[سبإ : 16] فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
16 - (فأعرضوا) عن شكره وكفروا (فأرسلنا عليهم سيل العرم) جمع عرمة ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته أي سيل واديهم الممسوك بما ذكر فأغرق جنتيهم وأموالهم (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي) تثنية ذوات مفرد على الأصل (أكل خمط) مر بإضافة أكل بمعنى مأكول وتركها وبعطف عليه (وأثل وشيء من سدر قليل)
يقول تعالى ذكره: فأعرضت سبأ عن طاعة ربها وصدت عن اتباع ما دعتها إليه رسلها من أنه خالقها.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه اليماني، قال: لقد بعث الله إلا سبأ ثلاثة عشر نبياً، فكذبوهم " فأرسلنا عليهم سيل العرم " يقول تعالى ذكره: فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا سيلهم الذي كان يحبس عنهم السيول.
والعرم المسناة التي يحبس الماء، واحدها: عرمة، وإياه عنى الأعشى بقوله:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب عفى عليه العرم
رجام بنته لهم حمير إذا جاء ماؤهم لم يرم
وكان العرم فيما ذكر مما بنته بلقيس.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا ابي، قال: سمعت المغيرة بن حكيم، قال: لما ملكت بلقيس، جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم، قال: فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها فتركت ملكها، وانطلقت إلى قصر لها، وتركتهم، فلما كثر الشر بينهم، وندموا أتوها، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها، فأبت، فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعونني، وليست لكم عقول، ولا تطيعوني، قالوا: فإنا نطيعك، وإنا لم نجد فينا خيراً بعدك، فجاءت فأمرت بواديهم، فسد بالعرم.
قال أحمد، قال وهب، قال أبي: فسألت المغيرة بن حكيم عن العرم، فقال: هو بكلام حمير المسناة فسدت ما بين الجبلين، فحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح، فجرى ماؤه في البركة، وأمرت بالعبر فألقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البعر في الماء، حتى خرج جميعاً معاً، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشان سليمان ما كان.
حدثنا أحمد بن عمر البصري، قال: ثنا أبو صالح بن زريق، قال: أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، في قوله " فأرسلنا عليهم سيل العرم " قال: المسناة بلحن اليمن.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله " سيل العرم " قال: شديد. وقيل: إن العرم: اسم واد لهؤلاء القوم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " فأرسلنا عليهم سيل العرم " قال: واد كان باليمن، كان يسيل إلى مكة، وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " فأرسلنا عليهم سيل العرم " ذكر لنا أن سيل العرم واد كانت تجتمع إليه مسايل من أودية شتى، فعمدوا فسدوا ما بين الجبلين بالقير والحجارة، وجعلوا عليه أبواباً، وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه، ويسدون عنهم ما لم يعنوا به من مائه شيئاً.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله " فأرسلنا عليهم سيل العرم " واد يدعى العرم، وكان إذا مطر سالت أودية اليمن إلى العرم، واجتمع إليه الماء، فعمدت سبأ إلى العرم، فسدوا ما بين الجبلين، فحجزوه بالصخر والقار، فانسد زماناً من الدهر، لا يرجون الماء، يقول: لا يخافون.
وقال آخرون: العرم: صفة للمسناة التي كانت لهم وليس باسم لها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله " سيل العرم " يقول: الشديد، وكان السبب الذي سبب الله لإرسال ذلك السيل عليهم فيما ذكر لي جرذاً ابتعثه الله على سدهم، فثقب فيه ثثباً.
ثم اختلف أهل العلم في صفة ما حدث عن ذلك الثقب مما كان فيه خراب جنتيهم.
فقال بعضهم: كان صفة ذلك أن السيل لما وجد عملاً في السد عمل فيه، ثم فاض الماء على جناتهم، فغرقها وخرب أرضهم وديارهمز
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه اليماني، قال: كان لهم، يعني لسبأ سد، قد كانوا بنوه بنياناً أبداً، وهو الذي كان يرد عنهم السيل إذا جاء أن يغشى أموالهم. وكان فيما يزعمون في علمهم من كهانتهم، أنه إنما يخرب عليهم سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا رجة بين حجرين، إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمانه، وما أراد الله بهم من التغريق، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر، فساورتها، حتى استأخرت عنها أي الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، فغلغلت في السد، فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون، فلما جاء السيل وجد خللاً، فدخل فيه حتى قلع السد، وفاض على الأموال، فاحتملها فلم يبق منها إلا ما ذكره الله، فلما تفرقوا نزلوا على كهانة عمران بن عامر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما ترك القوم أمر الله، بعث الله عليهم جرذاً يسمى الخلد، فثقبه من أسفله حتى غرق به جناتهم، وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: لما طغوا وبغوا، يعني سبأ، بعث الله عليهم جرذاً، فخرق عليهم السد، فأغرقهم الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: بعث الله عليه جرذاً، وسلطه على الذين كان يحبس الماء الذي يسقيها، فأخرب في أفواهت تلك الحجارة، وكل شيء منها من رصاص وغيره، حتى تركها حجارة، ثم بعث الله سيل العرم، فاقتلع ذلك السد، وما كان يحبس، واقتلع تلك الجنتين، فذهب بهما، وقرأ " فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين " قال: ذهب بتلك القرى والجنتين.
وقال آخرون: كان صفة ذلك أن الماء الذي كانوا يعمرون به جناتهم سال إلى موصع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، فبذلك خربت جناتهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: بعث الله عليهم، يعني على العرم دابة من الأرض، فثقبت فيه ثقباً، فسال ذلك الماء إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، وأبدلهم الله مكان جنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط، وذلك حين عصوا، وبطروا المعيشة.
والقول الأول أشبه بما دل عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه أرسل عليهم سيل العرم، ولا يكون إرسال ذلك عليهم إلا بإسالته عليهم، أو على جناتهم وأرضهم، لا بصرفه عنهم.
وقوله " وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط " يقول تعالى ذكره: وجعلنا لهم مكان بساتينهم من الفواكه والثمار، بساتين من جني ثمر الأراك، والأراك: وهو الخمط.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: أبدلهم الله مكان جنتيهم ذواتي أكل خمط، والخمط: الأراك.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن، يقول في قوله " ذواتي أكل خمط " قال: أراه قال: الخمط: الأراك.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثني عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد " أكل خمط " قال: الخمط: الأراك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " ذواتي أكل خمط " قال: الأراك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " ذواتي أكل خمط " والخمط: الأراك، وأكله: بريره.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله " وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط " قال: بدلهم الله بجنان الفواكه والأعناب، إذ أصحبت جناتهم خمطاً، وهو الأراك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " وبدلناهم بجنتيهم جنتين " قال: أذهب تلك القرى والجنتينن وأبدلهم الذي أخبرك ذواتي أكل خمط، قال: فالخمط: الأراك، قال: جعل مكان العنب أراكاً، والفاكهة أثلاً، وشيء من سدر قليل.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الأمصار بتنوين أكل غير أبي عمرو، فإنه يضيفها إلى الخمط، بمعنى: ذواتي ثمر خمط. وأما الذين لم يضيفوا ذلك إلى الخمط، وينونون الأكل، فإنهم جعلوا الخمط هو الأكل، فردوه عليه في إعرابه. وبضم الألف والكاف من الأكل قرأت قراء الأمصار، غير نافع، فإنه كان يخفف منها.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه " ذواتي أكل " بضم الألف والكاف لإجماع الحجة من القراء عليه، وبتنوين أكل لاستفاضة القراءة بذلك في قراء الأمصار، من غير أن أرى خطأ قراءة من قرأ ذلك بإضافته إلى الخمط. وذلك في إضافته وترك إضافته، نظير قول العرب في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم، فتضيف أحياناً الأعناب إلى الكرم، لأنها منه، وتنون أحياناً، ثم تترجم بالكرم عنها، إذ كانت الأعناب ثمر الكرم. وأما الأثل فإنه يقال له الطرفاء. وقيل: شجر شبيه بالطرفاء، غير أنه أعظم منها. وقيل: إنها السمر.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس " وأثل "، قال: الأثل: الطرفاء.
وقوله " وشيء من سدر قليل " يقول: ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثني سعيد، عن قتادة " ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل " قال: بينما شجر القوم خير الشجر، إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم.
قوله تعالى: "فأعرضوا" يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين. قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم أكفر من حمار هو رجل من عاد مات له أولاد فكفر كفراً عظيماً، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: تفرقوا أيادي سبأ. وقيل: الأوس والخزرج منهم. "فأرسلنا عليهم سيل العرم " والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل الشد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوا دي. قتادة: العرم وادي سبأ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن فردموا ردماً بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ثم وثبت ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت الشد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب الشكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد وقاله قتادة أيضاً فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي أيضاً: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في السد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضاً أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة وقاله الجوهري، قال ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى الشكر، وهو تجمع عيرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبنى للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وغزمت العظم أعرمه وأعرمه عرماً إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والغرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم صبين الغرام (بالضم) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة (بالفتح). والعرم.
قوله تعالى: "وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط" وقرأ أبو عمرو أكل خمط بغير تنوين مضافاً. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل شجر ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهى. واللبن خمط إذا خفض. والأولى عنده في القراءة ذواتي أكل خمط بالتنوين على أنه نعت لـ أكل أو بدل منه لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؟ نحو قولهم: ثوب خز. والخمط: اللبن الحامض. وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط، وإن أخذ شيئاً من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئاً من طعيم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة . وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطاً: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئاً من الريح وأنشد:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شهابها
"وأثل" قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولاً ومنه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلات. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بقيد ، وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار.. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. "وشيء من سدر قليل" قال الفراء: هو السمر ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشيري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستاناً ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" (الشورى:40). ويحتمل أن يرجع قوله قليل إلى جملة ما ذكر من الحفط والأثل والسدر.
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها, وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم, وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم, وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته, فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى, ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ, شذر مذر, كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريباً وبه الثقة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: " إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام منهم أربعة, فأما اليمانيون, فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير, وأما الشامية: فلخم وجذام وعاملة وغسان" ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن, ولم يخرجوه, وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ـ في كتاب القصد والأمم, بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ـ من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد أيضاً و عبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون , حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانىء بن عروة عن فروة بن مسيك رضي لله عنه قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فقاتل بمقبل قومك مدبرهم فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فقلت: يارسول الله أرأيت سبأ, واد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا بل هو رجل من العرب, ولد له عشرة فتيامن ستة, وتشاءم أربعة, تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار, الذين يقال لهم بجيلة وخثعم, وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان" وهذا أيضاً إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي , وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء المرادي عن عمه أو عن أبيه ـ شك ـ أسباط ـ قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
(طريق أخرى) لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى , حدثنا ابن وهب , حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية, فقال يوماً: ما أظن قوماً بأرض إلا وهم من أهلها, فقال علي بن أبي رباح : " كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية, وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام, أفأقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ما أمرت فيهم بشيء بعد" فأنزلت هذه الاية " لقد كان لسبإ في مسكنهم آية " الايات, فقال له رجل:" يا رسول الله ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام أربعة, أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها, وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة" فيه غرابة من حيث ذكر نزول الاية بالمدينة, والسورة مكية كلها, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(طريق أخرى) قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب , حدثنا أبو أسامة , حدثنا الحسن بن الحكم , حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: " قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو: أرض أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس بأرض ولا امرأة, ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد, فتيامن ستة وتشاءم أربعة, فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان, وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار فقال رجل: ما أنمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم: الذين منهم خثعم وبجيلة" ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا, ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان , حدثنا قاسم بن أصبغ , حدثنا أحمد بن زهير , حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي , حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي , عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال: " إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ, فذكر مثله" , فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب ـ منهم محمد بن إسحاق ـ: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان,وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب, وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو, فأعطى قومه فسمي الرائش, والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً. وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم, وقال في ذلك شعراً:
سيملك بعدنا ملكاً عظيماً نبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك يدينوه العباد بغير ذام
ويملك بعدهم منا ملوك يصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبي تقي مخبت خير الأنام
يسمى أحمداً ياليت أني أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه ومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب ـ الإكليل ـ واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال (أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. (والثاني) أنه من سلالة عابر, وهو هود عليه الصلاة والسلام, واختلفوا أيضاً في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضاً. (والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضاً. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كان رجلاً من العرب" يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح, وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام, وليس هذا المشهور عندهم, والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون, فقال: "ارموا بني إسماعيل ؟ فإن أباكم كان رامياً" فأسلم قبيلة من الأنصار ـ والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ـ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم, ونزلت طائقة منهم بالشام, وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إما سألت فإنا معشر نجب الأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولد له عشرة من العرب" أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه, بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة, والأقل والأكثر, كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة" أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم, منهم من أقام ببلادهم, ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأيتهم من بين جبلين, وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم, فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً, حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين, فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن, كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار, وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار, فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه, وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل, ويعرف بسد مأرب, وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث, ولا شيء من الهوام,وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه, كما قال تبارك وتعالى: " لقد كان لسبإ في مسكنهم آية " ثم فسرها بقوله عز وجل: "جنتان عن يمين وشمال" أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك "كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور" أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله تعالى: "فأعرضوا" أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم, وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله, كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام " وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون " وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً وقال السدي : أرسل الله عز وجل إليهم اثني عشر ألف نبي, والله أعلم.
وقوله تعالى: "فأرسلنا عليهم سيل العرم" المراد بالعرم المياه, وقيل الوادي, وقيل الجرذ, وقيل الماء الغزير, فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز, حكى ذلك السهيلي . وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك : إن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم, بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير, وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم, وقال قتادة وغيره: الجرذ هو الخلد, نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى, وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط, فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك, ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال, فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة, كما قال الله تبارك وتعالى: "وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط" قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي : وهو الأراك وأكلة البرير "وأثل" قال العوفي عن ابن عباس : هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء, وقيل هو السمر, والله أعلم.
وقوله: "وشيء من سدر قليل" لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: "وشيء من سدر قليل" فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة, والمناظر الحسنة, والظلال العميقة, والأنهار الجارية, تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل, وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل, ولهذا قال تعالى: "ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور" أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس : لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي , حدثنا حجاج بن محمد , حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة , وكان من أصحاب علي رضي الله عنه, قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة, والضيق في المعيشة, والتعسر في اللذة, قيل: وما التعسر في اللذة ؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم فقال: 16- "فأعرضوا" عن الشكر وكفروا بالله وكذبوا أنبياءهم قال السدي: بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، وكذا قال وهب. ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم فقال: "فأرسلنا عليهم سيل العرم" وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن، فردموا ردماً بين جبلين وحبسوا الماء، وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الباب الثاني، ثم من الثالث فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض فدخل الماء جنتهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم، وهو حمع عرمة: هي السكر التي تحبس الماء، وكذا قال قتادة وغيره. وقال السدي: العرم اسم للسد. والمعنى: أرسلنا عليهم سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم، وهو الذي يقال له الخلد: فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه. قال ابن الأعرابي: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: العرم ماء أحمر أرسله الله في السد فشقه وهدمه. وقيل إن العرم اسم المطر الشديد، وقيل اسم للسيل الشديد، والعرامة في الأصل: الشدة والشراسة والصعوبة: يقال عرم فلان: إذا تشدد وتصعب. وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: العرم السيل الذي لا يطاق. وقال المبرد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين "وبدلناهم بجنتيهم جنتين" أي أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة والأنواع الحسنة وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما، ولهذا قال: "ذواتي أكل خمط" قرأ الجمهور بتنوين أكل وعدم إضافته إلى خمط وقرأ أبو عمرو بالإضافة. قال الخليل: الخمط الأراك، وكذا قال كثير من المفسرين. وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك. وقال الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. وقال المبرد: كل شيء تغير إلى ما لا يشتهي يقال له خمط، ومنه اللبن إذا تغير، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو. والخمط نعت لأكل أو بدل منه، لأن الأكل هو الخمط بعينه. وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب: مثل ثوب خز ودار آجر، والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه. قال الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة أو التهكم بهم، والأثل هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال: إلا أنه أعظم من الطرفاء طولاً، الواحدة أثلة، والجمع أثلات. وقال الحسن: الأثل الخشب. وقال أبو عبيدة: هو شجر النطار، والأول أولى، ولا ثمر للأثل. والسدر شجر معروف. قال الفراء: هو السمر. قال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح للغسول، وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني سدر ينبت على الماء وثمرة النبق، وورقه غسول يشبه شجر العناب. قيل ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري. قال قتادة: بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. ويحتمل أن يرجع قوله "قليل" إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
16- "فأعرضوا"، قال وهب: فأرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم، وقالوا: ما نعرف لله عز وجل علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعم عنا إن استطاع، فذلك قوله تعالى: "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم"، والعرم: جمع عرمة، وهي السكر الذي يحبس به الماء.
وقال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق، وقيل: كان ماء أحمر، أرسله الله عليهم من حيث شاء، وقيل: العرم: الوادي، وأصله من العرامة، وهي الشدة والقوة.
وقال ابن عباس، ووهب، وغيرهما: كان ذلك السد بنته بلقيس، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم، وهو المسناة بلغة حمير، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها، فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقسمه بينهم على ذلك، فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم.
قال وهب: وكان مما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله عز وجل بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى قطع السد، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل، ففرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلاً عند العرب، يقولون: صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي: تفرقوا وتبددوا، فذلك قوله تعالى: "فأرسلنا عليهم سيل العرم".
" وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط "، قرأ العامة بالتنوين، وقرأ أهل البصرة: أكل خمط بالإضافة، الأكل: الثمر، والخمط: الأراك وثمره يقال له: البرير، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال المبرد والزجاج: كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط.
وقال ابن الأعرابي: الخمط: ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع، على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به، فمن جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في أكل حسن، ومن جعله أصلاً وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة، والتنوين سائغ، تقول العرب: في بستان فلان أعناب كرم، يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه.
"وأثل وشيء من سدر قليل"، فالأثل هو الطرفاء، وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر شجر معروف، وهو شجر النبق ينتفع بورقه لغسل الرأس ويغرس في البساتين، ولم يكن هذا من ذلك، بل كان سدراً برياً لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء.
قال قتادة: كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم.
16ـ " فأعرضوا " عن الشكر . " فأرسلنا عليهم سيل العرم " سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم ، وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، أو المطر الشديد أو الجرذ ، أضاف إليه الـ " سيل " لأنه نقي عليهم سكراً ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر وتركت فيه ثقباً على مقدار ما يحتاجون إليه ، أو المسناة التي عقدت سكراً على أنه جمع عرمة وهي الحجارة المركومة . وقيل اسم واد جاء السيل من قبله وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . " وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط " ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعماً من مرارة ، وقيل الأراك أو كل شجر لا شوك له ، والتقدير كل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامة في كونه بدلاً ، أو عطف بيان . " وأثل وشيء من سدر قليل " معطوفان على " أكل " لا على " خمط " ، فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له ، وقرئا بالنصب عطفاً على
" جنتين " ووصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين ، وتسمية البدل " جنتين " للمشاكلة والتهكم . وقرأ أبو عمرو (( ذاتي )) أكل بغير تنوين اللام وقرأ الحرماين بتخفيف " أكل " .
16. But they were froward, so We sent on them the flood of Iram, and in exchange for their two gardens gave them two gardens bearing bitter fruit, the tamarisk and here and there a lote tree.
16 - But they turned away (from God), and We sent against them the flood (released) from the Dams, and We converted their two garden (rows) into: gardens producing bitter fruit, and tamarisks, and some few (stunted) Lote trees.