[الأحزاب : 26] وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا
26 - (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب) أي قؤيظة (من صياصيهم) حصونهم جمع صيصية وهو ما يتحصن به (وقذف في قلوبهم الرعب) الخوف (فريقا تقتلون) منهم وهم المقاتلة (وتأسرون فريقا) منهم أي الذراري
يقول تعالى ذكره: وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك هو مظاهرتهم إياه، وعنى بذلك بني قريظة، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله " من أهل الكتاب " يعني: من أهل التوراة، وكانوا يهود. وقوله " من صياصيهم " يعني من حصونهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب " قال: قريظة. يقول: أنزلهم من صياصهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب " وهم بنو قريظة، ظاهروا أبا سفيان وراسلوا، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبي الله، قال: " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه، وقد غسلت شقه، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال، قال: فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلك سكة بني غنم، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم وناداهم: يا أخوان القردة، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فحاشاً، فنزلوا على حكم ابن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلق، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، وأومأ إليهم أو لبابة أنه الذبح، فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) ( الأنفال: 27) فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال قومه وعشيرته: آثرت المهاجرين بالعقار علينا، قال: فإنكم كنتم ذوي عقار، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال قضى فيكم بحكم الله ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق راجعاً إلى المدينة والمسلمون، ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - " معتجراً بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، ما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً، فأذن في الناس: إن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إلى بني قريظة، وابتدارها الناس، فسار علي بن أيب طالب رضي الله عنه، حتى إذا دنا من الحصون، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريقن فقال: يا رسول الله لا عليك إلا تدنو من هؤلاء الأخباث قال. لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذىً، قال: نعم يا رسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك جبرائيل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة، نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها: بئرانا، فتلاحق به الناس، فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فصلوا العصر فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به ورسوله ".
والحديث عن محمد بن إسحاق، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري، قال: " وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا أيها، قالوا: وما هن؟ قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكن إنه لنبي مرسل، وإنه الذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم هذه علي، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف، ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإذا أبيتم هذه علي، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا، فأنزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً، قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا من خلفاء الأوس، نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح، قال أبو لبابة، فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ بني قريظة أبداً ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما إنه لو كان جاءني لاستغفرت له، أما إذ فعل مافعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، واسد بن عبيد، وهم نفر من بني هذيل ليسوا من بني قريظة، ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بمحمد أبداً، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب، فلا يدري أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: ذاك رجل نجاه الله بوفائه. قال وبعض الناس كان يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصحبت رمته ملقاة، ولا يدرى أين ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، فالله أعلم .
فلما أصبحوا، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له، فلما كلمته الأوس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق ( اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعود من قريب! فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ من كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال: قوموا إلى سيدكم! فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم كما حكمت؟ قال: نعم، قال: وعلى من ههنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوف المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادقن ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالاً، وفيهم عدوا الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ست مئة أو سبع مئة، والمكثر منهم يقول: كانوا من الثمان مئة إلى التسع مئة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب، ما ترى ما يصنع بنا؟ فقال كعب: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وإنه من يذهب به منكم فما يرجع، هو والله القتل، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتي بحيي بن أخطب عدو الله، وعليه حلة له فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة، لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة، قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي العز كل مقلقل
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تحدث معي وتضحك ظهراً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق، إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك مالك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، قال: فانطلق بها، فضربت عنقها، فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبي منها طيب نفس، وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تقتل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني يزيد بن رومان " وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم " والصياصي: الحصون والآطام التي كانوا فيها " وقذف في قلوبهم الرعب ".
حدثنا عمرو بن مالك البكري، قال: ثنا وكيع بن الجراح، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة " من صياصيهم " قال: من حصونهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا روقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " من صياصيهم " يقول: أنزلهم من صياصيهم،قال: قصورهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " من صياصيهم ": أي من حصونهم وآطامهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم " قال: الصياصي: حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم من الله تبارك وتعالى، وأصل الصياصي: جمع صيصة، وعني بها ههنا: حصونهم، والعرب تقول لطرف الجبل: صيصة، ويقال لأصل الشيء: صيصة، يقال: جز الله صيصة فلان، أي أصله، ويقال لشوك الحاكة: صياصي، كما قال الشاعر:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وهي شوكتا الديك.
وقوله " وقذف في قلوبهم الرعب " يقول: وألقى في قلوبهم الخوف منكم " فريقا تقتلون " يقول: تقتلون منهم جماعة، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم " وتأسرون فريقا " يقول: وتأسرون منهم جماعة، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " فريقا تقتلون " الذين ضربت أعناقهم " وتأسرون فريقا " الذين سبوا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني يزيد بن رومان " فريقا تقتلون وتأسرون فريقا " أي قتل الرجال وسبي الذراري والنساء.
قوله تعالى :" وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم " يعني الذين عانوا الأحزاب: قريشاً وغطفان وهو بنو قريظة وقد مضى خبرهم " من صياصيهم " أي حصونهم واحدها صيصة قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تيم يبتدرن الصياصا
ومنه قيل لشركة الحائك التي بها يسوى السداة واللحمة :صيصة قال دريد بن الصمة :
فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد
منه :صيصة الديك التي في رجله ، وصياصي البقرة قرونها، لأنها تمتنع بها وربما كانت تركب في الرماح مكان الأسنة، ويقال: جذ الله صئصئه أي أصله " وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون " وهم الرجال" وتأسرون فريقا" وهم النساء والذرية على ما تقدم " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها " بعد قال: يريزد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة وقال الحسن: هي فارس والروم وقال عكرمة: كل أ{ض بفتح إلى يوم القيامة.

قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة, نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد, وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله, دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد, وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعز الدهر, أتيتك بقريش وأحابيشها, وغطفان وأتباعها, ولا يزالون ههنا حتى يستأصلون محمداً وأصحابه, فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر, ويحك ياحيي إنك مشؤوم, فدعنا منك, فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه, واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن, فيكون له أسوتهم, فلما نقضت قريظة, وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جداً, فلما أيده الله تعالى ونصره وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً, ووضع الناس السلاح, " فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها, إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج, فقال: أوضعت السلاح يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم :نعم قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها, وهذا الان رجوعي من طلب القوم, ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة " , وفي رواية فقال له: " عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح ؟ قال :نعم قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد انهض إلى هؤلاء, قال صلى الله عليه وسلم أين ؟ قال: بني قريظة, فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم, فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره, وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة, وكانت على أميال من المدينة, وذلك بعد صلاة الظهر, وقال صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق, فصلى بعضهم في الطريق وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا تعجيل المسير, وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة, فلم يعنف واحداً من الفريقين, وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه, وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فلما طال عليه الحال, نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه, لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية, واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك, كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول في مواليه بني قينقاع, حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك, ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق, فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله وأنزله في قبة المسجد ليعوده من قريب, وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به, اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها, وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فأفجرها, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة, فاستجاب الله تعالى دعاءه, وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم, فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه, جعل الأوس يلوذون به ويقولون: ياسعد إنهم مواليك فأحسن فيهم, ويرققونه عليهم ويعطفونه وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقهم, فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم فقام إليه المسلمون, فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم, فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء ـ وأشار إليهم ـ قد نزلوا على حكمك, فاحكم فيهم بما شئت فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم نعم. قال وعلى من في هذه الخيمة ؟ قال نعم. قال وعلى من ههنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله , وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وإكراماً وإعظاماً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم. فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة", وفي رواية "لقد حكمت بحكم الملك", ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض, وجيء بهم مكتفين, فضرب أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة, وسبى من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم, وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً, ولله الحمد والمنة. ولهذا قال تعالى: "وأنزل الذين ظاهروهم" أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أهل الكتاب" يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل, كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" فعليهم لعنة الله.
وقوله تعالى: "من صياصيهم" يعني حصونهم, كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف, ومنه سمي صياصي البقر, وهي قرونها لأنها أعلى شيء فيها, "وقذف في قلوبهم الرعب" وهو الخوف, لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم, وليس من يعلم كمن لا يعلم, وأخافوا المسلمين وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا, فانعكس عليهم الحال, وانقلبت إليهم القال, انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون, فكما رامو العز ذلوا, وأرادوا استئصال المسلمين فاستئصلوا, وأضيف إلى ذلك شقاوة الاخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة, ولهذا قال تعالى: "فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً" قالذين قتلوا هم المقاتلة والاسراء هم الأصاغر والنساء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم بن بشير , أخبرنا عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة, فشكوا في, فأمربي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد, فنظروني فلم يجدوني أنبت, فخلي عني وألحقني بالسبي, وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي : حسن صحيح, ورواه النسائي أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه. وقوله تعالى: "وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم" أي جعلها لكم من قتلكم لهم " وأرضا لم تطئوها " قيل: خيبر, وقيل مكة, رواه مالك عن زيد بن أسلم وقيل فارس والروم, وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع مراداً "وكان الله على كل شيء قديراً".
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد , أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي, فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه, ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة, قالت: فجلست إلى الأرض, فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه, فأنا أتخوف على أطراف سعد , قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم, فمر وهو يرتجز ويقول:
لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة, فإذا فيها نفر من المسلمين, وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيهم رجل عليه تسبغة له, تعني المغفر, فقال عمر رضي الله عنه: ما جاء بك ؟ لعمري والله إنك لجريئة, وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز ؟ قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ, فدخلت فيها, فرفع الرجل التسبغة عن وجهه, فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم, وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى ؟ قالت: ورمى سعداً رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له, وقال له: خذها وأنا ابن العرقة, فأصاب أكحله فقطعه, فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة, قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية, قالت: فرقأ كلمه وبعث الله تعالى الريح على المشركين " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ", فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة, ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد, ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد, قالت:" فجاءه جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار, فقال: أوقد وضعت السلاح ؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح, اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم, قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته, وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا, فمر على بني تميم وهم جيران المسجد, فقال : من مر بكم ؟ قالوا: مر بنا دحية الكلبي, وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام, فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء, قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر , فأشار إليهم إنه الذبح, قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انزلوا على حكم سعد بن معاذ فنزلوا, وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه, فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه, وحف به قومه فقالوا: ياأبا عمرو حلفاؤك ومواليك, وأهل النكاية ومن قد علمت, قالت: فلا يرجع إليهم شيئاً ولا يلتفت إليهم, حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال: قال أبو سعيد فلما طلع, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :قوموا إلى سيدكم فأنزلوه فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله, قال : أنزلوه ، فأنزلوه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احكم فيهم قال سعد رضي الله عنه: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم, وتسبى ذراريهم, وتقسم أموالهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله" ثم دعا سعد رضي الله عنه, فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها, وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك قال: فانفجر كلمه وكان قد برىء منه إلا مثل الخرص, ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله , قالت عائشة رضي الله عنها: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما, قالت: فوالذي نفس محمد بيده, إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي, وكانوا كما قال الله تعالى: "رحماء بينهم" قال علقمة: فقلت أي أمه, فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت: كانت عينه لاتدمع على أحد, ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحواً من هذا, ولكنه أخصر منه, وفيه دعا سعد رضي الله عنه.
قوله: 26- "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب" أي عاضدوهم وعازنوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو قريظة، فإنهم عاونوا الأحزاب ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا يداً واحدة مع الأحزاب. والصياصي جمع صيصية: وهي الحصون، وكل شيء ستحصن به يقال له صيصية، ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله، وصياصي البقر قرونها لأنها تمتنع بها، ويقال لشوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة صيصية، ومنه قول دريد بن الصمة:
فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج المدد
ومن إطلاقها على الحصون قول الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا‌
"وقذف في قلوبهم الرعب" أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي وهي معنى قوله: "فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً" فالفريق الأول هم الرجال، والفريق الثاني هم النساء والذرية، وهذه الجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم. قرأ الجمهور "تقتلون" بالفوقية على الخطاب، وكذلك قرأوا "تأسرون" وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه بالتحتية فيهما، وقرأ اليماني بالفوقية في الأول والتحتية في الثاني، وقرأ أبو حيوة تأسرون بضم السين. وقد حكى الفراء حكسر السين وضمها فهما لغتان، ووجه تقديم مفعول الفعل الأول وتأخير مفعول الفعل الثاني أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل، كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة. وقيل ستمائة، وقيل سبعمائة، وقيل ثمانمائة، وقيل تسعمائة، وكان المأسرون سبعمائة، وقيل سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة.
26- "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب"، أي: عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهم بنو قريظة، "من صياصيهم"، حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من الخندق إلى المدينة، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجراً بعمامة من استبرق على بلغة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه، فقال: قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم.
وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه وعن فرسه، فقال: إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهد إليهم، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً فأذن: أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم، وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لم، أظنك سمعت لي منهم أذىً؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً.
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟.
قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال هل مر بكم أحد؟ فقالوا: نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال عليه السلام: ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب.
وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده.
فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا؟ أما من قد عملت فصابهم من المسخ ما لم يخف عليك؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازماً؟ قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم، فقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، قالوا: ماذا يفعل بنا إذا نزلنا؟ فأشار بيده إلى حلقة أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة أبداً، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقلت مما تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ فقال: بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى الصبح أطلقه، ثم قال: إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أغدر بمحمد أبداً، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين يذهب من أرض الله، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه. وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين يذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة، والله أعلم. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب، فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن علمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقاً ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالاً وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب: أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وإن من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتى حيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضرب عنقه.
وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانه قالت/: أنا والله قلت: ويلك مالك؟ قالت: أقتل، قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضرب عنقها، وكانت عائشة تقول: ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل. قال الواقدي: وكان اسم تلك المرأة شبابة، امرأة الحكم القرظي كانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فضرب عنقها بخلاد بن سويد، قال: وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هنالك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، قال: ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك فأتاه فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهله وماله؟ قال: هم لك فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك قال: أهل بيت الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماله يا رسول الله؟ قال: هو لك، قال: فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك، فقال: أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد، قال: قتل، قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموئيل؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة؟ قال: ذهبوا وقتلوا، قال: فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير، فما انا بصابر لله فترة دلو نضح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم، ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً وكان أول فيء وقع فيه السهمان، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلاً وسلاحاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك.
فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال: اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد، قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله تعالى: "رحماء بينهم" (الفتح-29)، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا إسرائيل، سمعت أبا إسحاق يقول، سمعت سليمان بن صرد يقول، "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه: الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا قتيبة، أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده".
قال الله تعالى في قصة قريظة: "وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون"، وهم الرجال، يقال: كانوا ستمائة، "وتأسرون فريقاً"، وهم النساء والذراري، يقال: كانوا سبعمائة وخمسين، ويقال: تسعمائة.
26 -" وأنزل الذين ظاهروهم " ظاهروا الأحزاب . " من أهل الكتاب " يعني قريظة . " من صياصيهم " من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك . " وقذف في قلوبهم الرعب " الخوف وقرئ بالضم . " فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً " وقرئ بضم السين روي : " أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لأمتك والملائكة لم يضعوا السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم إحدى وعشرون أو خمساً وعشرون حتى جهدهم الحصار فقال لهم : تنزلون على حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرفضوا به ، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة .
26. And He brought those of the People of the Scripture who supported them down from their strongholds, and cast panic into their hearts. Some ye slew, and ye made captive some.
26 - And those of the people of the Book who aided them God did take them down from their strongholds and cast terror into their hearts, (so that) some ye slew, and some ye made prisoners.