[آل عمران : 97] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
(فيه آيات بينات) منها (مقام إبراهيم) أي الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت فأثر قدماه فيه وبقي إلى الآن مع تطاول الزمان وتداول الأيدي عليه ومنها تضعيف الحسنات فيه وأن الطير لا يعلوه (ومن دخله كان آمنا) لا يتعرض إليه بقتل أو ظلم أو غير ذلك (ولله على الناس حِجُّ البيت) واجب بكسر الحاء وفتحها لغتان في مصدر حج قصد ويبدل من الناس (من استطاع إليه سبيلاً) طريقاً فسَّرَه صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة رواه الحاكم وغيره (ومن كفر) بالله أو بما فرضه من الحج (فإن الله غني عن العالمين) الإنس والجن والملائكة وعن عبادتهم
قوله تعالى ومن كفر فإن الله غني الآية ك أخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال لما نزلت ومن يبتغ غير الإسلام دينا الآية قالت اليهود فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن الله فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فأنزل الله ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه قرأة الأمصار: "فيه آيات بينات" على جماع آية، بمعنى: فيه علامات بينات.
وقرأ ذلك ابن عباس: فيه آية بينة، يعني بها: مقام إبراهيم ، يراد بها. علامة واحدة.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فيه آيات بينات"، وما تلك الآيات؟ فقال بعضهم: مقام إبراهيم والمشعر الحرام ونحو ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "فيه آيات بينات"، مقام إبراهيم والمشعر.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة ومجاهد: "فيه آيات بينات مقام إبراهيم"، قال: مقام إبراهيم ، من الآيات البينات.
وقال آخرون : الآيات البينات ، مقام إبراهيم . "ومن دخله كان آمنا".
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله: "فيه آيات بينات"، قال: "قام إبراهيم ومن دخله كان آمنا".
وقال آخرون: الآيات البينات، هو مقام إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فيه آيات بينات مقام إبراهيم"، أما الآيات البينات فمقام إبراهيم.
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوا ذلك: فيه آية بينة على التوحيد، فإنهم عنوا بـالآية البينة، مقام إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فيه آية بينة، قال : قدماه في المقام آية بينة. يقول: "ومن دخله كان آمنا"، قال: هذا شيء آخر.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث ، عن مجاهد: فيه آية بينة مقام إبراهيم، قال: أثر قدميه في المقام، آية بينة.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: الآيات البينات، منهن مقام إبراهيم، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما. فيكون الكلام مراداً فيه منهن، فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
فإن قال قائل: فهذا المقام من الآيات البينات ، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل: "آيات بينات"؟
قيل: منهن المقام ، ومنهن الحجر، ومنهن الحطيم.
وأصح القراءتين في ذلك قراءة من قرأه: "فيه آيات بينات" على الجماع، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.
وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل: "مقام إبراهيم"، فقد ذكرناه في سورة البقرة، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك، وأنه عندنا المقام المعروف به.
فتأويل الآية إذاً: إن أول بيت وضع للناس مباركاً وهدىً للعالمين، للذي ببكة، فيه علامات بينات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قدم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قام عليه.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله : الخبر عن أن كل من جر في الجاهلية جريرةً ثم عاذ بالبيت، لم يكن بها مأخوذاً.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ومن دخله كان آمنا"، وهذا كان في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ، ثم لجأ إلى حرم الله، لم يتناول ولم يطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل. وعن قتادة: أن الحسن كان يقول: إن الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حداً في غير الحرم، فلجأ إلى الحرم، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد.
ورأى قتادة ما قاله الحسن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: "ومن دخله كان آمنا"، قال : كان ذلك في الجاهلية.
فأما اليوم، فإن سرق فيه أحد قطع ، وإن قتل فيه قتل ، ولو قدر فيه على المشركين قتلوا.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب قال ، حدثنا خصيف، عن مجاهد -في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم- قال: يؤخذ، فيخرج من الحرم ، ثم يقام عليه الحد. يقول: القتل.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مجاهد.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا هشام، عن الحسن وعطاء -في الرجل يصيب الحد ويلجأ إلى الحرم- يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمناً بها في الجاهلية.
وقال آخرون: معنى ذلك : ومن يدخله يكن آمناً بها ، بمعنى الجزاء ، كنحو قول القائل: من قام لي أكرمته، بمعنى: من يقم لي أكرمه . وقالوا: هذا أمر كان في الجاهلية، كان الحرم مفزع كل خائف ، وملجأ كل جان، لأنه لم يكن يهاج به ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زاده تعظيماً وتكريماً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال ، حدثنا خصيف قال، حدثنا مجاهد قال ، قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحد: قتل أو سرق، فدخل الحرم ، لم يبايع ولم يؤو، حتى يتبرم فيخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد. قال: فقلت لابن عباس: ولكني لا أرى ذلك! أرى أن يؤخذ برمته ، ثم يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد، فإن الحرم لا يزيده إلا شدة.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: أخذ ابن الزبير سعداً مولى معاوية -وكان في قلعة بالطائف- فأرسل إلى ابن عباس من يشاوره فيهم: إنهم لنا عدو. فأرسل إليه ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له . قال: فأرسل إليه ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس : أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟. زاد أبو السائب في حديثه: فأخرجهم فصلبهم، ولم ينظر إلى قول ابن عباس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء، عن ابن عباس قال : من أحدث حدثاً في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له، ولم يبايع ، ولم يكلم ، ولم يؤو، حتى يخرج من الحرم. فإذا خرج من الحرم، أخذ فأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث في الحرم حدثاً أقيم عليه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا إبراهيم بن إسمعيل بن نصر السلمي، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج. فإذا خرج أقاموا عليه الحد.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حجاج، عن عطاء عن ابن عمر قال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم، ما هجته.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن عطاء: أن الوليد بن عتبة أراد أن يقيم الحد في الحرم، فقال له عبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرم، إلا أن يكون أصابه فيه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مطرف، عن عامر قال: إذا أصاب الحد ثم هرب إلى الحرم ، فقد أمن. فإذا أصابه في الحرم، أقيم عليه الحد في الحرم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: من أصاب حداً في الحرم أقيم عليه في الحرم. ومن أصابه خارجاً من الحرم ثم دخل الحرم، لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب قال ، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير. وعن عبد الملك ، عن عطاء بن أبي رباح -في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم- قال: لا يبيعه أهل مكة ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤوونه -عد أشياء كثيرة- حتى يخرج من الحرم، فيؤخذ بذنبه.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : أن الرجل إذا أصاب حداً ثم دخل الحرم، أنه لا يطعم ، ولا يسقى، ولا يؤوى، ولا يكلم ، ولا ينكح ، ولا يبايع. فإذا خرج منه أقيم عليه الحد.
حدثني المثنى قال ، حدثني حجاج قال ، حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا أحدث الرجل حدثاً ثم دخل الحرم ، لم يؤو، ولم يجالس ، ولم يبايع ، ولم يطعم ، ولم يسق ، حتى يخرج من الحرم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: "ومن دخله كان آمنا"، فلو أن رجلاً قتل رجلاً، ثم أتى الكعبة فعاذ بها، ثم لقيه أخو المقتول لم يحل له أبداً أن يقتله.
وقال آخرون: معنى ذلك : ومن دخله يكن آمنا من النار.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا زريق بن مسلم المخزومي قال، حدثنا زياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة في قوله: "ومن دخله كان آمنا"، قال: آمناً من النار.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال: معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذاً به ، كان آمناً ما كان فيه ، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه. وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه.
فتأويل الآية إذاً: فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن يدخله من الناس مستجيراً به، يكن آمناً مما استجار منه ما كان فيه، حتى يخرج منه.
فإن قال قائل : وما منعك من إقامة الحد عليه فيه؟
قيل: لاتفاق جميع السلف على أن من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به، فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه. وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها.
فقال بعضهم: صفة ذلك : منعه المعاني التي يضطر مع منعه وفقده إلى الخروج منه.
وقال آخرون: لا صفة لذلك غير إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي توصل إلى إقامة حد الله عليه معها.
فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحد فيه ، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقام عليه فيه الحد. فكلتا المسألتين أصل مجمع على حكمها على ما وصفنا.
فإن قال لنا قائل: وما دلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت -إذا أتاه مستجيراً به من جريرة جرها. أو من حد أصابه- من الحرم، جائز لإقامة الحد عليه ، وأخذه بالجريرة، وقد أقررت بأن الله عز وجل قد جعل من دخله آمناً، ومعنى، الآمن غير معنى الخائف؟ فبما هما فيه مختلفان؟
قيل: قلنا ذلك ، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، على أن إخراج العائذ به -من جريرة أصابها أو فاحشة أتاها وجبت عليه بها عقوبة منه- ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه، واجب على إمام المسلمين وأهل الإسلام معه.
وإنما اختلفوا في السبب الذي يخرج به منه.
فقال بعضهم: السبب الذي يجوز إخراجه به منه: ترك جميع المسلمين مبايعته وإطعامه وسقيه وإيواءه وكلامه ، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قرار للعائذ به فيه مع بعضها، فكيف مع جميعها؟
وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة، واجب بكل معاني الإخراج.
فلما كان إجماعاً من الجميع على أن حكم الله -فيمن عاذ بالبيت من حد أصابه أو جريرة جرها- إخراجه منه، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه، ثم اختلفوا في السبب الذي يجوز إخراجه به منه. كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأي معنى أمكنهم إخراجه منه، حتى يقيموا عليه الحد الذي لزمه خارجاً منه إذا كان لجأ إليه من خارج، على ما قد بينا قبل.
وبعد، فإن الله عز وجل لم يضع حداً من حدوده عن أحد من خلقه من أجل بقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك، وقد تظاهرت الأخبار "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة".
ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذاً لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبي صلى الله عليه وسلم، يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أن حرم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه، لكان أحق البقاع أن تؤدى فيه فرائض الله التي ألزمها عباده من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلى الله، كحرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم الله لإقامة الحد، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثةً.
فمعنى الكلام -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: ومن دخله كان آمناً ما كان فيه. فإذ كان ذلك كذلك ، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذاً به، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله -على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام- الحج إليه.
وقد بينا فيما مضى معنى الحج، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: "من استطاع إليه سبيلا"، وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج؟
فقال بعضهم: هي الزاد والراحلة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، أخبرنا ابن جريج قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي جناب، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله : "من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والبعير.
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، والسبيل، أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به.
حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي عبد الله البجلي قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: "من استطاع إليه سبيلا"، قال قال ابن عباس: من ملك ثلثمئة درهم فهو السبيل إليه.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن إسحق بن عثمان قال: سمعت عطاء يقول: السبيل، الزاد والراحلة.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "من استطاع إليه سبيلا"، فإن ابن عباس قال: السبيل، راحلة وزاد.
حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: "من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة.
حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، أخبرنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: الزاد والراحلة.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحسن قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، فقال رجل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة".
واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك.
ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث ، عن ابن عمر قال: "قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما السبيل؟ قال : الزاد والراحلة".
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا سفيان، عن إبراهيم الخوزي، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله عز وجل: "من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيل إلى الحج، الزاد والراحلة".
حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا يونس ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن يونس ، عن الحسن قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة".
حدثنا أبو عثمان المقدمي والمثنى بن إبراهيم قالا، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي قال، حدثنا أبو إسحق، عن الحارث، عن علي، "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ملك زاداً وراحلةً تبلغه إلى بيت الله فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً. وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"" الآية.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: بلغنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال له قائل، أو رجل: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: من وجد زاداً وراحلةً".
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال ، حدثنا شاذ بن فياض البصري قال ، حدثنا هلال أبو هاشم، عن أبي إسحق الهمداني، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زاداً وراحلة فلم يحج، مات يهودياً أو نصرانياً. وذلك أن الله يقول في كتابه: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"" الآية.
حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة وحميد، عن الحسن: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة".
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج: الطاقة للوصول إليه. قالوا: وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب ، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه: بامتناع الطريق من العدو الحائل، وبقلة الماء، وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عز وجل، بأن يكون مستطيعاً إليه السبيل، وذلك: الوصول إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإن أعوزه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان، عن خالد بن أبي كريمة، عن رجل ، عن ابن الزبير قوله: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: على قدر القوة.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة. فإن كان شاباً صحيحاً ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله وغفته حتى يقضي حجته به، فقال له قائل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أن لبعضهم ميراثاً بمكة، أكان تاركه؟ والله لانطلق ولو حبواً!! كذلك يجب عليه الحج.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال ، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: من وجد شيئاً يبلغه، فقد وجد سبيلاً، كما قال الله عز وجل: "من استطاع إليه سبيلا".
حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو هانئ قال ، سئل عامر عن هذه الآية: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"؟ قال: السبيل، ما يسره الله.
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي قال ، حدثنا عباد، عن الحسن: من وجد شيئاً يبلغه، فقد استطاع إليه سبيلا.
وقال آخرون: السبيل إلى ذلك، الصحة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثنى بن إبراهيم قالوا، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال ، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا، أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري: أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيل الصحة.
وقال آخرون بما:
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: من وجد قوة في النفقة والجسد والحملان. قال: وإن كان في جسده ما لا يستطيع الحج، فليس عليه الحج، وإن كان له قوة في مال، كما إذا كان صحيح الجسد ولا يجد مالاً ولا قوة، يقولون: لا يكلف أن يمشي.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة. لأن السبيل في كلام العرب: الطريق ، فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدو، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، أو ضعف عن المشي، فعليه فرض الحج، لا يجزيه إلا أداؤه، فإن لم يكن واجداً سبيلاً -أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقاً الحج، بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه- فهو ممن لا يجد إليه طريقاً ولا يستطيعه. لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزاً عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك ، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل.
وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصص، إذ ألزم الناس فرض الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه، فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية.
فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه: الزاد والراحلة، فإنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين.
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة الحج.
فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر: "ولله على الناس حج البيت".
وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح: ولله على الناس حج البيت.
وهما لغتان معروفتان للعرب، فالكسر لغة أهل نجد، والفتح لغة أهل العالية. ولم نر أحداً من أهل العربية ادعى فرقاً بينهما في معنى ولا غيره، غير ما ذكرناه من اختلاف اللغتين، إلا ما:
حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال ، قال حسين الجعفي الحج مفتوح، اسم، والحج مكسور، عمل.
وهذا قول لم أر أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت، من أنهما لغتان بمعنى واحد.
والذي نقول به في قراءة ذلك: أن القراءتين -إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره- فهما قراءتان قد جاءتا مجيء الحجة، فبأي القراءتين -أعني: بكسر الحاء من الحج أو فتحها- قرأ القارئ، فمصيب الصواب في قراءته.
وأما "من" التي مع قوله: "من استطاع"، فإنه في موضع خفض على الإبدال من "الناس" لأن معنى الكلام: ولله على من استطاع من الناس سبيلاً إلى حج البيت، حجه. فلما تقدم ذكر "الناس" قبل "من"، بين بقوله: "من استطاع إليه سبيلا"، الذي عليه فرض ذلك منهم. لأن فرض ذلك على بعض الناس دون جميعهم.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته ، فأنكره وكفر به ، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله ، وعن سائر خلقه من الجن والإنس، كما:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن أبي المجالد قال: سمعت مقسماً، عن ابن عباس في قوله: "ومن كفر"، قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الحجاج، عن عطاء وجويبر، عن الضحاك في قوله: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قالا: من جحد الحج وكفر به.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء قال: من جحد به.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عمران القطان يقول: من زعم أن الحج ليس عليه.
حدثنا محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من أنكره ، ولا يرى أن ذلك عليه حقاً، فذلك كفر.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ومن كفر"، قال: من كفر بالحج.
حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحق بن يوسف، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالحج ، كفر بالله.
حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الحسن في قول الله عز وجل: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر"، قال: من لم يره عليه واجباً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ومن كفر"، قال: بالحج.
وقال آخرون: معنى ذلك : أن لا يكون معتقداً في حجه أن له الأجر عليه، ولا أن عليه بتركه إثماً ولا عقوبةً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، حدثني عبد الله بن مسلم، عن مجاهد في قوله: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: هو ما إن حج لم يره براً، وإن قعد لم يره مأثماً.
حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو ما إن حج لم يره براً، وإن قعد لم يره مأثماً.
حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فطر، عن أبي داود نفيع قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فقام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله ، من تركه كفر؟ قال: من تركه ولا يخاف عقوبته، ومن حج ولا يرجو ثوابه، فهو ذاك".
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، يقول: من كفر بالحج، فلم ير حجه براً، ولا تركه مأثماً.
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن كفر بالله واليوم الآخر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: سألته عن قوله: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، ما هذا الكفر؟ قال : من كفر بالله واليوم الآخر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله "ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: "لما نزلت آية الحج، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فقال: يا أيها الناس ، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجوا، فآمنت به ملة واحدة، وهي من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وكفرت به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله، فأنزل الله عز وجل: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"".
حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو هانئ قال ، سئل عامر عن قوله: "ومن كفر"، قال : من كفر من الخلق ، فإن الله غني عنه.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: "ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا" [آل عمران: 85]، فقالت الملل: نحن مسلمون! فأنزل الله عز وجل: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فحج المؤمنون، وقعد الكفار.
وقال آخرون: معنى ذلك : ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فقرأ: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا"، فقرأ حتى بلغ: "من استطاع إليه سبيلا ومن كفر"، قال: من كفر بهذه الآيات، "فإن الله غني عن العالمين"، ليس كما يقولون: إذا لم يحج وكان غنياً وكانت له قوة، فقد كفر بها. وقال قوم من المشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل! فقال الله عز وجل: "فإن الله غني عن العالمين".
وقال آخرون بما:
حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال، أخبرنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا حماد، عن حبيب بن أبي بقية، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالبيت.
وقال آخرون: كفره به، تركه إياه حتى يموت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "من كفر"، فمن وجد ما يحج به ثم لم يحج، فهو كافر.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قول من قال: معنى "ومن كفر"، ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه، فإن الله غني عنه وعن حجه وعن العالمين جميعاً.
وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله: "ومن كفر"، بعقب قوله: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، بأن يكون خبراً عن الكفار بالحج، أحق منه بأن يكون خبراً عن غيره، مع أن الكافر بفرض الحج على من فرضه الله عليه ، بالله كافر، وأن الكفر أصله الجحود، ومن كان له جاحداً، ولفرضه منكراً، فلا شك إن حج لم يرج بحجه براً، لان تركه فلم يحج لم يره مأثماً. فهذه التأويلات، وإن اختلفت العبارات بها، فمتقاربات المعاني.
الرابعة : قوله تعالى : " فيه آيات بينات " رفع بالابتداء أو بالصفة . وقرأ أهل مكة و ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير < آية بينة > على التوحيد ، يعني مقام إبراهيم وحده . قالوا : أثر قدميه في المقام آية بينة . وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله ، فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام . والباقون بالجمع . أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها . قال أبو جعفر النحاس : من قرأ " آيات بينات " فقرآته أبين ، لأن الصفا والمروة من الآيات ، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحاً ، ومنها أن الجارح يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه ، ومنها أن الغيث أذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن ، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب با لشام ، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى على قدر واحد . والمقام من قولهم : قمت مقاماً ، وهو الموضع الذي يقام فيه . والمقام من قولك : أقمت مقاماً . وقد مضى هذا في البقرة ، ومضى الخلاف أيضاً في المقام والصحيح منه . وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف ، والتقدير منها مقام إبراهيم ، قاله الأخفش . وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال : " مقام " بدل من " آيات " وفيه قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم . وقول الأخفش معروف في كلام العرب . كما قال زهير :
لها متاع وأعوان غدون به قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا
أي مضى وبعد سيلانه . وقول أبي العباس : إن مقاماً بمعنى مقامات ، لأنه مصدر . قال الله تعالى : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " . وقال الشاعر :
إن العيون التي في طرفها مرض
إي في أطرافها . ويقوي هذا الحديث المروي : " الحج كله مقام إبراهيم " .
الخامسة : قوله تعالى : " ومن دخله كان آمنا " قال قتادة : ذلك أيضاً من آيات الحرم . قال النحاس : وهو قول حسن ، لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه ، ولا يصل إليه جبار ، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب ، ولم يوصل إلى الحرم . قال الله تعالى : " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " [ الفيل : 1 ] . وقال بعض أهل المعاني : صورة الآية خبر ومعناها أمر ، تقديرها ومن دخله فأمنوه ، كقوله : " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " [ البقرة : 197 ] أي لاترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا . ولهذا المعنى قال الإمام السابق النعمان بن ثابت : من اقترف ذنباً واستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه ، لقوله تعالى : " ومن دخله كان آمناً " ، فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله . وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس . قال ابن العربي : وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين : أحداهما أنه لم يفهم من الآية أنها خبر عما مضى ، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل ، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها ، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره ، فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا . وقد ناقض أبو حنيفة فقال : إذا لجأ إلى الحرم لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلم حتى يخرج ، فاضطراره إلى الخروج ليس يصح معه أمن . وروي عنه أنه قال : يقع القصاص في الأطراف في الحرم ولا أمن أيضاً مع هذا . والجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم . " وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة " .
قلت : وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس : من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه فيه ، وإن أصابه في الحل ولجأ إلى الحرم لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد ، وهو قول الشعبي . فهذه حجة الكوفيين ، وقد فهم ابن عباس ذلك من معنى الآية ، وهو حبر الأمة وعالمها . والصحيح أنه قصد بذلك تعديد النعم على كل من كان بها جاهلاً ولها منكراً من العرب : كما قال تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " [ العنكبوت : 67 ] ، فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل ، على ما يأتي بيانه في < المائدة > إن شاء الله تعالى . قال قتادة :ومن دخله في الجاهلية كان آمناً . وهذا حسن . وروي أن بعض الملحدة قال لبعض العلماء : أليس في القرآن " ومن دخله كان آمنا " فقد دخلناه وفعلنا كذا وكذا فلم يأمن من كان فيه ! قال له : ألست من العرب ! ما الذي يريد القائل من دخل داري كان آمناً ؟ أليس أن يقول لمن أطاعه : كف عنه أمنته وكففت عنه ؟ قال بلى . قال : فكذلك قوله " ومن دخله كان آمنا " . وقال يحيى بن جعدة : معنى " ومن دخله كان آمنا " يعني من النار .
قلت : وهذا ليس على عمومه ، لأن في صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل : فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم " الحديث . وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظماً له عارفاً بحقه متقرباً إلى الله تعالى . قال جعفر الصادق : من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذابه . وهذا معنى قوله عليه السلام " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " قال الحسن : الحج المبرور هو أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة . وأنشد :
يا كعبة الله دعوة اللاجي دعوة مستشعر ومحتاج
ودع أحبابه ومسكنه فجاء ما بين خائف راجي
إن يقبل الله في سعيه كرماً نجا ، وإلا فليس بالناجي
وأنت ممن ترجى شفاعته فاعطف على وافد بن حجاج
وقيل : المعنى ومن دخله عام عمرة القضاء مع محمد صلى الله عليه وسلم . دليله قوله تعالى : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " [ الفتح : 27 ] . وقد قيل : إن < من > ها هنا لمن لا يعقل ، والآية في أمان الصيد ، هو شاذ ، وفي التنزيل : " فمنهم من يمشي على بطنه " [ النور : 45 ] الآية .
قوله تعالى : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " والله " اللام في قوله < والله > لام الإيجاب والإلزام ، ثم أكده بقوله تعالى : " على " التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب ، فإذا قال العربي : لفلان علي كذا ، فقد وكده وأوجبه . فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته . ولا خلاف في فريضته ، وهو أحد قواعد الإسلام ، وليس يجب إلا مرة في العمر . وقال بعض الناس : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، ورووا في ذلك حديثاً أسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث باطل لا يصح ، والإجماع صاد في وجوههم .
قلت : " وذكر عبد الرزاق قال : حدثنا سفيان الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الرب جل وعز إن عبداً أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم " مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين ، روى عنه غير واحد ، منهم من قال : في كل خمسة أعوام ، ومنهم من قال : عن العلاء عن يونس بن خباب عن أبي سعيد ، في غير ذلك من الاختلاف . وأنكرت الملحدة الحج ، فقالت : إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء ، والسعي وهو يناقض الوقار ، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضاد العقل ، فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة ، إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة ، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد ، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به ، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه ، وإنما يتعين عليه الامتثال ، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود . ولهذا المعنى كان عليه السلام يقول في تلبيته : " لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً لبيك إله الحق " . " وروى الأئمة عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : كل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " لفظ مسلم . فبين هذا الحديث أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرض أنه يكفي منه فعل مرة ولا يقتضي التكرار ، خلافاً للأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني وغيره " وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه : يا رسول الله أحجنا لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : لا بل للأبد " وهذا نص في الرد على من قال : يجب في كل خمس سنين مرة . وقد كان الحج معلوماً عند العرب مشهوراً لديهم ، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتبررها وتحنفها ، فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا . " وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل حج الفرض ، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ماغيروا ، " حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون ، نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ، ونحن الحمس . حسب ما تقدم بيانه في < البقرة > .
قلت : " من أغرب ما رأيته أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك ، لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له : " وأذن في الناس بالحج " [ الحج : 27 ] " قال الكيا الطبري : وهذا بعيد ، فإنه إذا ورد في شرعه : " ولله على الناس حج البيت " فلا بد من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه . ولئن قيل : إنما خاطب من لم يحج ، كان تحكماً وتخصيصاً لا دليل عليه ، ويلزم عليه ألا يجب بهذا الخطاب على من حج على دين إبراهيم ، وهذا في غاية البعد .
الثانية : ودل الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور ، وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكر ابن خويز منداد ، وهو قول الشافعي و محمد بن الحسن و أبي يوسف في رواية عنه . وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور ، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه ، وهو قول داود . والصحيح الأول ، لأن الله تعالى قال في سورة الحج : " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا " [ الحج : 27 ] وسورة الحج مكية . وقال تعالى : " ولله على الناس حج البيت " الآية . وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة " ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر " أما السنة : " فحديث ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر قد على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج " رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس ، وفيها كلها ذكر الحج ، وأنه كان مفروضاً ، وحديث أنس أحسنها سياقاً وأتمها . واختلف في وقت قدومه ، فقيل : سنة خمس . وقيل : سنة سبع . وقيل : سنة تسع ، ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخندق بعد انصراف الأحزاب . قال : ابن عبد البر : ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما ، وأنه إذا حج من بعد أعوام من حين استطاعته فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته ، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها ، ولا كمن قاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه ، ولا كمن أفسد حجه فقضاه ، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته : أنت قاض لما وجب عليه ، علمنا أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور . قال أبو عمر : كل من قال بالتراخي لا يحد في ذلك حداً ، إلا ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك إلى سنين كثيرة مع قدرته على ذلك هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته ؟ قال : لا وإن مضى من عمره ستون سنة ، فإذا زاد على الستين فسق وردت شهادته . وهذا توقيف وحد ، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلا عمن له أن يشرع .
قلت : وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم . قال ابن القاسم وغيره : إن أخره ستين سنة لم يحرج ، وإن أخره بعد الستين حرج ، " لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها " فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب . قال أبو عمر : وقد احتج بعض الناس كسحنون " بقوله صلى الله عليه وسلم : معترك أمتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك " . ولا حجة فيه ، لأنه كلام خرج على الأغلب من أعمار أمته لو صح الحديث . وفيه دليل على التوسعة إلى السبعين لأنه من الأغلب أيضاً ، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف . وبالله التوفيق .
الثالثة : أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى : " ولله على الناس حج البيت " عام في جميعهم مسترسل على جملتهم . قال ابن العربي : وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بيد أ،هم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم ، خلا الصغير فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف ، وكذلك العبد لم يدخل فيه ، لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى في التمام : " من استطاع إليه سبيلا " والعبد غير مستطيع ، لأن السيد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة . وقد قدم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقاً بالعباد ومصلحة لهم . ولا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة ، فلا نهرف بما لا نعرف ، ولا دليل عليه إلا الإجماع . قال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافاً ، على أن الصبي إذا حج في حال صغره ، والعبد إذا حج في حال رقه ، ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلاً . وقال أبو عمر : خالف داود جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج ، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " بدليل عدم التصرف ، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده ، كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " [ الجمعة : 9 ] الآية - عند عامة العلماء إلا من شذ . وكما خرج في خطاب إيجاب الشهادة ، قال الله تعالى : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " [ البقرة : 282 ] فلم يدخل في ذلك العبد . وكما جاز خروج الصبي من قوله : " ولله على الناس حج البيت " [ آل عمران : 97 ] وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه . وخرجت المرأة من قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة " وهي ممن شمله اسم الإيمان ، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور . وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب ، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب . فإن قيل : إذا كان حاضر المسجد الحرام وأذن له سيده فلم لا يلزمه الحج ؟ قيل له : هذا سؤال على الإجماع وربما لا يعلل ذلك ، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الإجماع استدللنا به على أنه لا يعتد بحجه في حال الرق عن حجة الإسلام ، " وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أيما صبي حج ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى " . قال ابن العربي : وقد تساهل بعض علمائنا فقال : إنما لم يثبت الحج على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافراً في الأصل ولم يكن حج الكافر معتداً به ، فلما ضرب عليه الرق ضرباً مؤبداً لم يخاطب بالحج ، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فاعلموه : أحدها - أن الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا خلاف فيه في قول مالك . الثاني - أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقاً ، ولو فعلها في حال كفره لم يعتد بها ، فوجب أن يكون الحج مثلها . الثالث - أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه . فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدم حقوق السيد ، والله الموفق .
الرابعة - قوله تعالى : " من استطاع إليه سبيلا " < من > في موضع خفض على بدل البعض من الكل ، هذا قول أكثر النحويين . وأجاز الكسائي أن يكون < من > في موضع رفع بـ < ـحج > ، التقدير أن يحج البيت من . وقيل هي شرط . < واستطاع > في موضع جزم ، والجواب محذوف ، أي من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج . " روى الدارقطني عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله الحج كل عام ؟ قال : لا بل حجة ؟ قيل :فما السبيل ، قال : الزاد والراحلة . " " ورواه عن أنس وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قال فسئل عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أن تجد ظهر بعير " وأخرج حديث ابن عمر أيضاً ابن ماجه في سننه ، و أبو عيسى الترمذي في جامعه وقال : حديث حسن ، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زاداً وراحلة وجب عليه الحج . و إبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي ، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه . " وأخرجاه عن وكيع و الدارقطني عن سفيان بن سعيد قالوا : حدثنا إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يوجب الحج ؟ . قال : الزاد والراحلة قال : يا رسول الله ، فما الحاج ؟ قال : الشعث التفل . وقام آخر فقال : يا رسول الله وما الحج ؟ قال : العج والثج " قال وكيع : يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن ، لفظ ابن ماجه وممن قال إن الزاد والراحلة شرط وجوب الحج : عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد . وإليه ذهب الشافعي و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه وأحمد و إسحاق و عبد العزيز بن أبي سلمة و ابن حبيب ، وذكر عبدوس مثله عن سحنون . قال الشافعي : الاستطاعة وجهان : أحدهما أن يكون مستطيعاً ببدنه واجداً من ماله ما يبلغه الحج والثاني أن يكون معضوباً في بدنه لا يثبت على مركبه وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وبغير أجرة ، على ما يأتي بيانه . أما المستطيع ببدنه فإنه يلزمه فرض الحج بالكتاب بقوله عز وجل : " من استطاع إليه سبيلا " . وأما المستطيع بالمال فقد لزمه فرض الحج بالسنة بحديث الخثعمية على ما يأتي . وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة في الركوب على الراحلة ، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه ، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج ، فإن كان قادراً على المشي مطيقاً له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة أو نحوهما فالمستحب له أن يحج ماشياً رجلاً كان أو امرأة . قال الشافعي : والرجل أقل عذراً من المرأة لأنه أقوى . وهذا عندهم على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب ، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج لأنه يصير كلا على الناس . وقال مالك بن أنس رحمه الله : إذا قدر على المشي ووجد الزاد فعليه فرض الحج ، وإن لم يجد الراحلة وقدر على المشي نظر ، فإن كان مالكاً للزاد وجب عليه فرض الحج ، وإن لم يكن مالكاً للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق نظر إيضاً ، فإن كان من أهل المروءات ممن لا يكتسب بنفسه لايجب عليه ، وإن كان ممن يكتسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج ، وهكذا إن كانت عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج . وكذلك أوجب مالك على المطيق المشي الحج ، وإن لم يكن معه زاد وراحلة . وهو قول عبد الله بن الزبير و الشعبي و عكرمة . وقال الضحاك : إن كان شاباً قوياً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجه . فقال له مقاتل : كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال :لو أن لأحدهم ميراثاً بمكة أكان تاركه ؟ ! بل ينطلق إليه ولو حبوا ، كذلك يجب عليه الحج . واحتج هؤلاء بقوله عز وجل : " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا " [ الحج : 27 ] أي مشاة . قالوا : ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان ، فوجب ألا يكون الزاد من شروط وجوبها ولا الراحلة كالصلاة والصيام . قالوا : ولو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الأقطار البعيدة . وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها . وقد روى ابن وهب و ابن القاسم و أشهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال : الناس في ذلك على قدر طاقتهم ويسرهم وجلدهم . قال أشهب لمالك : أهو الزاد والراحلة ؟ . قال : لا والله ، ما ذاك إلا على قدر طاقة الناس ، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير ، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه .
الخامسة : إذا وجدت الاستطاعة وتوجه فرض الحج فقد يعرض ما يمنع منه كالغريم يمنعه عن الخروج حتى يؤدي الدين ، ولا خلاف في ذلك . أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه ، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور ، والحج فرض على التراخي ، فكان تقديم العيال أولى . " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " وكذلك الأبوان يخاف الضيعة عليهما وعدم العوض في التلطف بهما ، فلا سبيل له إلى الحج ، فإن معناه لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه . والمرا' يمنعها زوجها ، وقيل لا يمنعها . والصحيح المنع ، لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفور . والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة - كما تقدم بيانه في البقرة - ويعلم من نفسه أنه لا يميد . فإن كان الغالب عليه العطب أو الميد حتى يعطل الصلاة فلا . وإن كان لا يجد موضعاً لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك : إذا لم يستطع الركوع والسجود إلى على ظهر أخيه فلا يركبه . ثم قال : أيركب حيث لايصلي ! ويل لم ترك الصلاة ! ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدد بحد منصوص أو يتحدد بقدر مجحف . وفي سقوطه بغير المجحف خلاف . وقال الشافعي : لا يعطى حبة ويسقط فرض الحج . ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه . وقيل لا يجب ، على ما تقدم من مراعاة الاستطاعة .
السادسة : إذا زالت الموانع ولم يكن عنده من الناض ما يحج به وعنده عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدين . وسئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القربة ليس له غيرها ، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شيء لهم يعيشون به ؟ . قال : نعم ، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة . والصحيح القول الأول ، " لقوله عليه السلام : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " وهو قول الشافعي . والظاهر من مذهبه أنه لا يلزم الحج إلا من له ما يكفيه من النفقة ذاهباً وراجعاً - قاله في الإملاء _ وإن لم يكن له أهل وعيال . وقال بعضهم : لا يعتبر الرجوع لأنه ليس عليه كبير مشقة في تركه القيام ببلده ، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال وكل البلاد له وطن . والأول أصوب ، لأن الإنسان يستوحش لفراق وطنه كما يستوحش لفراق سكنه . ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن . قال الشافعي في الأم : إذا كان له مسكن وخادم وله نفقة أهله بقدر غيبته يلزمه الحج . وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلاً عن الخادم والمسكن ، لأنه قدمه على نفقة أهله ، فكأنه قال : بعد هذا كله . وقال أصحابه : يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويكتري مسكناً وخادماً لأهله ، فإن كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام ، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن فيه قدر كفايته ، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا ؟ قولان : الأول للجمهور وهو الصحيح المشهور ، لأنه لا خلاف في أنه لو كان له عقار تكفيه غلته لزمه أن يبيع أصل العقار في الحج ، فكذلك البضاعة . وقال ابن شريح : لا يلزمه ذلك ويبقي البضاعة ولا يحج من أصلها ، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته . فهذا الكلام في الاستطاعة بالبدن والمال .
السابعة : المريض والمعضوب ، والعضب القطع ، ومنه سمي السيف عضباً ، وكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه ، إذ لا يقدر على شيء . وقد اختلف العلماء في حكمهما بعد إجماعهم أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج ، لأن الحج إنما فرضه الله على المستطيع إجماعاً ، والمريض والمعضوب لا استطاعة لهما . فقال مالك : إذا كان معضوباً سقط عنه فرض الحج أصلاً ،سواء كان قادراً على من يحج عنه بالمال أو بغير المال لا يلزمه فرض الحج ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن وسقط عنه فرض الحج ، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال ، بل إن أوصى أن يحج عنه بعد موته حج عنه من الثلث ، وكان تطوعاً ، واحتج بقوله تعالى : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " [ النجم : 39 ] فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى . فمن قال : إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية . وبقوله تعالى : " ولله على الناس حج البيت " وهذا غير مستطيع ، لأن الحج هو قصد المكلف البيت بنفسه ، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة . " وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل ليدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة : الميت والحاج عنه والمنفذ ذلك " خرجه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد قال حدثنا عمرو بن حصين السدوسي قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر ، فذكره :
قلت : أبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف عندهم . وقال الشافعي : في المريض الزمن والمعضوب والشيخ الكبير يكون قادراً على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه فهو مستطيع استطاعة ما . وهو على وجهين : أحدهما أن يكون قادراً على مال يستأجر به من يحج عنه فإنه يلزمه فرض الحج ، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، روي عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج : جهز رجلاً يحج عنك . وإلى هذا ذهب الثوري و أبو حنيفة وأصحابه و ابن المبارك و أحمد و إسحاق . والثاني أن يكون قادراً على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه ، فهذا أيضاً يلزمه الحج عنه عند الشافعي و أحمد بن راهويه ، وقال أبو حنيفة لا يلزم الحج ببذل الطاعة بحال . استدل الشافعي بما رواه ابن عباس : " إن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيرا ً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم " وذلك في حجة الوداع . في رواية : " لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره فقل النبي صلى الله عليه وسلم : فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ؟ قالت نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى " فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها من نفسها له بأن تحج عنه ، فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى . فأما إن بذل له المال دون الطاعة فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله والحج به عن نفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعاً . وقال علماؤنا : حديث الخثعمية ليس مقصوده الإيجاب وإنما مقصوده الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهما دنيا وديناً وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعاً ، فلما رأى من المرأة انفعالاً وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في برها بأبيها وحرصاً على إيصال الخير والثواب إليه ، وتأسفت أن تفوته بركة الحج أجابها إلى ذلك . كما قال للأخرى التي قالت : " إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم " ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات وإيصال البر والخيرات للأموات ، ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين . وبالإجماع لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه . ومن الدليل على أن الحج هي هذا الحديث ليس بفرض على أبيها ما صرحت به هذه المرأة بقولها < لا يستطيع > ومن لا يستطيع لا يجب عليه . وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة ، فلا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعاً أن يثبت في آخره ظناً ، يحققه قوله : < فدين الله أحق أن يقضى > فإنه ليس على ظاهره إجماعاً ، فإن دين العبد أولى بالقضاء ، وبه يبدأ إجماعاً لفقر الآدمي واستغناء الله تعالى ، قاله ابن العربي . وذكر أبو عمر بن عبد البر أن حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها . وقال آخرون : فيه اضطراب . وقال ابن وهب و أبو مصعب : هو في حق الولد خاصة . وقال ابن حبيب : جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج ، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به ويجزئه إن شاء الله تعالى فهذا الكلام على المعضوب وشبهه . وحديث الخثعمية أخرجه الأئمة ، وهو يرد على الحسن قوله : إنه لا يجوز حج المرأة عن الرجل .
الثامنة : وأجمع العلماء على أنه إذا لم يكن للمكلف قوت يتزوده في الطريق لم يلزمه الحج . وإن وهب له أجنبي مالاً يحج به لم يلزمه قبوله إجماعاً ، لم يلحقه من المنة في ذلك . فلو كان رجل وهب لأبيه مالاً فقد قال الشافعي : يلزمه قبوله ،لأن ابن الرجل من كسبه ولا منه عليه في ذلك . وقال مالك و أبو حنيفة : لا يلزمه قبوله ، لأن فيه سقوط حرمة الأبوة ، إذ يقال : قد جزاه وقد وفاه . والله أعلم
التاسعة : قوله تعالى : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " قال ابن عباس وغيره : المعنى من كفر بفرض الحج ولم يره واجباً . وقال الحسن البصري وغيره : إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر . وروى الترمذي " عن الحارث عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك زاداً وراحلة تبلغة إلى بيت الله ولم يحج فلاعليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً وذلك أن الله يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول ، والحارث يضعف " وروى نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما . وعن عبد خير بن يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلاً ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء أن شاء يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورود حوضي " " وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان عنده ما يبلغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل عند الموت الرجعة " فقيل يا ابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين . فقال : أنا أقرأ عليكم به قرآنا " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " [ المنافقون : 9 -10 ] ، قال الحسن بن صالح في تفسيره : فأزكى وأحج . " عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله عن الآية فقال : من حج لا يرجو ثواباً أو جلس لا يخاف عقاباً فقد كفر به " وروى قتادة عن الحسن قال : قال عمر رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية ، فذلك قوله تعالى : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " .
قلت : هذا خرج مخرج التغليظ ، ولهذا قال علماؤنا : تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه ، ولا يجزىء أن يحج عنه غيره لأن حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد . والله أعلم . وقال سعيد بن جبير : لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه .
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم, يطوفون به, ويصلون إليه, ويعتكفون عنده "للذي ببكة" يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه, ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه, ولهذا قال تعالى: "مباركاً" أي وضع مباركاً "وهدى للعالمين" وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي , عن أبيه , عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: " قلت يا رسول الله, أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال المسجد الحرام. قلت: ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة. قلت: ثم أي ؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد" وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح , حدثنا سعيد بن سليمان , عن شريك , عن مجالد , عن الشعبي , عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً" قال: كانت البيوت قبله, ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. وحدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص , عن سماك , عن خالد بن عرعرة , قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه, فقال: ألا تحدثني عن البيت, أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال: لا, ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم, ومن دخله كان آمناً, وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت, وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا, وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقاً, والصحيح قول علي رضي الله عنه. فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة , عن يزيد بن أبي حبيب , عن أبي الخير , عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً بعث الله جبريل إلى آدم وحواء, فأمرهما ببناء الكعبة, فبناه آدم, ثم أمر بالطواف به, وقيل له: أنت أول الناس, وهذا أول بيت وضع للناس فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف. والأشبه. والله أعلم, أن يكون هذا موقوفاً على عبد الله بن عمرو , ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى: "للذي ببكة" بكة من أسماء مكة على المشهور, قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعاً, فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها, وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان . وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: مكة من الفج إلى التنعيم, وبكة من البيت إلى البطحاء, وقال شعبة , عن المغيرة , عن إبراهيم: بكة البيت والمسجد, وكذا قال الزهري . وقال عكرمة , في رواية, و ميمون بن مهران : البيت وما حوله بكة, وما وراء ذلك مكة. وقال أبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة, وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة, وبكة, والبيت العتيق, والبيت الحرام, والبلد الأمين, والمأمون, وأم رحم, وأم القرى, وصلاح, والعرش على وزن بدر, والقادس لأنها تطهر من الذنوب, والمقدسة, والناسة بالنون, وبالباء أيضاً والحاطمة, والنساسة, والرأس, وكوثاء والبلدة, والبنية, والكعبة.
وقوله تعالى: "فيه آيات بينات" أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم, وأن الله عظمه وشرفه, ثم قال تعالى: "مقام إبراهيم" يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران, حيث كان يقف عليه ويناوله إسماعيل, وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه, ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف, لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادتها ههنا, و لله الحمد والمنة. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "فيه آيات بينات مقام إبراهيم" أي فمنهن مقام إبراهيم والمشعر. وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة, وكذا روى عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم, وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي , قالا: حدثنا وكيع , حدثنا سفيان عن ابن جريج , عن عطاء , عن ابن عباس , في قوله تعالى: "مقام إبراهيم" قال: الحرم كله مقام إبراهيم, ولفظ عمرو : الحجر كله مقام إبراهيم, وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة, ولعله الحجر كله مقام إبراهيم, وقد صرح بذلك مجاهد . وقوله تعالى: "ومن دخله كان آمنا" يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء, وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية, كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم, فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج , حدثنا أبو يحيى التيمي , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله تعالى "ومن دخله كان آمنا" قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت, ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى, فإذا خرج أخذ بذنبه, وقال الله تعالى: "أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم" الاية, وقال تعالى: " فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره, وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها, كما ثبتت الأحاديث والاثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعاً وموقوفاً. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة "لا هجرة ولكن جهاد ونية, وإذا استنفرتم فانفروا" وقال يوم الفتح فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله, إلى يوم القيامة, وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي, ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده, ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها, ولا يختلى خلاها فقال العباس : يا رسول الله, إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم, فقال إلا الإذخر" , ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه, ولهما واللفظ لمسلم أيضاً عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي, وأبصرته عيناي حين تكلم به, إنه حمد الله وأثنى عليه, ثم قال "إن مكة حرمها الله, ولم يحرمها الناس, فلا يحل لامريء يؤمن با لله واليوم الاخر أن يسفك بها دماً, ولا يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم, وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح , إن الحرم لا يعيذ عاصياً, ولا فاراً بدم, ولا فاراً بخزية, وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لأحد كم أن يحمل بمكة السلاح" رواه مسلم . وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة بسوق مكة, يقول "والله إنك لخير أرض الله, وأحب أرض الله إلى الله, ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". رواه الإمام أحمد , وهذا لفظه, و الترمذي والنسائي وابن ماجه , وقال الترمذي : حسن صحيح, وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان , حدثنا أبو عاصم , عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم , حدثني زياد ابن أبي عياش , عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى: "ومن دخله كان آمنا" قال: آمناً من النار. وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان , حدثنا أحمد بن عبيد , حدثنا محمد بن سليمان الواسطي , حدثنا سعيد بن سليمان , حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن , عن عطاء , عن عبد الله بن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دخل البيت دخل في حسنة, وخرج من سيئة, وخرج مغفوراً له" ثم قال: تفرد به عبد الله بن المؤمل , وليس بالقوي. وقوله "و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله "وأتموا الحج والعمرة لله", والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده, وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً, وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد بن هارون , حدثنا الربيع بن مسلم القرشي , عن محمد بن زياد , عن أبي هريرة , قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال "أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه", ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون به نحوه. وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبد الجليل بن حميد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري , عن أبي سنان الدؤلي واسمه يزيد بن أمية , عن ابن عباس رضي الله عنه, قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس , فقال: يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها, الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه, والحاكم من حديث الزهري به, ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. وروي من حديث أسامة بن يزيد .
قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وردان عن علي بن عبد الأعلىلا , عن أبيه , عن أبي البختري , عن علي رضي الله عنه, قال: لما نزلت "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " قالوا: " يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت, قالوا: يا رسول الله في كل عام ؟ قال لا, ولو قلت نعم لوجبت", فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث منصور بن وردان به, ثم قال الترمذي , حسن غريب, وفيما قال نظر, لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي . وقال ابن ماجه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير , حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن أنس بن مالك , قال: قالوا: " يا رسول الله, الحج في كل عام ؟ قال لو قلت نعم لوجبت, ولو وجبت لم تقوموا بها, ولو لم تقوموا بها, لعذبتم". وفي الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء , عن جابر , عن سراقة بن مالك , " قال يا رسول الله, متعتنا هذه لعامنا هذا, أم للأبد ؟ قال لا, بل للأبد". وفي رواية "بل لأبد أبد".
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لنسائه في حجته " هذه ثم ظهور الحصر ـ يعني ثم الزمن ظهور الحصر ـ ولا تخرجن من البيوت" وأما الاستطاعة فأقسام: تارة يكون الشخص مستطيعاً بنفسه, وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام, قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد, حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا إبراهيم بن يزيد , قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما, " قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله ؟ قال: الشعث التفل, فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال: العج والثج, فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله ؟ قال: الزاد والراحلة " , وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي , قال الترمذي : ولا نعرفه إلا من حديثه, وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه, كذا قال ههنا وقال في كتاب الحج: هذا حديث حس. لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا, وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث, لكن قد تابعه غيره, فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري , حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي , عن محمد بن عباد بن جعفر , قال: جلست إلى عبد الله بن عمر , قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما السبيل ؟ قال :الزاد والراحلة" وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك, وقد روي هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبد الله بن عباس وابن مسعود وعائشة كلها مرفوعة, ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام, والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث, ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة , عن قتادة , عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن قول الله عز وجل "من استطاع إليه سبيلاً" فقيل: ما السبيل ؟ قال :الزاد والراحلة", ثم قال: صحيح على شرط مسلم , ولم يخرجاه. وقال ابن جرير : حدثني يعقوب , حدثنا ابن علية عن يونس , عن الحسن , " قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً" فقالوا: يا رسول الله ما السبيل ؟ قال :الزاد والراحلة", ورواه وكيع في تفسيره عن سفيان , عن يونس به. وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أنبأنا الثوري , عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي , عن فضيل , يعني ابن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". وقال أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية , حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي , عن مهران بن أبي صفوان , عن ابن عباس , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الحج فليتعجل " ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي معاوية الضرير به. وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله "من استطاع إليه سبيلاً" قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلاً, وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة وروى وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس , قال "من استطاع إليه سبيلاً" قال الزاد والبعير وقوله تعالى: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وقال سعيد بن منصور عن سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عكرمة , قال: لما نزلت "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" قالت اليهود: فنحن مسلمون, قال الله عز وجل: فاخصمهم فحجهم, يعني " فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا ", قال الله تعالى: "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه. وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر , حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود , حدثنا مسلم بن إبراهيم , وشاذ بن فياض , قالا: حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني , حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث , عن علي رضي الله عنه,قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله, فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً, ذلك بأن الله قال: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " " ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم به, وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض , حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني , فذكره بإسناده مثله, ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القطعي عن مسلم بن إبراهيم , عن هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به, وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وفي إسناده مقال, و هلال مجهول, و الحارث يضعف في الحديث. وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ. وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي : حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر , حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج, فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً, وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه . وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري , قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة فلم يحج, فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين, ما هم بمسلمين.
وقوله "مقام إبراهيم" بدل من آيات قاله محمد بن يزيد المبرد. وقال في الكشاف: غنه عطف بيان. وقال الأخفش: إنه مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير منها مقام إبراهيم، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي: هي مقام إبراهيم وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات وهي جمع بالمقام وهو فرد. وأجاب بأن المقام جعل وحده بمنزلة آيات لقوة شأنه أو بأنه مشتمل على آيات. قال: ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع. قوله "ومن دخله كان آمناً" جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم وهو أن من دخله كان آمناً، وبه استدل من قال: إن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حد من الحدود فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور فقالوا: تقام عليه الحدود في الحرم. وقد قال جماعة: إن الآية خبر في معنى الأمر: أي ومن دخله فأمنوه كقوله "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال" أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. قوله "ولله على الناس حج البيت" اللام في قوله "لله" هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف "على" فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان علي كذا، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. وقوله "من استطاع إليه سبيلاً" في محل جر على أنه بدل بعض من الناس. وبه قال أكثر النحويين. وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج. والتقدير: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وقيل: إن من حرف شرط، والجزاء محذوف: أي من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج. وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل: الزاد والراحلة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم وهو الحق. قال مالك: إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد وراحلة إذا كان يقدر على التكسب، وبه قال عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شاباً قوياً صحيحاً وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة، لأن الله سبحانه يقول "من استطاع إليه سبيلاً" وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ولا شبهة. وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه ولا يجحف بزاد الحج، فقال الشافعي: لا يعطي حبة، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة وخالفه آخرون. والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة لدفع شيء من المال يتمكن به الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زاداً وراحلة ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلاً وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون، ولعل وجه قول الشافعي إنه سقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع. ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمناً بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل. قوله "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" قيل: إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وفي قوله "فإن الله غني عن العالمين" من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله "إن أول بيت" الآية، قال: كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، قال: "خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء، وكانت الأرض تحته كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته". وأخرج نحوه ابن المنذر عن أبي هريرة. وأخرج ابن المنذر والأزرقي عن ابن جريج قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون: بل الكعبة أعظم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت "إن أول بيت" الآية إلى قوله "فيه آيات بينات مقام إبراهيم" وليس ذلك في بيت المقدس "ومن دخله كان آمناً" وليس ذلك في بيت المقدس "ولله على الناس حج البيت" وليس ذلك في بيت المقدس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال: إنما سميت بكة لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجاً. وروى سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي عن مجاهد: إنما سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها: أي يزدحمون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل ابن حبان في قوله "مباركاً" قال: جعل فيه الخير والبركة "وهدى للعالمين" يعني: بالهدى قبلتهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس "فيه آيات بينات" فمنهن مقام إبراهيم والمشعر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله "فيه آيات بينات" قال: مقام إبراهيم "ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت". وأخرج الأزرقي عن زيد بن أسلم نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "ومن دخله كان آمناً" قال: كان هذا في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه تقطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والأزرقي عن عمر بن الخطاب قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ومن دخله كان آمناً" قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه. وقد روي عنه هذا المعنى من طرق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته. وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوي قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فقال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما اذن لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها أمس". وأخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله "من استطاع إليه سبيلاً" فقيل: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة". وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر مرفوعاً: أنه قام رجل فقال: ما السبيل؟ فقال: الزاد والراحلة. وأخرج الدارقطني والبيهقي في سننهما من طريق الحسن عن أمه عن عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السبيل إلى الحج؟ قال: الزاد والراحلة". وأخرج الدارقطني في سننه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وأخرج الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً مثله. وأخرج الدارقطني عن جابر مرفوعاً مثله. وقد روي هذا الحديث من طرق أقل أحواله أن يكون حسناً لغيره فلا يضره ما وقع من الكلام على بعض طرقه كما هو معروف. وأخرج الدارقطني عن علي مرفوعاً في الآية: "أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تجد ظهر بعير". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عمر بن الخطاب في قوله "من استطاع إليه سبيلاً" قال: الزاد والراحلة. وأخرجا عن ابن عباس مثله. وأخرجه عنه مرفوعاً ابن ماجه والطبراني وابن مردويه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عنه قال: السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عنه قال "سبيلاً" من وجد إليه سعة ولم يحل بينه وبينه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال: الاستطاعة القوة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن النخعي قال: إن المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي محرم. واختلفت الأحاديث في قدر المدة، ففي لفظ ثلاثة أيام، وفي لفظ يوم وليلة، وفي لفظ بريد.
وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً وراحلة ولم يحج. فأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج بيت الله فلا عليه بأن يموت يهودياً أو نصرانياً". وذلك بأن الله يقول "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين". وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم. قال البخاري: منكر الحديث. وقيل: مجهول. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحظوظ وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور وفيه ضعف. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في كتاب الإيمان وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً". وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط مرفوعاً مرسلاً مثله. وأخرج سعيد بن منصور، قال السيوطي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. وأخرج الإسماعيلي عنه يقول: "من أطاق الحج ولم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً" قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا إسناد صحيح. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر "من مات وهو موسر ولم يحج جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر". وأخرج سعيد بن منصور عنه "من وجد إلى الحج سبيلاً سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ولا يدرى مات يهودياً أو نصرانياً". وأخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال: لو ترك الناس الحج لقتالتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ومن كفر فإن الله غني" قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال: من كفر بالحج فلم ير حجه براً ولا تركه مأثماً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عكرمة قال:" لما نزلت "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً" قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على المسلمين حج البيت، فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا، قال الله "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"".
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال: "لما نزلت آية الحج "ولله على الناس حج البيت" الآية، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال: إن الله فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون، وكفرت به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله، فأنزل الله "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"". وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي داود نفيع قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولله على الناس حج البيت" الآية فقام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال: من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك". وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح في الآية قال: من كفر بالبيت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقول الله "ومن كفر" قال: من كفر بالله واليوم الآخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مثله من قوله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه سئل عن ذلك، فقرأ "إن أول بيت وضع للناس" إلى قوله "سبيلاً" ثم قال "ومن كفر" بهذه الآيات. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال "ومن كفر" فلم يؤمن به: فهو الكافر.

97-" ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " أي: ولله فرض واجب على الناس حج البيت ، قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص " حج البيت " بكسرالحاء في هذا الحرف خاصة ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء ، وهي لغة اهل الحجاز ، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد .
والحج احد أركان الإسلام ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن موسى أنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة/ والحج ، وصوم رمضان".
قال اهل العلم : ولوجوب الحج خمس شرائط : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة ، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون ، ولو حجا بانفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم (لفعل) المجنون ، ولا يجب على الصبي ولا على العبد ، ولو حج صبي يعقل ، أو عبد يصح حجمها تطوعاً لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي، أو عتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط ( وجوب) الحج ، وجب عليه أن يحج ثانياً ، ولا يجب على غير المستطيع ، لقوله تعالى :" من استطاع إليه سبيلاً" غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام.
والاستطاعة نوعان ، احدهما : أن يكون مستطيعاً(بنفسه) ، والآخر : أن يكون مستطيعاً بفيره ، أما الاستطاعة بنفسه أن يكون قادراً بنفسه على الذهاب ووجد الزاد والراحلة ، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب ثنا عبد العزيز بن احمد الخلال ثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر قال: فعدنا الى عبد الله ابن عمر فسمعته يقول : "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماالحاج ؟ قال :الشعث التفل، فقام رجل آخر فقال : يارسول الله : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج فقام رجل آخر فقال : يارسول الله ما السبيل؟ قال: زاد وراحلة".
وتفصيله : أن يجد راحلة تصلح لمثله ووجد الزاد للذهاب والرجوع ، فاضلاً عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه ، وعن دين يكون عليه ، ووجد رفقة يخرجون فيث وقت جرت عادة أهل بلدة بالخروج في ذلك الوقت ، فإن خرجوا قبله أو أروا الخرونج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم اكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج ( في ذلك الوقت )، ويشترط أن يكون الطريق آمناً ، فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر او رصدي يطلب شيئاً لا يلزمه ، ويشترط ان تكون المنازل المأهولة معمورة يجد فيها الزاد والماء ، فإن كان زمان جدوبة تفرق اهلها او غارت مياهها، فلا يلزمه ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي ، أو لم يجد الزاد لوكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج ، ويستحب لو فعل ، وعد مالك يلزمه.
اما الاستطاعة بالغير هو : أن يكون الرجل عاجزاً بنفسه ، بأن كان زمناً او به مرض غير مرجو الزوال، لكن له مال يمكنه أن يستأجر من يحج عنه ، يجب عيه أن يستاجر ، أو لم يكن له مال لكن بذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه ، يلزمه أن يأمره اذا كان يعتمد صدقه ، لأن وجوب الحج ( يتعلق ) بالاستطاعة ، ويقال في العرف : فلان مستطيع لبناء دار وان كان لايفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه .
وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة ، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال.
وحجة من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال : كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر اليها وتنظر اليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل الى الشق الآخر ، فقالت : يارسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج ، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال: نعم.
قوله تعالى :" ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، قال ابن عباس والحسن وعطاء : جحد فرض الحج ، وقال مجاهد : من كفر بالله واليوم الآخر.
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في اليهود حيث قالوا: الحج الى مكة غير واجب .
وقال السدي : هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو الحسن الكلماتي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر ، أخبرنا سهل بن عمار اخبرنا يزيد بن هرون أخبرنا شريك عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط عن ابي أمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ، ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً".
97" فيه آيات بينات " كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل. والجملة مفسرة للهدى، أو حال أخرى. "مقام إبراهيم" مبتدأ محذوف خبره أي منهما مقام إبراهيم، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل. وقيل عطف بيان على أ، المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنه. ويؤيده أنه قرىء "آية" بينة على التوحيد. وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه. "ومن دخله كان آمنا" جملة ابتدائية، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله. اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه السلام "حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: "من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمناً". وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجىء إلى الخروج. "ولله على الناس حج البيت" بالكسر وهو لغة نجد. "من استطاع إليه سبيلا" بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة "بالزاد والراحلة" وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال، ولذلك أوجب الإستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه. وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها بمجموع الأمرين. والضمير في إليه البيت، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله. " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " وضع كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه، ولذلك قال عليه السلام "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر، وإبرازه في الصورة الإسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس، وتعميم الحكم أولاً ثم تخصيصه ثانياً فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد، وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة، وذكر الإستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله: "عن العالمين" يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإشعار بعظم السخط، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإقبال على الله. روي "أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى: كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر".
97. Wherein are plain memorials (of Allah's guidance); the place where Abraham stood up to pray; and whosoever entereth it is safe. And pilgrimage to the House is a duty unto Allah for mankind, for him who can find a way thither. As for him who disbelieveth, (let him know that) Lo! Allah is Independent of (all) creatures.
97 - In it are signs manifest; (for example), the station of Abraham; whoever enters it attains security; pilgrimage thereto is a duty men owe to God, those who can afford the journey; but if any deny faith, God stands not in need of any of his creatures.