[آل عمران : 41] قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ
(قال رب اجعل لي آية) أي علامة على حمل امرأتي (قال آيتك) عليه (أ) ن (لا تكلم الناس) أي تمتنع من كلامهم بخلاف ذكر الله تعالى (ثلاثة أيام) أي بلياليها (إلا رمزا) إشارة (واذكر ربك كثيرا وسبح) صل (بالعشي والإبكار) أواخر النهار وأوائله
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، خبراً عن زكريا، قال زكريا: رب إن كان هذا النداء الذي نوديته، والصوت الذي سمعته، صوت ملائكتك وبشارة منك لي، فاجعل لي آية -يقول: علامةً- أن ذلك كذلك، ليزول عني ما قد وسوس إلي الشيطان فألقاه في قلبي، من أن ذلك صوت غير الملائكة، وبشارة من عند غيرك، كما:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: "رب اجعل لي آية"، قال: قال -يعني زكريا-: يا رب، فإن كان هذا الصوت منك، فاجعل لي آيةً.
وقد دللنا فيما مضى على معنى الآية، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته.
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همزها، ومن شأنها همز كل ياء جاءت بعد ألف ساكنة.
فقال بعضهم: ترك همزها، لأنها كانت أية، فثقل عليهم التشديد، فأبدلوه ألفاً لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا: أيما فلان فأخزاه الله.
وقال آخرون منهم: بل هي فاعلة منقوصة.
فسئلوا فقيل لهم: فما بال العرب تصغرها أيية، ولم يقولوا أوية. فقالوا: قيل ذلك، كما قيل في فاطمة، هذه فطيمة. فقيل لهم: فإنهم إنما يصغرون فاعلة، على فعيلة، إذا كان اسماً في معنى فلان وفلانة، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم فاعلة على فعيلة.
وقال آخرون: إنه فعلة صيرت ياؤها الأولى ألفاً، كما فعل بـ حاجة، وقامة.
فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة. وقال من أنكر ذلك من قيلهم: لو كان كما قالوا: لقيل في نواة ناية، وفي حياة حاية.
قال أبو جعفر: فعاقبه الله -فيما ذكر لنا- بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته، على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة بيحيى أنه من عند الله، آية من نفسه، جمع تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربه على ما يبين له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصاً له من هفوته وخطأ قيله ومسألته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخذ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أوما وأشار، فقال الله تعالى ذكره، كما تسمعون: " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ".
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "أن الله يبشرك بيحيى مصدقا"، قال: شافهته الملائكة، فقال: " رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، يقول: إلا إيماءً، وكانت عقوبة عوقب بها، إذ سال الآية مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع في قوله: " رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعد، فاخذ بلسانه.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى، قالت: "أن الله يبشرك بيحيى"، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزاً- يقول: يومئ إيماءً.
حدثني أبو عبيد الوصابي قال، حدثنا محمد بن حمير قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن جبير بن نفير في قوله: " قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، قال: ربا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاث.
قال أبو جعفر: وإنما اختارت القرأة النصب في قوله: " أن لا تكلم الناس "، لأن معنى الكلام: قال آيتك أن لا تكلم الناس فيما يستقبل ثلاثة أيام، فكانت أن هي التي تصحب الاستقبال، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام، أي: أنك على هذه الحال ثلاثة أيام، كان وجه الكلام الرفع. لأن أن كانت تكون حينئذ بمعنى الثقيلة خففت. ولكن لم يكن ذلك جائزاً، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر.
وأما الرمز، فإن الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحياناً، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت: الرمز، ومنه قول جؤية بن عائذ:
وكان تكلم الأبطال رمزاً وهمهمةً لهم مثل الهدير
يقال منه: رمز فلان فهو يرمز ويرمز رمزاً، ويترمز ترمزاً، ويقال: ضربه ضربةً فارتمز منها، أي اضطرب للموت، قال الشاعر:
خررت منها لقفاي أرتمز
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله: " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، وأي معاني الرمز عنى بذلك؟
فقال بعضهم: عنى بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكاً بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: "إلا رمزا"، قال: تحريك الشفتين.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ثلاثة أيام إلا رمزا"، قال: إيماؤه بشفتيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإيماء والإشارة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: "إلا رمزا"، قال: الإشارة.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إلا رمزا"، قال: الرمز أن يشير بيده أو رأسه، ولا يتكلم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "إلا رمزا"، قال: الرمز: أن أخذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "إلا رمزا"، قال: والرمز الإشارة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، الآية، قال: جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً، إلا أنه يذكر الله. والرمز: الإشارة، يشير إليهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: "إلا رمزا"، إلا إيماءً.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إلا رمزا"، يقول: إشارة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: "إلا رمزا"، إلا إشارة.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا "، قال: أمسك بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أن سبحوا بكرة وعشياً.
قال أبو جعفر: يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا، " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، "واذكر ربك كثيرا"، فإنك لا تمنع ذكره، ولا يحال بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره، وقد:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكريا حيث قال " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا "، أيضاً.
وأما قوله: "وسبح بالعشي"، فإنه يعني: عظم ربك بعبادته بالعشي.
والعشي من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق
فالفيء، إنما تبتدئ أوبته عند زوال الشمس، ويتناهى بمغيبها. وأما "والإبكار" فإنه مصدر من قول القائل: أبكر فلان في حاجة فهو يبكر إبكاراً، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى، فذلك إبكار. يقال فيه: أبكر فلان و بكر يبكر بكوراً. فمن الإبكار قول عمر بن أبي ربيعة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
ومن البكور قول جرير:
ألا بكرت سلمى فجد بكورها وشق العصا بعد اجتماع أميرها
ويقال من ذلك: بكر النخل يبكر بكوراً، وأبكر يبكر إبكاراً، و الباكور من الفواكه: أولها إدراكاً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وسبح بالعشي والإبكار"، قال: الإبكار أول الفجر، والعشي ميل الشمس حتى تغيب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى :" رب اجعل لي آية " جعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين . و لي في موضع المفعول الثاني . ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية أي علامة يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى ، فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ، قاله أكثر المفسرين . قالوا : وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما . قال ابن زيد : إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى ، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه .
الثانية : قوله تعالى : " إلا رمزا " الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ، وأصله الحركة . وقيل : طلب تلك الآية زيادة طمأنينة . المعنى : تمم النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة ، فقيل له : " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي تمنع عن الكلام ثلاث ليال ، دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشرى الملائكة له : " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد . واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام مرغوب عنه ، لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا انه نهاه عن هذا ح والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني . و " رمزا " نصب على الاستثناء المنقطع ، قاله الأخفش . وقال الكسائي : رمز يرمز ويرمز . وقرئ إلا رزا بفتح الميم ورمزا بضمها وضم الراء ، الواحدة رمزة .
الثالثة : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجي به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء . وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه . وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق . وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان . والقياس في هذا كله أنه باطل ، لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . قال أبو الحسن بن بطال : وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة . ولعل البخاري حاول بترجمته باب الإشارة في الطلاق والأمور الرد عليه . وقال عطاء : أراد بقوله " أن لا تكلم الناس " صوم ثلاثة أيام . وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا . وهذا فيه بعد . والله اعلم .
الرابعة : قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه ، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام :- " لا صمت يوما إلى الليل " . وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة كذلك قال المفسرون . وذهب كثر من العلماء إلى انه : " لا صمت يوما إلى الليل " إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك حسن .
قوله تعالى : " واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار " أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه ، على القول الأول . وقد مضى في البقرة معنى الذكر . وقال محمد بن كعب القرطي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل " أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا " ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : " إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا " وذكره الطبري " وسبح " أي صل ، سميت الصلاة سبحة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء . و" بالعشي " جمع عشية وقيل : هو واحد . وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، عن مجاهد . وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي . " والإبكار " من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء, طمع حينئذ في الولد وكان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً, وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً, لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً, وقال "رب هب لي من لدنك" أي من عندك "ذرية طيبة" أي ولداً صالحاً "إنك سميع الدعاء". قال تعالى: "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب" أي خاطبته الملائكة شفاهاً خطاباً, أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته. ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة "أن الله يبشرك بيحيى" أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله "مصدقاً بكلمة من الله". روى العوفي وغيره عن ابن عباس , وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الاية "مصدقاً بكلمة من الله" أي بعيسى ابن مريم. وقال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم. وقال قتادة : وعلى سننه ومنهاجه. وقال ابن جريج : قال ابن عباس في قوله "مصدقاً بكلمة من الله", قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة, وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك, فذلك تصديقه بعيسى تصديقه له في بطن أمه, وهو أول من صدق عيسى, وكلمة الله عيسى, وهو أكبر من عيسى عليه السلام, وهكذا قال السدي أيضاً.
قوله: "وسيداً" قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم: الحكيم . قال قتادة : سيداً في العلم والعبادة. وقال ابن عباس والثوري والضحاك : السيد الحكيم التقي . قال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم. وقال عطية : السيد في خلقه ودينه . وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب. وقال ابن زيد : هو الشريف. وقال مجاهد وغيره: هو الكريم على الله عز وجل.
وقوله: "وحصوراً" روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وعطية العوفي , أنهم قالوا: الذي لا يأتي النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا يحيى بن المغيرة , أنبأنا جرير عن قابوس , عن أبيه , عن ابن عباس في الحصور: الذي لا ينزل الماء. وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثاً غريباً جداً, فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي , حدثني سعيد بن سليمان , حدثنا عباد يعني ابن العوام , عن يحيى بن سعيد , عن سعيد بن المسيب , عن ابن العاص ـ لا يدري عبد الله أو عمرو ـ " عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وسيداً وحصوراً" قال: ثم تناول شيئاً من الأرض, فقال كان ذكره مثل هذا " ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري , أنه سمع سعيد بن المسيب , عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا . ثم قرأ سعيد "وسيداً وحصوراً" ثم أخذ شيئاً من الأرض, فقال: الحصور من كان ذكره مثل ذي. وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف أصبعه السبابة, فهذا موقوف أصح إسناداً من المرفوع بل وفي صحة المرفوع نظر والله أعلم. ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا أحمد بن داود السمناني , حدثنا سويد بن سعيد , حدثنا علي بن مسهر , عن يحيى بن سعيد , عن سعيد بن المسيب , قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا, فإن الله يقول "وسيداً وحصوراً" قال: وإنما ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بأنملته " , وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عيسى بن حماد ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا حجاج بن سليمان المقري عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع , عن أبي صالح , عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه, إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض, فأخذها وقال: وكان ذكره مثل هذه القذاة " .
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان "حصوراً" ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذكر له, بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين, ونقاد العلماء, وقالوا: هذه نقيصة وعيب, ولا تليق بالأنبياء عليهم السلام, وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب, أي لا يأتيها كأنه حصر عنها. وقيل مانعاً نفسه من الشهوات. وقيل ليست له شهوة في النساء, وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص, وإنما الفضل في كونها موجودة, ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى, أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام, ثم هي في حق من قدر عليها, وقام بالواجب فيها, ولم تشغله عن ربه درجة عليا, وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه, بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن, بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو, وإن كانت من حظوظ دنيا غيره, فقال: "حبب إلي من دنياكم" هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء, بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات, ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن, بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: "هب لي من لدنك ذرية طيبة" كأنه قال: ولداً له ذرية ونسل وعقب, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله: "ونبياً من الصالحين" هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته, وهي أعلى من الأولى, كقوله لأم موسى "إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين" فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة, أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر "قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال" أي الملك "كذلك الله يفعل ما يشاء" أي هكذا أمر الله عظيم, لا يعجزه شيء, ولا يتعاظمه أمر, "قال رب اجعل لي آية" أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح, كما في قوله: "ثلاث ليال سويا" ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال, فقال تعالى: "واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار". وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم, إن شاء الله تعالى.
قوله 41- "قال رب اجعل لي آية" أي علامة أعرف بها صحة الحبل فأتلقى هذه النعمة بالشكر " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " أي: علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام لا عن غيره من الأذكار، ووجه جعل الآية هذا لتخلص تلك الأيام لذكر الله سبحانه شكراً على ما أنعم به عليه، وقيل: بأن ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين. والرمز في اللغة: الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو اليدين، وأصله الحركة وهو استثناء منقطع، لكون الرمز من غير جنس الكلام، وقيل: هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الإفهام من لفظ أو إشارة أو كتابة وهو بعيد. والصواب الأول، وبه قال الأخفش والكسائي. قوله "وسبح" أي سبحه "بالعشي" وهو جمع عشية، وقيل: هو واحد وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل وهو ضعيف جداً "والإبكار" من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وقيل: المراد بالتسبيح الصلاة.k
41-قوله تعالى:"قال : رب اجعل لي آية" أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكراً لك " قال آيتك أن لا تكلم الناس " تكف عن الكلام"ثلاثة أيام" وتقبل بكليتك على عبادتي، لا أنه حبس لسانه عن الكلام ، ولكنه نهي عن الكلام وهو صحيح سوي ، كما قال في سورة مريم الآية (10) " أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " يدل عليه قوله تعالى :" وسبح بالعشي والإبكار " فأمره بالذكر ونهاه عن كلام الناس.
وقال أكثر المفسرين: عقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام ، وقال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام ، وقوله "إلا رمزاً" أي إشارة والإشارة قد تكون باللسان وبالعين وباليد ، وكانت إشارته بالإصبع المسبحة وقال الفراء: قد يكون الرمز باللسان من غير أن يبين وهو الصوت الخفي أشبه الهمس ، وقال عطاء:أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا اذا صاموا لم يتكلموا الا رمزاً" واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار" قيل: المراد بالتسبيح الصلاة، والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ومنه سمى صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي ، والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى.
41" قال رب اجعل لي آية " علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الإنتظار. " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثاً، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخص المدة لذكر الله تعالى وشكره، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال. " إلا رمزا " إشارة بنحو يد أو رأس، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والإستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير. وقريء: "رمزاً" بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزاً كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله:
متى ما تلقني فردين ترجف روانف اليتك وتستطارا
"واذكر ربك كثيراً" في أيام الحبسة، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. " وسبح بالعشي " من الزوال إلى الغروب. وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل. "والإبكار" من طلوع الفجر إلى الضحى. وقريء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار.
41. He said: My Lord! Appoint a token for me. (The angel) said: The token unto thee (shall be) that thou shalt not speak unto mankind three days except by signs. Remember thy Lord much, and praise (Him) in the early hours of night and morning.
41 - He said: O my lord give me a sign thy sign, was the answer, shall be that thou shalt speak to no man for three days but with signals. then celebrate the praises of thy lord again and again, and glorify him in the evening and in the morning.