[آل عمران : 64] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
(قل يا أهل الكتاب) اليهود والنصارى (تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ) مصدر بمعنى مستو أمرها (بيننا وبينكم) هي (أ) ن (لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) كما اتخذتم الأحبار والرهبان (فإن تولوا) أعرضوا عن التوحيد (فقولوا) أنتم لهم (اشهدوا بأنا مسلمون) موحدون
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: "قل"، يا محمد، لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل، "تعالوا"، هلموا، "إلى كلمة سواء"، يعني : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم ، والكلمة العدل ، هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه ، فلا نشرك به شيئاً.
وقوله: "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا"، يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود كما يسجد لربه، "فإن تولوا"، يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، "فقولوا"، أيها المؤمنون، للمتولين عن ذلك، "اشهدوا بأنا مسلمون".
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى كلمة السواء.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : بلغنا أن نبي الله دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم ، قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية.
وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من نصارى نجران.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" الآية، إلى قوله: "فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، قال : فدعاهم إلى النصف ، وقطع عنهم الحجة- يعني وفد نجران.
حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الوفد من نصارى نجران- فقال : "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية.
حدثني يونس، قال ، أخبرني ابن وهب قال ، حدثنا ابن زيد قال : يعني جل ثناؤه : "إن هذا لهو القصص الحق"، في عيسى -على ما قد بيناه فيما مضى- قال: فأبوا -يعني الوفد من نجران- فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا، قل: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، فقرأ حتى بلغ: "أربابا من دون الله"، فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله : "يا أهل الكتاب"، أهل الكتابين ، لأنهما جميعاً من أهل الكتاب ، ولم يخص جل ثناؤه بقوله: "يا أهل الكتاب" بعضاً دون بعض . فليس بأن يكون موجهاً ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهاً إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر، لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح ، فالواجب أن يكون كل كتابي معنياً به. لأن إفراد العبادة لله وحده وإخلاص التوحيد له ، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله. واسم "أهل الكتاب"، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلوماً بذلك أنه عني به الفريقان جميعاً.
وأما تأويل قوله: "تعالوا"، فإنه : أقبلوا وهلموا.
وإنما هو تفاعلوا من العلو فكأن القائل لصاحبه : تعال إلي، قائل تفاعل من العلو، كما يقال : تدان مني من الدنو ، و تقارب مني ، من القرب.
وقوله : "إلى كلمة سواء". فإنها الكلمة العدل ، والسواء من نعت الكلمة.
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع سواء في الإعراب الكلمة، وهو اسم لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة : جر سواء لأنها من صفة الكلمة وهي العدل ، وأراد: مستوية . قال : ولو أراد استواء ، كان النصب . وإن شاء أن يجعلها على الاستواء ويجر، جاز، ويجعله من صفة الكلمة، مثل الخلق لأن الخلق هو المخلوق. والخلق قد يكون صفةً واسماً. ويجعل الاستواء مثل المستوي قال عز وجل: "الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد" [الحج: 25]، لأن السواء للآخر، وهو اسم ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به الاستواء. فإن أراد به مستوياً جاز أن يجرى على الأول . والرفع في ذا المعنى جيد، لأنها لا تغير عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فأشبهت الأسماء التي هي مثل عدل و رضى و جنب، وما أشبه ذلك. وقالوا: [في قوله]: "أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم" [الجاثية: 21]، فـ السواء للمحيا والممات بهذا، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول ، وجعلته صفة مقدمة، كأنها من سبب الأول فجرت عليه . وذلك إذا جعلته في معنى مستوي. والرفع وجه الكلام كما فسرت لك.
وقال بعض نحويي الكوفة: سواء مصدر وضع موضع الفعل، يعني موضع متساوية و متساو، فمرة يأتي على الفعل ، ومرة على المصدر. وقد يقال في "سواء"، بمعنى عدل: سوىً وسوىً، كما قال جل ثناؤه: "مكانا سوى" و "سوى" [طه: 58]، يراد به : عدل ونصف بيننا وبينك . وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: "إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، بأن السواء هو العدل ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، عدل بيننا وبينكم ، " أن لا نعبد إلا الله "، الآية.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا "، بمثله.
وقال آخرون: هو قول : لا إله إلا الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قال ، قال أبو العالية : كلمة السواء، لا إله إلا الله.
وأما قوله : " أن لا نعبد إلا الله "، فإن أن في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله.
وقد بينا معنى العبادة في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا"، فإن اتخاذ بعضهم بعضاً، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله ، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا" [التوبة: 31].
كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"، يقول: لا يطع بعضنا بعضاً في معصية الله. ويقال إن تلك الربوبية : أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلوا لهم.
وقال آخرون: اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً، سجود بعضهم لبعض.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال ، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله: "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"، قال: سجود بعضهم لبعض.
وأما قوله : "فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فإنه يعني : فإن تولى الذين تدعوهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم ، أيها المؤمنون ، لهم: اشهدوا علينا بأنا، بما توليتم عنه، من توحيد الله ، وإخلاص العبودية له ، وأنه الإله الذي لا شريك له ، "مسلمون"، يعني : خاضعون لله به ، متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.
وقد بينا معنى الإسلام فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته.
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " قل يا أهل الكتاب " الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لأهل نجران . وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة ، خوطبوا بذلك لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب . وقيل : هو لليهود والنصارى جميعا . وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يأتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله إلى قوله : فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . لفظ مسلم . والسواء العدل والنصفة ، قاله قتادة . وقال زهير :
أروني خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
الفراء : ويقال في معنى العدل سوى وسوى ، فإذا فتحت السين مددت وإذا كسرت أو ضممت قصرت ، كقوله تعالى : " مكانا سوى " . قال : وفي قراءة عبد الله إلى كلمة عدل بيننا وبينكم وقرأ قعنب كلمة بإسكان اللام ألقى حركة اللام على الكاف ، كما يقال كبد . فالمعنى أجيبوا إلى ما دعيتم إليه ، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق ، وقد فسرها بقوله تعالى : " أن لا نعبد إلا الله " فموضع أن خفض على البدل من كلمة ، أو رفع على إضمار مبتدأ ، التقدير هي أن لا نعبد إلا الله أو تكون مفسرة لا موضع لها ، ويجوز مع ذلك في نعبد وما عطف عليه الرفع والجزم . فالجزم على أن تكون أن مفسرة بمعنى أي ، كما قال عز وجل : " أن امشوا " وتكون لا جازمة . هذا مذهب سيبويه . ويجوز على هذا أن ترفع نعبد وما بعده يكون خبرا . ويجوز الرفع بمعنى أنه لا نعبد ، ومثله ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا وقال الكسائي والفراء : ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بالجزم على التوهم أنه ليس في أول كلام أن .
الثانية : قوله تعالى : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى وهو نظير قوله تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله . وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان والمجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، قال الكيا الطبري : مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة . وفيه رد على الروافض الذين يقولون : يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، وأنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة . وأرباب جمع رب . ودون هنا بمعنى غير .
الثالثة : قوله تعالى : " فإن تولوا " أي أعرضوا عما دعوا إليه . فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون أي متصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام ، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزير ولا الملائكة ، لأنهم بشر مثلنا محدث كحدوثنا ، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا فنكون قد اتخذناهم أربابا . وقال عكرمة : معنى يتخذ يسجد . وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما أراد أن يسجد ، كما مضى في البقرة بيانه . وروى أنس ابن مالك قال :
قلنا يا رسول الله ، أينحني بعضنا لبعض ؟ قال لا قلنا : أيعانق بعضنا بعضا ؟ قال لا ولكن تصافحوا أخرجه ابن ماجة في سننه . وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان في سورة يوسف إنشاء الله ، وفي الواقع مس القرآن أو بعض على غير طهارة إنشاء الله تعالى .
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم. "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة" والكلمة تطلق على الجملة المفيدة, كما قال ههنا, ثم وصفها بقوله "سواء بيننا وبينكم" أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها, ثم فسرها بقوله: " أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا " لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً, بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له, وهذه دعوة جميع الرسل, قال الله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" ثم قال تعالى "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله", قال ابن جريج : يعني يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله, وقال عكرمة : يسجد بعضناً لبعض "فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة, فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود , عن ابن عباس , عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر, فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعن صفته ونعته وما يدعو إليه, فأخبره بجميع ذلك على الجلية, مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركاً, لم يسلم بعد, وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح, كما هو مصرح به في الحديث, ولأنه لما سأله: هل يغدر ؟ قال: فقلت: لا, ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها, قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئاً سوى هذه, والغرض أنه قال: ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد, فأسلم تسلم, وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين, فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و" يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " " .
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, نزلت في وفد نجران. وقال الزهري : هم أول من بذل الجزية, ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح, فما الجمع بين كتابة هذه الاية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب, وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجوه (أحدها) يحمتل أن هذه الاية نزلت مرتين, مرة قبل الحديبية, ومرة بعد الفتح. (الثاني) يحتمل أن صدر سورة آل عمران, نزل في وفد نجران إلى هذه الاية, وتكون هذه الاية, نزلت قبل ذلك, ويكون قول ابن إسحاق : إلى بضع وثمانين آية, ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان . (الثالث) يحتمل أن قدوم وفد نجران, كان قبل الحديبية, وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على وجه الجزية, بل يكون من باب المهادنة والمصالحة, ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك, كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر, ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك. (الرابع) يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل, لم يكن أنزل بعد, ثم أنزل القرآن موافقة له صلى الله عليه وسلم, كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى, وفي عدم الصلاة على المنافقين, وفي قوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وفي قوله: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" الاية.
قيل: الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية، وقيل: ليهود المدينة، وقيل: لليهود والنصارى جميعاً، وهو ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض، لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسواء: العدل. قال الفراء: يقال في المعنى العدل سوى وسواء، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضممت أو كسرت قصرت. قال زهير:
أروي خطة لا ضيم فيها يروي نبتها فيها السواء
وفي قراءة ابن مسعود: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم فالمعنى: أقبلوا إلى ما دعيتم إليه، وهي الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله 64- " أن لا نعبد إلا الله " وهو في موضع خفض على البدل من كلمة، أو رفع على إضمار مبتدأ: أي هي أن لا نعبد، ويجوز أن تكون أن مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها، وفي قوله "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً" تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلأى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه له، وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده رباً، ومنه "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" وقد جوز الكسائي والفراء الجزم في "ولا نشرك" "ولا يتخذ" على التوهم. قوله "فإن تولوا" أي أعرضوا عما دعوا إليه "فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" أي: منقادون لأحكامه مرتضون به معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم.
وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: " حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإذا توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلى قوله: بأنا مسلمون". وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار "تعالوا إلى كلمة" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية فأبوا عليه، فجاهدهم حتى أقروا بالجزية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة "إلى كلمة سواء" قال: عدل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً" قال: لا يطيع بعضناً بعضاً في معصية الله، ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس ساداتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً" قال: سجود بعضهم لبعض.
64-قوله تعالى :"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية قال المفسرون : "قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم عليه السلام ، فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى الناس به ، وقالت اليهود : بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وأنا على دينه فاتبعوا دينه دين الإسلام ، فقالت اليهود: يامحمد ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً ، وقالت النصارى : يامحمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة "" والعرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة "سواء" عدل بيننا وبينكم مستوية ، أي أمر مستو يقال: دعا فلان الى السواء ، أي الى النصفة ، وسواء كل شئ وسطه ، ومنه قوله تعالى :" فرآه في سواء الجحيم " (55-الصافات) وإنما قيل لنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها وسواء نعت لكلمة إلا انه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا كسرت او ضممت قصرت كقوله تعالى :" مكاناً سوى" (58-طه) ثم فسر الكلمة فقال" أن لا نعبد إلا الله " ومحل ان رفع على إضمار هي ، وقال الزجاج:رفع بالابتداء ، وقيل : محله نصب بنزع حرف الصفة معناه بان لا نعبد إلا الله وقيل: محله خفض بدلاً من الكلمة أي تعالوا الى ان لا نعبد الا الله " ولا نشرك به شيئاً و لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله " كما فعلت اليهود والنصارى ، قال الله تعاىلى :" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" (31-التوبة) وقال عكرمة : هو سجود بعضهم لبعض ، أي لا تسجدوا لغير الله ، وقيل : معناه لا نطيع احداً في معصية الله " فإن تولوا فقولوا اشهدوا" فقولوا انتم لهم اشهدوا " بأنا مسلمون" مخلصون بالتوحيد .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي،أخبرنااحمد بن عبد الله النعيمي،أخبرنا محمد بن يوسف ،أخبرنا محمد بن اسماعيل،أخبرنا ابو اليمان الحكم بن نافع،أخبرنا شعيب عن الزهري،أخبرناعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما اخبره أن ابا سفيان بن حرب أخبره ان هرقل أرسل اليه في ركب من قريش، وكانواتجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش ، فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسة وحوله عظماء الروم ، ودعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية بن خليفة الكلبي الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل فرأه فإذا هو:
بسم الهه الرحمن الرحيم . من محمد عبد الله ورسوله ، الى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى اما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولا اشهدوا بانا مسلمون.
64"قل يا أهل الكتاب" يعم أهل الكتابين. قيل يريد به وفد نجران، أو يهود المدينة. "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" لا يختلف فيها الرسل والكتب ويفسرها ما بعدها " أن لا نعبد إلا الله " أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها. "ولا نشرك به شيئاً" ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً لأن يعبد. "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله" ولا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روي "أنه لما نزلت "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" قال عدي بن حاتم:ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال: هو ذاك". "فإن تولوا" عن التوحيد. " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل.
(تنبيه) أنظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين: أولاً، أحوال عيسى عليه الصلاة والسلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر ما يحل عقدهم ويزيح شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقاً أسهل، وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب، ثم لما لم يجد ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ".
64. Say: O People of the Scripture. Come to an agreement between us and you: that we shall worship none but Allah, and that we shall ascribe no partners unto Him, and that none of us shall take others for lords beside Allah. And if they turn away, then say: Bear witness that we are they who have surrendered (unto Him).
64 - Say: O people of the book come to common terms as between us and you: that we worship none but God; that we associate no partners with him; that we erect not, from among ourselves, lord and patrons other than God. if then they turn back, say ye: bear witness that we (at last) are Muslims (bowing to God's will)