[السجدة : 16] تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
16 - (تتجافى جنوبهم) ترتفع (عن المضاجع) مواضع الاضطجاع بفرشها لصلاتهم بالليل تهجدا (يدعون ربهم خوفا) من عقابه (وطمعا) في رحمته (ومما رزقناهم ينفقون) يتصدقون
ك أخرج البزار عن بلال قال كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت هذه الآية تتجافى جنوبهم عن المضاجع وفي إسناده عبد الله ابن شبيب ضعيف
وأخرج الترمذي وصححه أنس ان هذه الآية تتجافى جنوبهم عن المضاجع نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة
يقول تعالى ذكره: تتنحى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمناهم، ولا ينامون " يدعون ربهم خوفا وطمعا " في عفوه عنهم، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته " ومما رزقناهم ينفقون " في سبيل الله، ويؤدون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه. وتتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء: النبو، كما قال الراجز:
وصاحبي ذات هباب دمشق وابن ملاط متجاف أرفق
يعني: أن كرمها سجية عن ابن ملاط، وإنما وصفهم تعالى ذكره بتجافي جنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلاً بالصلاة.
واختلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جل ثناؤه، أن جنوبهم تتجافى لها عن المضطجع، فقال بعضهم: هي الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال: نزلت هذه الآية في قوم كانوا يصلون في ذلك الوقت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي عروبة، قال: قال قتادة، قال أنس، في قوله ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) ( الذاريات: 17) قال: كانوا يتنقلون فيما بين المغرب والعشاء، وكذلك تتجافى جنوبهم.
قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، في قوله " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: يصلون ما بين هاتين الصلاتين.
حدثني علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا حفص بن غياث، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: ما بين المغرب والعشاء.
حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا زيد بن حيان، قال: ثنا الحارث بن وجيه الراسبي، قال: ثنا مالك بن دينار، عن أنس بن مالك، أن هذه الآية نزلت في رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء " تتجافى جنوبهم عن المضاجع ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: كانوا يتطوعون فيما بين المغرب والعشاء.
قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن أنس " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: ما بين المغرب والعشاء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: كانوا يتنفلون ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.
وقال آخرون: عني بها صلاة المغرب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن طلحة، عن عطاء " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: عن العتمة.
وذكر عن حجاج، عن ابن جريج، قال: قال يحيى بن صيفي، عن أبي سلمة، قال: العتمة.
وقال آخرون: لانتظار صلاة العتمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد اله الأويسي، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك، أن هذه الآية " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.
وقال آخرون: عني بها قيام الليل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: قيام الليل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: هؤلاء المتهجدون لصلاة الليل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " يقومون يصلون من الليل.
وقال آخرون: إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا " وهم قوم لا يزالون يذكرون الله، إما في صلاة، وإما قياماً، وإما قعوداً، وإما إذا استيقظوا من منامهم، هم قوم لا يزالون يذكرون الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " ... إلى آخر الآية، يقول: تتجافى لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله، إما في الصلاة، وإما في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، فهم لا يزالون يذكرون الله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم شغلاً منهم بدعاء ربهم وعبادتهم خوفاً وطعماً، وذلك نبو جنوبهم عن المضاجع ليلاً، لأن المعروف من وصف الواصف رجلاً بأن جنبه نبا عن مضجعه، إنما هو وصف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف، وذلك الليل دون النهار، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك، يدل على ذلك قول عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه في صفة نبي الله صلى الله عليه وسلم:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالاً ووقتاً دون حال ووقت، كان واجباً أن يكون ذلك على كل آناء الليل وأوقاته. وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء، أن انتظر العشاء الآخرة، أو قام الليل أو بعضه، أو ذكر الله في ساعات الليل، أو صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي قام فيها للصلاة قائماً صلى أو ذكر الله، أو قاعداً بعد أن لا يكون مضطجعاً وهو على القيام أو القعود قادر، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن توجيه الكلام إلى أنه معني به قيام الليل أعجب إلي، لأن ذلك أظهر معانيه، والأغلب على ظاهر الكلام، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك ما حدثنا به ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام العبد في جوف الليل وتلا هذه الآية " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون " ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو أسامة، عن سليمان، عن حبيب بن أبي ثابت والحكم، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا آدم، ثنا سفيان، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن الحكم بن عتيبة، عن ميمون بن أبي شبيب، " عن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يزيد بن حيان، عن حماد بن سلمة، قال: ثنا عاصم بن أبي النجود، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله: " " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " قال: قيام العبد من الليل ".
حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، قال: ثني أبي، قال: ثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت، عن مجاهد، " قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل، ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه، فقال " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " ".
وأما قوله " يدعون ربهم خوفا وطمعا " ... الآية، فإن بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون " قال: خوفاً من عذاب الله، وطمعاً في رحمة الله، ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله، وفي سبيله.
قوله تعالى: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" أي ترفع وتنبو عن مواضع الاضطجاع. وهو في موضع نصب على الحال، أي متجافية جنوبهم. والمضاجع جمع مضجع، وهي موضع النوم. ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز، والحقيقة أولى. ومنه قول عبد الله بن رواحة:
وفينـا رسـول الله يتلو كتابـه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافـي جنبه عن فراشـه إذا استثقلت بالمشركيـن المضاجع
قال الزجاج والرماني: التجافي التنحي إلى جهة فوق. وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه. والجنوب جمع جنب. وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله تعالى، إما في صلاة وإما في غير صلاة، قاله ابن عباس و الضحاك. الثاني: للصلاة. وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدهما: التنقل بالليل، قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وهو قول مجاهد والأوزاعي ومالك بن أنس والحسن وأبي الحسن وأبي العالية وغيرهم. ويدل عليه قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" لأنهم جوزوا على أخفوا بما خفي. والله أعلم. وسيأتي بيانه.
وفي قيام الليل أحاديث كثيرة، منها حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل - قال ثم تلا - "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" - حتى بلغ - "يعلمون" " أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح. الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها العتمة، قاله الحسن وعطاء. وفي الترمذي.
عن أنس بن مالك أن هذه الآية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة قال: هذا حديث حسن غريب. الثالث: التنقل ما بين المغرب والعشاء، قاله قتادة وعكرمة. وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون" قال: كانوا يتنقلون ما بين المغرب والعشاء. الرابع: قالالضحاك: تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة. وقاله أبو الدرداء وعبادة.
قلت: وهذا قول حسن، وهو يجمع الأقوال بالمعنى، وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكر لله جل وعز، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة". وقال أنس: المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل. قال ابن عطية: وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء غريباً شاقاً. ومصلي الصبح في جماعة لا سيما في أول الوقت ،كما كان عليه السلام يصليها. والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أو أول الوقت يقوم سحراً يتوضأ ويصلي ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر، فقد حصل التجافي أول الليل وآخره. يزيد هذا ما رواه مسلم عن حديث عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله" ولفظ الترمذي وأبي داود في هذا الحديث: من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة. وقد مضى في سورة النور عن كعب فيمن صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات كن له بمنزلة ليلة القدر.
وجاءت آثار حسان في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء وقيام الليل. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني محمد بن الحجاج أو ابن أبي الحجاج أنه سمع عبد الكريم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة" فقال له عمر بن الخطاب: إذا تكثر قصورنا وبيوتنا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر وأفضل - أو قال - أطيب. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:صلاة الأولبين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى تثوب الناس إلى الصلاة. وكان عبد الله بن مسعود يصلي في تلك الساعة ويقول: صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء، ذكره ابن المبارك. ورواه الثعلبي مرفوعاً عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جفت جنباه عن المضاجع ما بين المغرب والعشاء بني له قصران في الجنة مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلها أهل المشرق والمغرب لأوسعتهم فاكهة". وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء بين المغرب والعشاء .
فصل في فضل التجافي: ذكر ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقيمون فيسرحون إلى الجنة. ثم ينادي ثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع "يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون" . قال: فيقومون إلى الجنة. قال: ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الذين كانوا "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار"، فيقومون فيسرحون إلى الجنة. ذكره الثعلبي مرفوعاً عن أسماء بنت يزيد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت تسمعوه الخلاق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم ينادي الثانية ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون، ثم ينادي الثالثة ستعلمون اليوم من أولى بالكرم لقيم الحامدون لله على كل حال في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعاً إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس". وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن رجل عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي ذر قال: ثلاثة يضحك الله إليهم ويستبشر الله بهم: رجل قام من الليل وترك فراشه ودفئه، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله لملائكته: ما حمل عبدي على ما صنع، فيقولون: ربنا أنت أعلم به منا، فيقول: أنا أعلم به ولكن أخبروني فيقولون: رجيته شيئاً فرجاه وخوفته فخافه. فيقول: أشهدكم أني قد أمنته مما خاف وأوجبت له ما رجاه قال: ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزم أصحابه وثبت هو حتى يقتل أو يفتح الله عليهم، فيقول الله لملائكته مثل هذه القصة. ورجل سرى في ليلة حتى إذا كان في آخر الليل نزل هو وأصحابه، فنام أصحابه وقام هو يصلي، فيقول الله لملائكته .... وذكر القصة.
قوله تعالى: "يدعون ربهم" في موضع نصب على الحال، أي داعين. ويحتمل أن تكون صفة مستأنفة، أي تتجافى جنوبهم وهم أيضاً في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم. و"خوفا" مفعول من أجله. ويجوز أن يكون مصدراً. "وطمعا" مثله، أي خوفاً من العذاب وطمعاً في الثواب. "ومما رزقناهم ينفقون" تكون ما بمعنى الذي وتكون مصدراً، وفي كلا الوجهين يجب أن يكون منفصلة من ينفقون قيل: معناه الزكاة المفروضة. وقيل: النوافل، وهذا القوم أمدح.
يقول تعالى: "إنما يؤمن بآياتنا" أي إنما يصدق بها "الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً" أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً "وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون" أي عن أتباعهم والانقياد لها كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة, قال الله تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" ثم قال تعالى: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والإضطجاع على الفرش الوطيئة, قال مجاهد والحسن في قوله تعالى: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" يعني بذلك قيام الليل. وعن أنس وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة : هو الصلاة بين العشاءين, وعن أنس أيضاً: هو انتظار صلاة العتمة. ورواه ابن جرير بإسناد جيد. وقال الضحاك : هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة "يدعون ربهم خوفاً وطمعاً" أي خوفاً من وبال عقابه وطمعاً في جزيل ثوابه "ومما رزقناهم ينفقون" فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية, ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والاخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى, فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة , أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول: ربنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي, ثار من فراشه ووطائه من حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا, فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع, فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه". وهكذا رواه أبو داود في الجهاد عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به بنحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار, قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه, تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت ـ ثم قال: ـ ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة, والصدقة تطفيء الخطيئة, وصلاة الرجل في جوف الليل ـ ثم قرأ ـ "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" حتى بلغ " جزاء بما كانوا يعملون " ثم قال ـ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ـ فقلت: بلى يارسول الله فقال: ـ رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروه سنامه الجهاد في سبيل الله ـ ثم قال ـ: ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ فقلت: بلى يا نبي الله, فأخذ بلسانه ثم قال :كف عليك هذا. فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به, فقال :ثكلتك أمك يا معاذ , وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم" ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم من طرق عن معمر به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
ورواه ابن جرير من حديث شعبة عن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة, وقيام العبد في جوف الليل" وتلا هذه الاية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون" ورواه أيضاً من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم , عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ومن حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت , و الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعاً بنحوه. ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر , عن معاذ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" قال "قيام العبد من الليل".
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون , حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي لله في غزوة تبوك فقال "إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصوم جنة, والصدقة تطفىء الخطيئة, وقيام الرجل في جوف الليل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" " الاية, ثم قال: حدثنا أبي , حدثنا سويد بن سعيد , حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الأولين والاخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم, ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" ـ الاية ـ فيقومون وهم قليل".
وقال البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب , حدثنا الوليد بن العطاء بن الأغر , حدثنا عبد الحميد بن سليمان , حدثني مصعب عن زيد بن أسلم عن أبيه , قال: قال بلال : لما نزلت هذه الاية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الاية, كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء, فنزلت هذه الاية "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" ثم قال: لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه, وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق.
وقوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" الاية, أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد, لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب, جزاء وفاقاً, فإن الجزاء من جنس العمل قال الحسن البصري : أخفى قوم عملهم, فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر, رواه ابن أبي حاتم.
قال البخاري قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" الاية, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" قال: وحدثنا سفيان , حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال الله مثله. قيل لسفيان رواية, قال: فأي شيء ؟ ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الترمذي : حسن صحيح, ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر , حدثنا أبو أسامة عن الأعمش , حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر ذخراً من بله ما اطلعتم عليه" ثم قرأ "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح : قرأ أبو هريرة " قرة أعين " انفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق , قال: ورواه الترمذي في التفسير, و ابن جرير من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله, ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال حماد بن سلمة عن ثابت بن أبي رافع , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حماد : أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وروى الإمام أحمد : حدثنا هارون , حدثنا ابن وهب , حدثني أبو صخر أن أبا حازم حدثه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى, ثم قال في آخر حديثه "فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" ثم قرأ هذه الاية " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد , كلاهما عن ابن وهب به وقال ابن جرير : حدثني العباس بن أبي طالب , حدثنا معلى بن أسد , حدثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد الخدري , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل قال: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر " لم يخرجوه. وقال مسلم أيضاً في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر وغيره, حدثنا سفيان , حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن سعيد , سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال: " سمعته على المنبر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل: ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة, فيقال له: ادخل الجنة, فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب, فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله, ومثله فقال في الخامسة, رضيت رضيت ربي, فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله, ولك ما اشتهت ولذت عينك, فيقول: رضيت رب, قال: رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها, فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر, قال: ومصداقه من كتاب الله عز وجل "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" " الاية, ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر وقال: حسن صحيح. قال: ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة ولم يرفعه, والمرفوع أصح.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير المدائني , حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد , حدثنا زياد بن خيثمة عن محمد بن جحادة عن عامر بن عبد الواحد قال, بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا من المزيد, فيمكث معها سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول له: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا التي قال الله "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين".
وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات, معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم, وذلك قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" ويخبرون أن الله عنهم راض. وروى ابن جرير : حدثنا سهل بن موسى الرازي , حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أبي اليمان الهوزني أو غيره, قال: الجنة مائة درجة, أولها درجة فضة, وأرضها فضة, ومساكنها فضة, وآنيتها فضة, وترابها المسك, والثانية ذهب, وأرضها ذهب, ومساكنها ذهب, وآنيتها ذهب, وترابها المسك, والثالثة لؤلؤ, وأرضها لؤلؤ, ومساكنها اللؤلؤ, وآنيتها اللؤلؤ, وترابها المسك, وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم تلا هذه الاية "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم" الاية.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم , حدثنا معتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين قال "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ينقص بعضها من بعض, فإن بقيت حسنة واحدة وسع الله له في الجنة " , قال: فدخلت على بزداد فحدث بمثل هذا الحديث, قال: فقلت فأين ذهبت الحسنة ؟ قال "أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم" الاية, قلت: قوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" قال: العبد يعمل سراً أسره إلى لله لم يعلم به الناس, فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين.
16- "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" أي ترتفع وتنبو يقال: جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه: إذا لم يلزمه ونبا عنه، والمضاجع جمع المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع فيه. قال الزجاج والرماني: التجافي والتجفي إلى جهة فوق، وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه، والجنوب جمع جنب، والجملة في محل نصب على الحال: أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور، والمراد بالصلاة صلاة التنفل بالليل من غير تقييد. وقال قتادة وعكرمة: هو التنفل ما بين المغرب والعشاء، وقيل صلاة العشاء فقط، وهو رواية عن الحسن وعطاء. وقال الضحاك: صلاة العشاء والصبح في جماعة، وقيل هم الذين يقومون لذكر الله سواء كان في صلاة أو غيرها "يدعون ربهم خوفاً وطمعاً" هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضاً من الضمير الذي في جنوبهم فهي حال بعد حال، ويجوز أن تكون الجملة الأولى مستأنفة لبيان نوع من أنواع طاعاتهم، والمعنى: تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته "ومما رزقناهم ينفقون" أي من الذي رزقناهم أو من رزقهم، وذلك الصدقة الواجبة، وقيل صدقة النفل، والأولى الحمل على العموم، وانتصاب خوفاً وطمعاً على العلة، ويجوز أن يكون مصدرين منتصبين بمقدر.
16- "تتجافى"، ترتفع وتنبو، "جنوبهم عن المضاجع"، جمع مضجع، وهو الموضع الذي يضطجع عليه، يعني الفرش، وهم المتهجدون بالليل، الذين يقومون للصلاة.
واختلفوا في المراد بهذه الآية، قال أنس: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس أيضاً قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر، وقالا: هي صلاة الأوابين.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء، وهي صلاة الأوابين.
وقال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة.
وعن أبي الدرداء، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم: هم الذين يصلون العشاء الآخرة والفجر في جماعة.
وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً".
وأشهر الأقاويل أن المراد منه: صلاة الليل، وهو قول الحسن، ومجاهد، ومالك، والأوزاعي وجماعة.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، "عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرنا فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: قد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" حتى بلغ "جزاء بما كانوا يعملون"، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، قال: فأخذ بلسانه فقال: اكفف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم".
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد المخلدي، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حمد بن زنجويه، أخبرنا أبو عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا روح بن أسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبةً فيما عندي وشفقاً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم معه أصحابه، فعلم ما عليه في الإنهزام وما له في الرجوع، فرجع فقاتل حتى أهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي حتى أهريق دمه".
أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن معانق، عن أبي مالك الأشعري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إصبغ، أخبرني عبد الله بن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرنا الهيثم بن أبي سنان، أخبرني أنه سمع أبا هريرة في قصصه يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "إن أخاً لكم لا يقول الرفث، يعني بذلك عبد الله بن رواحة"، قال:
وفينا رسـول الله يتلـو كتـابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا بــه مـوقنــات أن مـا قــال واقــع
يبيت يجافي جنبـه عـن فراشـه إذا اسـتثقلت بالكـافريـن المضاجع
قوله عز وجل: "يدعون ربهم خوفاً وطمعاً"، قال ابن عباس: خوفاً من النار وطمعاً في الجنة، "ومما رزقناهم ينفقون"، قيل: أراد به الصدقة المفروضة. وقيل: عام في الواجب والتطوع.
16ـ " تتجافى جنوبهم " ترتفع وتتنحى . " عن المضاجع " الفرش ومواضع النوم . " يدعون ربهم " داعين إياه . " خوفاً " من سخطه . " وطمعاً " في رحمته . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قيام العبد من الليل " . " وعنه عليه الصلاة والسلام إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعاً إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس " وقيل كان أناس من الصحابة يصلون المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم . " ومما رزقناهم ينفقون " في وجوه الخير .
16. Who forsake their beds to cry unto their Lord in fear and hope, and spend of what we have bestowed on them.
16 - Their limbs do forsake their beds of sleep, the while they call on their Lord, in Fear and Hope: and they spend (in charity) out of the sustenance which we have bestowed on them.