماد الخامد . وقال قتادة : هلكى . والمعنى واحد .
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه, أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره, وقال الله له: "ادخل الجنة" فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة, وذلك أنه قتل فوجبت له, فلما رأى الثواب "قال يا ليت قومي يعلمون" قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً. لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى: " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه. وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله "يا قوم اتبعوا المرسلين" وبعد مماته في قوله " يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " رواه ابن أبي حاتم .
وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز "بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين" بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ومقصودة أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم, لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل فرحمه الله ورضي عنه, فلقد كان حريصاً على هداية قومه. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا هشام بن عبيد الله , حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال: قال " عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف أن يقتلوك فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فانطلق, فمر على اللات والعزى, فقال:لأصبحنك غداً بما يسوؤك, فغضبت ثقيف, فقال: يا معشر ثقيف إن اللات لالات وإن العزى لا عزى, أسلموا تسلموا, يا معشر الأحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لالات, أسلموا تسلموا, قال ذلك ثلاث مرات, فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مثله كمثل صاحب يس" " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ".
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار , أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول لله صلى الله عليه وسلم, فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم, ثم يقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع, فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا, ولا تسمع ذاك ؟ فيقول: نعم, فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه, فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه حبيب.
وقوله تبارك وتعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين" يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضباً منه تبارك وتعالى عليهم, لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه, ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم, بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله تعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين" أي ما كاثرناهم بالجموع, الأمر كان أيسر علينا من ذلك "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون" قال: فأهلك الله تعالى ذلك الملك الجبار, وأهلك أهل أنطاكية, فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية, وقيل "وما كنا منزلين" أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم, وقيل المعنى في قوله تعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء" أي من رسالة أخرى إليهم, قاله مجاهد وقتادة . قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون" قال ابن جرير : والأول أصح, لأن الرسالة لا تسمى جنداً. قال المفسرون. بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام, فأخذ بعضادتي باب بلدهم, ثم صاح بهم صيحة واحدة, فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية, وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, كما نص عليه قتادة وغيره, وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره, وفي ذلك نظر من وجوه:
(أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل, لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين " ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله تعالى أعلم, ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم "إن أنتم إلا بشر مثلنا".
(الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم, وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح, ولهذا كانت عندالنصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة, وهن: القدس لأنها بلد المسيح, وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها, والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين, ثم رومية لأنها مدنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده, ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها, كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم, كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين, فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت, فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم, والله أعلم.
(الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة, وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم, بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين, ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية, كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة, فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري , حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني , حدثنا حسين الأشقر , حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون , والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس , والسابق إلى محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فإنه حديث منكر, لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر , وهو شيعي متروك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله: 29- "إن كانت إلا صيحة واحدة" أي إن كانت العقوبة أو النقمة أو الأخذة إلا صيحة واحدة صاح بها جبريل فأهلكهم. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدنية، ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت، وهو معنى قوله: "فإذا هم خامدون" أي قوم خامدون ميتون، شبههم بالنار إذا طفئت، لأن الحياة كالنار الساطعة، والموت كخمودها. قرأ الجمهور "صيحةً" بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ومعاذ والقاري برفعها على أن كان تامة: أي وقع وحدث، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله: "إن كانت" قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال إن كان إلا صيحة وقدر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدرها غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وقرأ عبد الله بن مسعود إن كانت إلا زقية واحدة والزقية الصيحة قال النحاس: وهذا مخلف للمصحف، وأيضاً فإن اللغة المعروفة زقاً يزقو إذا صاح، ومنه المثل أثقل من الزواقي فكان يجب على هذا أن تكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال: الزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدا يزقو زقاً: أي صاح: وكل صائح زاق، والزقية الصيحة.
29. ثم بين عقوبتهم فقال تعالى: " إن كانت إلا صيحةً واحدة "، [وقرأ أبوجعفر : صيحة واحدة]، بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع.
قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحةً واحدة، " فإذا هم خامدون " ميتون.
29 -" إن كانت " ما كانت الأخذة أو العقوبة . " إلا صيحةً واحدةً " صاح بها جبريل عليه السلام ، وقرئت بالرفع على كان التامة . " فإذا هم خامدون " ميتون ، شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة و الميت كرمادها كما قال لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
29. It was but one Shout, and lo! they were extinct.
29 - It was no more than a single mighty Blast, and behold they were (like ashes) Quenched and silent.