[الأحزاب : 50] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا
50 - (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) مهورهن (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) من الكفار بالسبي كصفية وجويرية (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) بخلاف من لم يهاجرن (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها) يطلب نكاحها بغير صداق (خالصة لك من دون المؤمنين) النكاح بلفظ الهبة من غير صداق (قد علمنا ما فرضنا عليهم) أي المؤمنين (في أزواجهم) من الأحكام بأن لا يزيدوا على أربع نسوة ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر وفي (وما ملكت أيمانهم) من الاماء بشراء وغيره بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية وأن تستبرئ قبل الوطء (لكيلا) متعلق بما قبل ذلك (يكون عليك حرج) ضيق في النكاح (وكان الله غفورا) فيما يعسر التحرز عنه (رحيما) بالتوسعة في ذلك
قوله تعالى يا أيها النبي إنا أحللنا لك الآية أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله إنا أحللنا لك إلى قوله اللاتي هاجرن معك فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر
واخرج ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عن ام هانىء قالت نزلت في هذه الآية وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك أراد النبي صلى الله عليه وسلم ان يتزوجني فنهي عني إذ لم أهاجر
قوله تعالى وامرأة مؤمنة الآية أخرج ابن سعد عن عكرمة في قوله وامرأة مؤمنة الآية قال نزلت في أم شريك الدوسية
وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت جميلة فقبلها فقالت عائشة ما في امرأة حيث تهب نفسها لرجل خير قالت أم شريك فأنا تلك فسماها الله مؤمنة فقال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي فلما نزلت الآية قالت عائشة ان الله يسرع لك في هواك
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " يعني: اللاتي تزوجتهن بصداق مسمى.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " قال: صدقاتهن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " قال: كان كل امرأة آتاها مهراً، فقد أحلها الله له.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " ... إلى قوله " خالصة لك من دون المؤمنين " فما كان من هذه التسمية ما شاء كثيراً أو قليلاً.
وقوله " وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك " يقول: وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهن فملكتهن بالسباء، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " فأحل الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، المهاجرات معه منهن دون من لم يهاجر منهن معه.
كما حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي ، عن أبي صالح، عن أم هانىء قالت: خطبني النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت له بعذري، ثم أنزل الله عليه " إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " ... إلى قوله " اللاتي هاجرن معك " قالت: فلم أحل له، لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود ( وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك) بواو، وذلك وإن كان كذلك في قراءته محتمل أن يكون بمعنى قراءتنا بغير الواو، وذلك أن العرب تدخل الواو في نعت من قد تقدم ذكره أحياناً، كما قال الشاعر:
فإن رشيداً وابن مروان لم يكن ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا
ورشيد هو ابن مروان، وكان الضحاك بن مزاحم يتأول قراءة عبد الله هذه أنهن نوع غير بنات خالاته، وأنهن كل مهاجرة هاجرت مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر الخبر عنه بذلك:
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في حرف ابن مسعود ( واللاتي هاجرن معك) يعني بذلك: كل شيء هاجر معه ليس من بنات العم والعمة، ولا من بتات الخال والخالة.
وقوله " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " يقول: وأحللنا له امرأة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " بغير صداق، فلم يكن يفعل ذلك، وأحل له خاصة من دون المؤمنين.
وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( وامرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي) بغير إن، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها ( إن) واحد، وذلك كقول القائل في الكلام: لا بأس أن يطأ جارية مملوكة إن ملكها، وجارية مملوكة ملكها.
وقوله " إن أراد النبي أن يستنكحها " يقول: إن أراد أن ينكحها، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر " خالصة لك " يقول: لا يحل لأحد من أمتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " خالصة لك من دون المؤمنين " يقول: ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر، إلا للنبي، كانت له خالصة من دون الناس. ويزعمون أنها نزلت في ميمونة بنت الحارث أنها التي وهبت نفسها للنبي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " ... إلى قوله " خالصة لك من دون المؤمنين " قال: كان كل امرأة آتاها مهراً فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهن له، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن صالح بن مسلم، قال: سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل، قال: لا يكون، لا تحل له، إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم.
واختلفت القراء في قراءة قوله " إن وهبت نفسها " فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار " إن وهبت " بكسر الألف على وجه الجزاء، بمعنى: إن تهب. وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ( أن وهبت) بفتح الألف، بمعنى: وأحللنا له امرأة مؤمنة أن ينكحها، لهبتها له نفسها.
والقراءة التي لا أستجيز خلافها في كسر الأف لإجماع الحجة من القراء عليه.
وأما قوله " خالصة لك من دون المؤمنين " ليس ذلك للمؤمنين، وذكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الآية أن يتزوج أي النساء شاء، فقصره الله على هؤلاء، فلم يعدهن وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورباع.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، عن زياد رجل من الأنصار، عن أبي بن كعب، أن التي أحل الله للنبي من النساء هؤلاء اللاتي ذكر الله " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " ... إلى قوله " في أزواجهم " وإنما أحل الله للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع.
وحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " .. إلى آخر الآية، قال: حرم الله عليه ما سوى ذلك من النساء، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء، لم يحرم ذلك عليه، فكان نساؤه يجدن من ذلك وجداً شديداً أن ينكح في أي الناس أحب، فلما أنزل الله: إني قد حرمت عليك من الناس سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه.
واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات، هل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك؟ فقال بعضهم: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " قال: أن تهب. وأما الذين قالوا: قد كان عنده منهن فإن بعضهم قال: كانت ميمونة بنت الحارث. وقال بعضهم: هي أم شريك. وقال بعضهم: زينب بنت خزيمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس، قال " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " قال: هي ميمونة بنت الحارث.
وقال بعضهم: زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: ثني الحكم، قال: كتب عبد الملك إلى أهل المدينة يسألهم، قال: فكتب إليه علي - قال شعبة: وهو ظني علي بن حسين، قال: وقد أخبرني به أبان بن تغلب، عن الحكم، أنه علي بن الحسين، الذي كتب إليه - قال: هي امرأة من الأسد يقال لها أم شريك، وهبت نفسها للنبي.
قال: ثنا شعبة، قال: ثني عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي ، أنها امرأة من الأنصار، وهبت نفسها للنبي، وهي ممن أرجأ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم، كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثني سعيد بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كنا نتحدث أن أم شريك كانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أمرأة صالحة.
وقوله " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهن مما لم نفرضه عليك، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحل لهم عقد نكاح على حرة مسلمة إلا بولي عصبة وشهود عدول، ولا يحل لهم منهن أكثر من أربع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: ثنا مطهر، قال: ثنا علي بن الحسين، قال: ثني أبي، عن مطر، عن قتادة، في قول الله " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " قال: إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " قال: في الأربع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " قال: كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوج امرأة إلا بولي وصداق عند شاهدي عدل، ولا يحل لهم من النساء إلا أربع، وما ملكت إيمانهم.
وقوله " وما ملكت أيمانهم " يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم، لأنه لا يحل لهم منهن أكثر من أربع، وما ملكت أيمانهم، فإ، جميعهن إذا كن مؤمنات أو كتابيات، لهم حلال بالسباء والتسري وغير ذلك من أسباب الملك. وقوله " لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما " يقول تعالى ذكره: إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الآية، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهن من المسميات في هذه الآية، وكان الله غفوراً لك ولأهل الإيمان بك، رحيماً بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه.
" يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما "
فيه تسع عشرة مسألة:الأولى: روى السدي عن أبي صالح عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت:"خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني"، ثم أنزل الله تعالى: " إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " قالت: فلم أكن أحل له؟ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء. خرجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال ابن العربي: وهو ضعيف جدًا، ولم يأتي هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها.
الثانية: "لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن ". والدليل على ذلك قوله تعالى: "لا يحل لك النساء من بعد" الآية. وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك جزاء لهن على اختيارهن له. وقيل: كان يحل له ذلك كغيره من الناس ولكن لا يتزوج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: "إنا أحللنا لك أزواجك " والإحلال يقتضي تقدم حظر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال. إليهن، ولأنه قال في سياق الآية "وبنات عمك وبنات عماتك " الآية. ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته،فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء. وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في البقرة.
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى: "إنا أحللنا لك أزواجك" فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، قاله ابن زيد والضحاك. فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم. وقيل: المراد أحللنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترنك على الدنيا والاخرة، قاله الجمهور من العلماء. وهو الظاهر، لأن قوله: "آتيت أجورهن " ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط. ويجيء الأمر على هذا التأويل ضيقا على النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمي، سر نساؤه بذلك". قلت: والقول الأول أصح لما ذكرناه. ويدل أيضًا على صحته ما خرجه الترمذيعن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها:ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
الثالثة: قوله تعالى: "وما ملكت يمينك " أحل الله تعالى السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته مطلقاً، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وأحله للخلق بعدد. وقوله: "مما أفاء الله عليك " أي رده عليك من الكفار. والغنيمة قد تسمى فيئًا أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
الرابعة: قوله تعالى: "وبنات عمك وبنات عماتك " أي أحللنا لك ذلك زائدًا من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وآتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: وبنات عمك وبنات عماتك لأن ذلك داخل فيما تقدم.
قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفاً كما قال تعالى: " فيهما فاكهة ونخل ورمان " (الرحمن: 68). والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: " اللاتي هاجرن معك " فيه قولان: الأول: لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب، وبنات أولاد عبد المطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم لقوله صلى الله عليه وسلم"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهىتعالى عنه ". الثاني: لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة لقوله تعالى: " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" (الأنفال: 72)، ومن لم يهاجر يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم، صلى الله عليه وسلم.
السادسة: قوله تعالى: "معك" المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها فمن هاجر حل له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. يقال: دخل فلان وخرج معي، أي كان عمله كعملي هـان لم يقترن فيه عملكما. ولو قلت: خرجنا لاقتضى ذلك المعنيين جميعًا: الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه.
السابعة: ذكر الله تبارك وتعالى العم فردًا والعمات جمعًا. وكذلك قال: خالك وخالاتك والحكمة في ذلك: ان العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز وليس كذلك العمة والخالة. وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه، قاله ابن العربي.
الثامنة: قوله تعالى: "وامرأة مؤمنة" عطف على أحللنا المعنى وأحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق. وقد اختلف في هذا المعنى، فروي عن ابن عباس أنه قال: لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقال كانت عنده موهوبة.
قلت: والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، روى مسلم عن عائشة رضى عنها أنها قالت:كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحي
امرأة تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله تعالى: " ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء " فقلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وروى البخاري عن عائشة أنها قالت:كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل هذاعلى أنهن كن غير واحدة. والله تعالى أعلم. الزمخشري: وقيل الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف. قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة بن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
التاسعة: وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمهاغزية. وقيل غزيلة. وقيل ليلى بنت حكيم. وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي. وقيل: عند الطفيل بن الحارث فولدت له شريكاً. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها ولم يثبت ذلك. والله تعالى أعلم ذكره أبو عمر بن عبد البر. وقال الشعبي وعروة: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين. والله تعالى أعلم.
العاشرة: قرأ جمهور الناس إن وهبت بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمرأي إن وقع فهو حلال له. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة وقد دللنا على خلافه. وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح:"أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ". فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه غير أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرًا بياناً فنزلت الآية بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره. ويحتمل أن يكون سكت ناظرًا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبًا. وقرأ الحسن البصري و أبي بن كعب
والشعبي أن بفتح الألف. وقرأ الأعمش وامرأة مؤمنة وهبت . قال النحاس: وكسر إن أجمع للمعاني لأنه قيل إنهن نساء. وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن.
الحادية عشرة: قوله تعالى: "مؤمنة" يدل على أن الكافرة لا تحل له. قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه. قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات. هـاذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
الثانية عشرة: قوله تعالى: "إن وهبت نفسها" دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في النساء وغيرها. وقال الزجاج: معنى: إن وهبت نفسها للنبي حلت. وقرأ الحسن: أن وهبت بفتح الهمزة. وأن في موضع نصب. قال الزجاج: أي لأن. وقال غيره: أن وهبت بدل اشتمال من امرأة .
الثالثة عشرة: قوله تعالى: "إن أراد النبي أن يستنكحها" أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك. كما إذا وهبت لرجل شيئًا فلا يجب عليه القبول، بيد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته. ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه فبين الله ذلك في حق رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى ليرفع عنه الحرج، ويبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم. الرابعة عشرة: قوله تعالى: "خالصة لك". أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزيةلا تجوز فلا يجوز ان تهب المرأة نفسها لرجل، ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك. فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
الخامسة عشرة: أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ عن الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز. قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في القصص مستوفاة. والحمد لله.
السادسة عشرة: خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل مزية على الأمة وهبت له، ومرتبة خص بها ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم منهامتفق عليه ومختلف فيه.
فأما ما فرض عليه فتسعة: الأول: التهجد بالليل، يقال: إن قيام الليل كان واجبًا عليه إلى أن مات لقوله تعالى: "يا أيها المزمل * قم الليل " (المزمل: 1- 2) الآية. والمنصوص أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك " (الإسراء: 179) وسيأتي. الثاني: الضحا. الثا لث: الأضحى. الرابع: الوتر وهو يدخل في قسم التهجد. الخامس: السواك. السادس: قضاء دين من مات معسرا. السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن: تخيير النساء. التاسع: إذا عمل عملاً اثبته. زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكرًا أنكره وأظهره، لان إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، ذكره صاحب البيان.
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأول: تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني:صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخوله. الرابع حرم الله عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس: الأكل متكئا. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة. السابع: التبدل بأزواجه وسيأتي. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع: نكاح الحرة الكتابية. العاشر: نكاح الأمة.
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره تنزيهًا له وتطهيرًا. فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه تأكيدًا لحجته وبياناً لمعجزته قال الله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" (العنكبوت: 48). وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب والأول هو المشهور. وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس قال الله تعالى: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " (الحجر: 88) الآية.
وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر: الأول: صفي المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس. الثالث: الوصال. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس: النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولي. السابع: النكاح بغير صداق. الثامن: نكاحه في حالة الإحرام. التاسع: سقوط القسم بين الأزواج عنه وسيأتي. العاشر: إذا . وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى. الحادي عشر: أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر: دخوله مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر: القتال بمكة. الرابع عشر: أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما تقرر بيانه في آية المواريث ، وسورة مريم بيانه أيضاً. الخامس عشر: بقاء زوجيته من بعد الموت. السادس عشر: إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدم معظمها مفصلاً في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ". وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا. وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونصر بالرعب فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة. وقد انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى وإبراء الاكمه والأبرص. وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع إليه وهذا أبلغ. وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة.
السابعة عشرة: قوله تعالى: "أن يستنكحها" أي ينكحها، يقال: نكح واستنكح مثل عجب واستعجب، وعجل واستعجل. ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح، أو طلب الوطء. وخالصة نصب على الحال، قاله الزجاج. وقيل: حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر، تقديره: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولي.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: "من دون المؤمنين " فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام.
قوله تعالى: " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي. قال معناه أبي بن كعب وقتادة وغيرهما.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: " لكيلا يكون عليك حرج " أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكيلا يكون عليك حرج فـ (ـلكيلا) متعلق بقوله: "إنا أحللنا لك أزواجك " أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك في شيء. ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: "وكان الله غفورا رحيما".
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا, كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشاً وهو نصف أوقية, فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان , فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر, ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها, كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ـ رضي الله عنهن أجمعين ـ.
وقوله تعالى: "وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك" أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم, وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما, وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام, وكانتا من السراري رضي الله عنهما. وقوله تعالى: " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك " الاية, هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط, فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً, واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته, فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى, فأباح بنت العم والعمة, وبنت الخال والخالة, وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع, وإنما قال: "وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك" فوحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الإناث لنقصهن كقوله: "عن اليمين والشمائل" "يخرجهم من الظلمات إلى النور" "وجعل الظلمات والنور" وله نظائر كثيرة.
وقوله تعالى: "اللاتي هاجرن معك" قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي , حدثنا عبيد الله بن موسى , حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني, ثم أنزل الله تعالى: "إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك" قالت: فلم أكن أحل له, ولم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به, ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه, ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة "اللاتي هاجرن معك" أي أسلمن, وقال الضحاك : قرأ ابن مسعود " اللاتي هاجرن معك ".
وقوله تعالى: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك" الاية, أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الاية توالى فيها شرطان, كقوله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه "ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم" وكقول موسى عليه السلام "يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين" وقال ههنا: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" الاية.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق , أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك, فقامت قياماً طويلاً, فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك, فالتمس شيئاً فقال: لا أجد شيئاً, فقال : التمس ولو خاتماً من حديد فالتمس فلم يجد شيئاً, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شيء ؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا ـ السور يسميها ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن" أخرجاه من حديث مالك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا مرحوم , سمعت ثابتاً يقول: كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له, فقال أنس : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك في حاجة ؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها, فقال: هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن بكير , حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا, فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها, فقال: قد قبلتها فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئاً قط, فقال: لا حاجة لي في ابنتك" لم يخرجوه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا منصور بن أبي مزاحم , حدثنا ابن أبي الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه : أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه : كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي , حدثنا وكيع , حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب و عمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة, ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة , وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة, وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم و زينب أم المساكين , وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات, وهي التي اختارت الدنيا, وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه, و زينب بنت جحش الأسدية , والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية . وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" قال: هي ميمونة بنت الحارث , فيه انقطاع, هذا مرسل, والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية , وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته, فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير, كما قال البخاري : حدثنا زكريا بن يحيى , حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى: "ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك" قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا محمد بن منصور الجعفي , حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ووراه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير , أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به, لأنه مردود إلى مشيئته, كما قال الله تعالى: "إن أراد النبي أن يستنكحها" أي إن اختار ذلك.
وقوله تعالى: "خالصة لك من دون المؤمنين" قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك, ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً, وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما, أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها, كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق لما فوضت, فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها, والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم, فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها, لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي, ولا شهود, كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها, ولهذا قال قتادة في قوله: "خالصة لك من دون المؤمنين" يقول: ليس لا مرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم" قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم" أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر, وما شاؤوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم, وهم الأمة وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه "لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيماً".
50- "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن" ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهن أجورهن: أي مهورهن، فإن المهور أجور الإبضاع، وإيتاؤها: إما تسليمها معجلة أو تسميتها في العقد.
واختلف في معنى قوله: "أحللنا لك أزواجك" فقال: ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم. وقال الجمهور: المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر، لأن قوله أحللنا وأتيت ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه، لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل مع الوطء والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل "وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك" أي السراري اللاتي دخلن في ملكه بالغنيمة. ومعنى "مما أفاء الله عليك" مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة، وليس المراد بهذا القيد أخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنها تحل له السرية المشتراة والموهوبة ونحوهما، ولكنه إشارة إلى ما هو أفضل كالقيد الأول المصرح بإيتاء الأجور، وهكذا قيد المهاجرة في قوله: " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " فإنه للإشارة إلى ما هو أفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها. وقيل إن هذا القيد: أعني المهاجرة معتبر وأنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله: "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا" ويؤيد هذا حديث أم هانيء، وسيأتي آخر البحث هذا إن شاء الله تعالى ووجه إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ما ذكره القرطبي أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس الشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. قال: وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان. وحكاه عن ابن العربي. وقال ابن كثير: إنه وحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله: "عن اليمين والشمائل" وقوله: "يخرجهم من الظلمات إلى النور" و "جعل الظلمات والنور" وله نظائر كثيرة انتهى. وقال النيسابوري. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاءً بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع أختين تحت واحد، ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة، وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد سيغة الإفراد وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة، على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" هو معطوف على مفعول أحللنا: أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد إن وهبت نفسها منك بغير صداق. وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها ولهذا قال: "إن أراد النبي أن يستنكحها" أي يصيرها منكوحة له ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر. وقد قيل إنه لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم من الواهبات أنفسهن أحداً ولم يكن عنده منهن شيء. وقيل كان عنده منهن خولة بنت حكيم كما في صحيح البخاري عن عائشة. وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة بن الزبير: هي أم حكيم بنت الأوقص السلمية. ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لغيره من أمته فقال: "خالصة لك من دون المؤمنين" أي هذا الإحلال الخالص هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين. ولفظ خالصة إما حال من امرأة، قاله الزجاج. أو مصدر مؤكد كوعد الله. أي خالص لك خلوصاً. قرأ الجمهور "وامرأة" بالنصب. وقرأ أبو حيوة بالرفع على الابتداء. وقرأ الجمهور "إن وهبت" بكسر إن. وقرأ أبي والحسن وعيسى بن عمر بفتحها على الابتداء. وقرأ الجمهور "خالصة" بالنصب، وقرئ بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ امرأة بالرفع، وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز لغيره ولا نيعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلا ما روي عن أبي حنيفة في أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم" أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الإخلال به، ولا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريماً له، فلا يتزوجوا إلا أربعاً بمهر وبينة وولي "وما ملكت أيمانكم" أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن مما يجوز سبيه وحريه، لا من كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين "لكيلا يكون عليك حرج". قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية: أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكيلا يكون عليك حرج، فتكون اللام متعلقة بأحللنا، وقيل هي متعلقة بخالصة، والأول أولى والحرج الضيق: أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك، فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات " وكان الله غفورا رحيما " يغفر الذنوب ويرحم العباد، ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه.
قوله عز وجل: 50- "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن"، أي: مهورهن، "وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك"، رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم، "وبنات عمك وبنات عماتك"، يعني: نساء قريش، "وبنات خالك وبنات خالاتك"، يعني: نساء بني زهرة، "اللاتي هاجرن معك"، إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها.
وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له، لأني لم كن من المهاجرات وكنت من الطلقاء، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
"وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين"، أي. أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه.
واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر؟
فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك، لقوله: "وامرأة مؤمنة"، وأول بعضهم الهجرة في قوله: "اللاتي هاجرن معك" على الإسلام، أي: أسلمن معك. فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح لقوله تعالى: "خالصة لك من دون المؤمنين"، كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه.
واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، وهو قول سعيد بن المسيب، والزهري، ومجاهد، وعطاء، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي.
وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك، وهو قول إبراهيم النخعي، وأهل الكوفة.
ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم: فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد بلفظ الهبة، لقوله تعالى: "خالصة لك من دون المؤمنين".
وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل: "إن أراد النبي أن يستنكحها"، وكان اختصاصه صلى الله عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح.
واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن؟.
فقال عبد الله بن عباس، ومجاهد: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وقوله: "إن وهبت نفسها" على طريق الشرط والجزاء.
وقال آخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها، فقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الهلالية، يقال لها: أم المساكين.
وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث.
وقال علي بن الحسين، والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر من بني أسد.
وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سليم.
قوله عز وجل: "قد علمنا ما فرضنا عليهم"، أي: أوجبنا على المؤمنين، "في أزواجهم"، من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر، "وما ملكت أيمانهم"، أي: ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين، "لكيلا يكون عليك حرج"، وهذا يرجع إلى أول الآية أي: أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق.
"وكان الله غفوراً رحيما".
50 -" يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن " مهورهن لأن المهر أجر على البضع ، وتقييد الأحلال له بإعطائها معجلة لا لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسببة بقوله : " وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك " فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها ، وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه في قوله : " وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة ويعضده " قول أم هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء " . " وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي " نصب بفعل يفسره ما قبله أو عطف على ما سبق ، ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال فإن المعنى بالإحلال والإعلام بالحل أي : أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً إن اتفق ولذلك نكرها . واختلف في اتفاق ذلك والقائل به ذكر أربعاً : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية ، وأم شربك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم . وقرئ (( أن )) بالفتح أي لأن وهبت أو مدة أن وهبت كقولك : اجلس ما دام زيد جالساً . " إن أراد النبي أن يستنكحها " شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها ، فإنها جارية مجرى القبول والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم مكرراً ثم الرجوع إليه في قوله : " خالصةً لك من دون المؤمنين " إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله . واحتج به أصحابنا على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ ، والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه ، و" خالصةً " مصدر مؤكد أي خلص إحلالها أو إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلصوا لك ، أو حال من الضمير في " وهبت " أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة . " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " من شرائط العقد ووجوب القسم والمهر بالوطء حيث لم يسم . " وما ملكت أيمانهم " من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم ، والجملة اعتراض بين قوله : " لكيلا يكون عليك حرج " ومتعلقه وهو " خالصة " للدلالة على أن الفرق بينه وبين " المؤمنين " في نحو ذلك لا لمجرد قصد التوسيع عليه ، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة وبالعكس أخرى . " وكان الله غفوراً " لما يعسر التحرز عنه . " رحيماً " بالتوسعة في مظان الحرج .
50. O Prophet! Lo! We have made lawful unto thee thy wives unto whom thou hast paid their dowries, and those whom thy right hand possesseth of those whom Allah hath given thee as spoils of war, and the daughters of thine uncle on the father's side and the daughters of thine aunts on the father's side, and the daughters of thine uncles on the mother's side emigrated with thee, and a believing woman if she give herself unto the Prophet and the Prophet desire to ask her in marriage, a privilege for thee only, not for the (rest of) believers. We are aware of that which We enjoined upon them concerning their wives and those whom their right hands possess that thou mayst be free from blame, for Allah is Forgiving, Merciful.
50 - O Prophet We have made lawful to thee thy wives to whom thou hast paid their dowers; and those whom thy right hand possesses out of the prisoners of war whom God has assigned to thee and daughters of thy paternal uncles and aunts, and daughters of thy maternal uncles and aunts, who migrated (From Mecca) with thee; and any believing woman who dedicates her soul to the Prophet if the Prophet wishes to wed her; this only for thee, and not for the Believers (at large); We know what We have appointed for them as to their wives and The captives whom their right hands possess; in order that there should be no difficulty for thee. And God is Oft Forgiving Most Merciful.