[الروم : 30] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
30 - (فأقم) يا محمد (وجهك للدين حنيفا) مائلا إليه أي أخلص دينك لله أنت ومن تبعك (فطرة الله) خلقته (التي فطر الناس عليها) وهي دينه أي ألزموها (لا تبديل لخلق الله) لدينه أي لا تبدلوه بأن تشركوا (ذلك الدين القيم) المستقيم توحيد الله (ولكن أكثر الناس) كفار مكة (لا يعلمون) توحيد الله
يقول تعالى ذكره: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته، وهي الدين حنيفاً، يقول: مستقيماً لدينه وطاعته، فطرة الله التي فطر الناس عليها، يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها، ونصبت فطرة على المصدر من معنى قوله " فأقم وجهك للدين حنيفا " وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " فطرة الله التي فطر الناس عليها " قال: الإسلام مذ خلقهم الله من آدم جميعاً، يقرون بذلك، وقرأ ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) ( الأعراف: 172) قال: فهذا قول الله ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين) ( البقرة: 213) بعد.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال، ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " فطرة الله " قال: الإسلام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن أبي صالح، عن يزيد بن أبي مريم، قال: مر عمر بمعاذ بن جبل، فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص، وهو الفطرة " فطرة الله التي فطر الناس عليها " والصلاة وهي الملة والطاعة، وهي العصمة، فقال عمر: صدقت.
حدثني يعقوب، قال: ثني ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ: ما قوام هذه الأمة؟ ثم ذكر نحوه.
وقوله " لا تبديل لخلق الله " يقول: لا تغيير لدين الله: أي لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يفعل.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " لا تبديل لخلق الله " قال: لدينه.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله " لا تبديل لخلق الله " إنما هو الدين، وقرأ " لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن حباب، عن حسين بن واقد، ع يزيد النحوي، عن عكرمة " فطرة الله التي فطر الناس عليها " قال: الإسلام.
قال: ثني أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة " لا تبديل لخلق الله " قال: لدين الله.
قال: ثني أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: لدين الله.
قال: ثنا أبي، عن عبد الجبار بن الورد، عن القاسم بن أبي بزة، قال: قال مجاهد، فسل عنها عكرمة، فسألته، فقال عكرمة: دين الله تعالى ماله أخزاه الله؟ ألم يسمع إلى قوله " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله "؟.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " لا تبديل لخلق الله " أي لدين الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن عكرمة، قال: لدين الله.
قال: ثنا ابن عيينة، عن حميد الأعرج، قال: قال سعيد بن جبير " لا تبديل لخلق الله " قال: لدين الله.
قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك " لا تبديل لخلق الله " قال: لدين الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " لا تبديل لخلق الله " قال: دين الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن مسعر وسفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، قال " لا تبديل لخلق الله " قال: لدين الله.
قال: ثنا أبي عن جعفر الرازي، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لدين الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تغيير لخلق الله من البهائم بأن يخصي الفحول منها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن رجل، سأل ابن عباس عن خصاء البهائم، فكرهه، وقال " لا تبديل لخلق الله ".
قال: ثنا ابن عيينة، عن حميد الأعرج، قال: قال عكرمة: الإخصاء.
قال: ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن مجاهد، قال: الإخصاء.
وقوله " ذلك الدين القيم " يقول تعالى ذكره: إن إقامتك وجهك للدين حنيفاً غير مغير ولا مبدل هو الدين القيم، يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة.
وقد وجه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة " ذلك الدين القيم " قال: الحساب القيم " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي " فأقم وجهك للدين حنيفا " هو الدين الحق دون سائر الأديان غيره.
قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله" فيه ثلاث مسائل: الأولى: قال الزجاج: فطرة منصوب بمعنى ابتع فطرة الله. قال: لأن معنى فأقم وجهك للدين ابتع الدين الحنيف وابتع فطرة الله. وقال الطبري: فطرة الله مصدر من معنى فأقم وجهك لأن معنى ذلك: فطر الناس على ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك ابتعوا دين الله الذي خلق الناس له، وعلى هذا القول يكون الوقف على حنيفاً تاماً. وعلى القولين الأولين يكون متصلاً، فلا يوقف على حنيفاً. وسميت الفطرة ديناً لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الذريات: 56 . ويقال: عليها بمعنى لها، كقوله تعالى: "وإن أسأتم فلها" الإسراء:7 والخطاب بـ أقم وجهك للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم، كما قال: "فأقم وجهك للدين القيم" الروم: 43 وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. وحنيفاً معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
الثانية: في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبوه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كمنا تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة: وأقرؤوا إن شئتم، "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" في رواية: حتى تكونوا أنتم تجدعونها قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيراً ؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين". لفظ مسلم.
الثالثة: واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكرة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة، منها الإسلام، قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما، قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل، واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوماً: ألا احدثكم بما حدثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم الله حلالاً وحراماً.... الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة ..... فذكر منها قص الشارب" ، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأميل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة، أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء،وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر: المبتدئ، واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعربيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأئها. قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم . ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قوله تعالى: "فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة" الأعراف:30 قال : من ابتداء الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.
قلت: قد مضى قول كعب هذا في الأعراف وجاء معناه مرفوعاً من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبي لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه! قال: أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم "خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً... "وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن. وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: "فطر الناس عليها" ولا قوله عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة" العموم، وإنما المراد بالناس المؤمنون، إذ لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواماً للنار، كما قال تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم" الأعراف:179 وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر، طبع يوم طبع كافراً. وروى أبو سعيد الخدري قال:صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار، وفيه: وكان فيما حفظنا أن قال: "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب" ذكره حماد بن سلمة في مسند الطيالسي قال حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب، ألا ترى إلى قوله عز وجل: "تدمر كل شيء" الأحقاف: 25 ولم تدمر السماوات والأرض. وقوله: "فتحنا عليهم أبواب كل شيء" الأنعام:44 ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة. وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي : تم الكلام عند قوله: "فأقم وجهك للدين حنيفا" ثم قال: "فطرة الله" أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كل مولود يولد على الفطرة" ولهذا قال: "لا تبديل لخلق الله" قال شيخنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن، لأن الله تعالى قال: "لا تبديل لخلق الله" وأما في الحديث فلا، لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التيت خلق عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق، لقول لله عز وجل: "الحمد لله فاطر السماوات والأرض" فاطر:1 يعني خالقهن، وبقوله: "وما لي لا أعبد الذي فطرني" يس:24 يعني خلقي، وبقوله: "الذي فطرهن" الأنبياء:56 يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق، وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار. قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلفة وطبعاً وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعنى سالمة - هل تحسون فيها نم جدعاء" يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شئ من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبداً، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفراً أو إيماناً، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئاً، قال الله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا" النحل:78 فمن لا يعلم شيئاً استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضاً في هذا قوله تعالى: "إنما تجزون ما كنتم تعملون" الطور:16 و "كل نفس بما كسبت رهينة" المدثر:38 ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال:"وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" الإسراء:15 ولما أجمعوا على دفع القود و القصاص والحدود والأثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكرة الإسلام، كما قال ابن شهاب، لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجري عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال: نعم، لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام، فأما أجزى عتقه عند من أجازه، لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى، وليس في قوله تعالى: "كما بدأكم تعودون" الأعراف:29 ولا في أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه - دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمناً أو كافراً، لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيماناً ولا كفراً، والحديث الذي جاء فيه: أن الناس خلقوا على طبقات ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها، لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يتحمل قوله: يولد مؤمناً أي يولد ليكون مؤمناً، ويولد ليكون كافراً على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث: دخلت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار أكثر من مراعاة ما يختم به لهم، لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو ناراً، أو يعقل كفراً أو إيماناً.
قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا ابن العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو يصرانه" فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليماً من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملاً بريئاً من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار، فلما علمت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يميناً وشمالاً، وأنهم إن ماتوا صغاراً فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربربية وهو قوله تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" الأعراف:172. ثم أعادهم في صلب آدم أن أقروا له بالربوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقياً أو سعيداً على الكتاب الأول، فمن كان في الكتاب الأول شقياً عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيداً عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيداً، ومن مات صغيراً من أولاده المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق. ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضاً حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قوله عليه السلام: "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة. قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : وأولاد المشركين ". وهذا نص يرفع الخلاف، وهو أصح شئ روي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء، قاله أبو عمر بن عبد البر . وقد روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: " لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة" ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بياناً في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله. وذكره إسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو متقارباً - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام ؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق فطرة الله التي فطر الناس عليها هي الفقر والفاقة، وهذا حسن، فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم! وفي الآخرة.
قوله تعالى: "لا تبديل لخلق الله" أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجئ الأمر على خلاف هذا بوجه، أي لا يشقى من خلفه سعيداً. ولا يسعد من خلقه شقياً. وقال مجاهد: المعنى: لا تبديل لدين الله، وقاله قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها، فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في النساء. "ذلك الدين القيم" أي ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البين. وقيل: ذلك الدين القيم أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً، وإلهاً قديماً سبق قضاؤه ونقد حكمه.
يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم, الذي هداك الله لها وكملها لك غاية الكمال, وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها, فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره, كما تقدم عند قوله تعالى: "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى". وفي الحديث "إني خلقت عبادي حنفاء, فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام, ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقوله تعالى: "لا تبديل لخلق الله" قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها, فيكون خبراً بمعنى الطلب, كقوله تعالى: "ومن دخله كان آمنا" وهو معنى حسن صحيح, وقال آخرون: هو خبر على بابه ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة, لا يولد أحد إلا على ذلك, ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله "لا تبديل لخلق الله" أي لدين الله, وقال البخاري : قوله "لا تبديل لخلق الله" لدين الله, خلق الأولين دين الأولين, الدين والفطرة الإسلام.
حدثنا عبدان : أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري , أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء ؟" ثم يقول "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به, وأخرجاه أيضاً من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة, فمنهم الأسود بن سريع التميمي .
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل , حدثنا يونس عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظهراً, فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ فقال رجل: يا رسول الله أما هم أبناء المشركين ؟ فقال:لا إنما خياركم أبناء المشركين ـ ثم قال ـ لا تقتلوا ذرية, لاتقتلوا ذرية ـ وقال ـ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها, فأبواها يهودانها أو ينصرانها" ورواه النسائي في كتاب السير عن زياد بن أيوب عن هشيم , عن يونس وهو ابن عبيد بن الحسن البصري به.
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري . قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم , حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه, فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً".
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي . قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة , حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين, فقال :الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم" أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً بذلك.
وقد قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عفان حدثنا حماد يعني ابن سلمة , أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: أتى علي زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين, وأولاد المشركين مع المشركين, حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم, فقال "الله أعلم بما كانوا عاملين". قال: فلقيت الرجل فأخبرني, فأمسكت عن قولي.
ومنهم عياض بن حمار المجاشعي . قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد , حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم, فقال في خطبته إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال, وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم, وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم, وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا, ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب, وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك, وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرؤه نائماً ويقظان: ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً, فقلت: يارب إذاً يثلغ رأسي فيدعه خبزة, قال: استخرجهم كما استخرجوك, واغزهم نغزك, وأنفق عليهم فسننفق عليك, وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله, وقاتل بمن أطاعك من عصاك ـ قال ـ: وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق, ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم, ورجل عفيف فقير متصدق وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً, والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخيل أو الكذاب والشنظير: الفحاش. انفرد بإخراجه مسلم , فرواه من طرق عن قتادة به.
وقوله تعالى: "ذلك الدين القيم" أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس, فهم عنه ناكبون, كما قال تعالى: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" وقال تعالى: "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" الاية. وقوله تعالى: "منيبين إليه" قال ابن زيد وابن جريج : أي راجعين إليه. "واتقوه" أي خافوه وراقبوه, "وأقيموا الصلاة" وهي الطاعة العظيمة, "ولا تكونوا من المشركين" أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه. قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح , حدثنا يوسف بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال: مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ : ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها, والصلاة وهي الملة, والطاعة وهي العصمة, فقال عمر : صدقت. حدثني يعقوب , حدثنا ابن علية , حدثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر رضي الله عنه قال لمعاذ : ما قوام هذا الأمر ؟ فذكر نحوه.
وقوله تعالى: "من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون" أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه, وآمنوا ببعض وكفروا ببعض, وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم, أي تركوه وراء ظهورهم, وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام, كما قال تعالى: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله" الاية, فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة, وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء, وهذه لأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة, المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه, كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم فقال "ما أنا عليه وأصحابي".
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال: 30- "فأقم وجهك للدين حنيفاً" شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه وإقباله عليه، وانتصاب حنيفاً على الحال من فاعل أقم أو من مفعوله: أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة " فطرة الله التي فطر الناس عليها " الفطرة في الأصل: الخلقة، والمراد بها هنا الملة، وهي الإسلام والتوحيد. قال الواحدي: هذا قول المفسرين في نصرة الله، والمراد بالناس هنا: الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله فأمته داخلة معه فيه. قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل: والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة". وفي رواية "على هذه الملة، ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟"ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ". وفي رواية حتى تكونوا أنتم تجدعونها. وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضداً لحديث أبي هريرة هذا، فكل فرد من أفراد الناس مفطور: أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين وهو الحق. والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف. وقال آخرون: هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة. والفاطر في كلام العرب هو المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة وإهمال معناها شرعاً. والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها المعنى اللغوي كقوله تعالى: "الحمد لله فاطر السموات والأرض" أي خالقهما ومبتديهما، وكقوله: "وما لي لا أعبد الذي فطرني" إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة وهو ما ذكره الأولون كما بيناه، وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها. وقال الزجاج: فطرة منصوب بمعنى اتبع فطرة الله، قال: لأن معنى "فأقم وجهك للدين" اتبع الدين واتبع فطرة الله. وقال ابن جرير: هي مصدر من معنى فأقم وجهك لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين، وقيل هي منصوبة على الإغراء: أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، ورد هذا الوجه أبو حيان وقال: إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل، فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه وهو إجحاف. وأجيب بأن هذا رأي البصريين، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك وجملة "لا تبديل لخلق الله" تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة: أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه. وقيل هو نفي معناه النهي: أي لا تبدلوا خلق الله. قال مجاهد وإبراهيم النخعي: معناه لا تبديل لدين الله. قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد: هذا في المعتقدات. وقال عكرمة: إن المعنى لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصى فحولها "ذلك الدين القيم" أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم، أو لزوم الفطرة هو الدين القيم "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به.
قوله تعالى: 30- "فأقم وجهك للدين"، أي: أخلص دينك لله، قاله سعيد بن جبير، وإقامة الوجه: إقامة الدين، وقال غيره: سدد عملك. والوجه ما يتوجه إليه الإنسان، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده، "حنيفاً"، مائلاً مستقيماً عليه، "فطرة الله"، دين الله، وهو نصب على الإغراء، أي: إلزم فطرة الله، "التي فطر الناس عليها"، أي: خلق الناس عليها، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة: الدين، وهو الإسلام.
وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين، وهم الذين فطرهم الله على الإسلام:
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يولد يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا/: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين"؟
ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير، وزاد: ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: "فطرة الله التي فطر الناس عليها".
قوله: "من يولد يولد على الفطرة" يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقول: "ألست بربكم قالوا بلى" (الأعراف-172)، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره، قال تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" (الزخرف-87)، وقالوا: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (الزمر-3)، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل، ألا ترى أنه يقول: فأبواه يهودانه؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم". ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي، وحماد بن سلمة.
وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته، أي: على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين، فيحملانه -لشقائه- على اعتقاد دينهما.
وقيل: معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره... ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والمحجة المستقيمة. ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه.
قوله: "لا تبديل لخلق الله" فمن حمل الفطرة على الدين قال: معناه لا تبديل لدين الله، وهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله. قال مجاهد، وإبراهيم: معنى الآية الزموا فطرة الله، أي دين الله، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك "ذلك الدين القيم"، المستقيم، "ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
وقيل: لا تبديل لخلق الله أي: ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة لا يتبدل، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً.
وقال عكرمة ومجاهد: معناه تحريم إخصاء البهائم.
30 -" فأقم وجهك للدين حنيفاً " فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه ، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به . " فطرة الله " خلقته نصب على الإغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها . " التي فطر الناس عليها " خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من آدم وذريته . " لا تبديل لخلق الله " لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير . " ذلك " إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة . " الدين القيم " المستقيم الذي لا عوج فيه . " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " استقامة لعدم تدبرهم .
30. So set thy purpose (O Muhammad) for religion as a man by nature upright the nature (framed) of Allah, in which He hath created man. There is no altering (the laws of) Allah's creation. That is the right religion, but most men know not.
30 - So set thou thy face steadily and truly to the Faith (establish) God's handiwork according to the pattern on which he has made mankind: no change (let there be) in the work (wrought) by God: that is the standard Religion: but most among mankind understand not.