[آل عمران : 38] هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء
(هنالك) أي لما رأى زكريا ذلك وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير حينه قادر على الإتيان بالولد على الكبر وكان أهل بيته انقرضوا (دعا زكريا ربه) لما دخل المحراب للصلاة جوف الليل (قال رب هب لي من لدنك) من عندك (ذرية طيبة) ولدا صالحا (إنك سميع) مجيب (الدعاء)
قال أبو جعفر: وأما قوله: "هنالك دعا زكريا ربه"، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الآدميين في ذلك لها، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الأرض، طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الجارية به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذريةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا -فيما ذكر لنا- كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك، يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، قال: إن رباً أعطاها هذا في غير حينه، لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلى، ثم دعا ربه سراً فقال: "رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا" [مريم: 4-6]، وقال: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء"، وقال: "رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين" [الأنبياء: 89].
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فلما رأى ذلك زكريا -يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف- عند مريم قال: إن الذي يأتي بهذا مريم في غير زمانه، قادر أن يرزقني ولداً، قال الله عز وجل: "هنالك دعا زكريا ربه"، قال: فذلك حين دعا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحراب وغلق الأبواب، وناجى ربه فقال: "رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا" إلى قوله: "رب رضيا" [مريم: 4 - 6]، "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله" الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسن ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء"، ثم شكا إلى ربه فقال: "رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا" إلى "واجعله رب رضيا" [مريم: 4-6]، "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب" الآية.
وأما قوله: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة"، فإنه يعني بـ الذرية النسل، وبـ الطيبة المباركة، كما:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة"، يقول: مباركة.
وأما قوله: "من لدنك"، فإنه يعني: من عندك.
وأما الذرية، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع واحد. وذلك أن الله عز وجل في موضع آخر، مخبراً عن دعاء زكريا: "فهب لي من لدنك وليا" [مريم: 5]، ولم يقل: أولياء- فدل على أنه سأل واحداً. وإنما أنث "طيبة"، لتأنيث الذرية، كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة، ذاك الكمال
فقال: ولدته أخرى، فأنث، وهو ذكر، لتأنيث لفظ الخليفة، كما قال الآخر:
فما تزدري من حية جبلية سكات، إذا ما عض ليس بأدردا
فأنث الجبلية لتأنيث لفظ الحية، ثم رجع إلى المعنى فقال: إذا ما عض، لأنه كان أراد حية ذكراً. وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه فلان من الأسماء، كـ الدابة، والذرية، والخليفة. فأما إذا سمي رجل بشيء من ذلك، فكان في معنى فلان، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته.
وأما قوله: "إنك سميع الدعاء"، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أن "سميع"، أمدح، وهو بمعنى: ذو سمع له.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تسمع ما تدعى به.
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولداً مباركاً، إنك ذو سمع دعاء من دعاك.
الثانية : قوله تعالى " هنالك دعا زكريا ربه " هنالك في موضع نصب ، لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان . وقال المفضل بن سلمة : هنالك في الزمان وهنالك في المكان ، وقد يجعل هذا مكان هذا . و " هب لي " أعطني " من لدنك " من عندك . " ذرية طيبة " أي نسلا صالحا . والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى ، وهو هنا واحد . يدل عليه قوله " فهب لي من لدنك وليا " ولم يقل أولياء ، وإنما أنث طيبة لتأنيث لفظ الذرية ، كقوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ولدته لفظ الخليفة . وروى من حديث أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله له مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا " . وقد مضى في البقرة اشتقاق الذرية . و " طيبة " أي صالحة مباركة . " إنك سميع الدعاء " أي قابلة ، ومنه : سمع الله لمن حمده .
الثالثة : دلت هذه الآية على طلب الولد ، وهي سنة المرسلين والصديقين ، قال تعالى : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية " وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أجاز له ذلك لاختصينا . وخرج ابن ماجة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء " . وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال : الذي يطلب الولد أحمق ، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق ، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل : " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " وقال : " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " .
وقد ترجم البخاري على هذا باب طلب الولد . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين ما ابنه : " أعرستم الليلة قال نعم . قال بارك الله لكما في غابر ليلتكما قال فحملت " . في البخاري : قال سفيان فقال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن . وترجم أيضا باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة وساق حديث أنس بن مالك قال قالت أم سليم : يا رسول الله ، خادمك أنس أدع الله له . فقال : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيت " وقال صلى الله عليه وسلم " اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين " أخرجه البخاري ومسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : " تزوجوا الولد الودود فإني مكاثر بكم الأمم " . أخرجه أبو داود . والأخبار في هذا المعنى كثير تحث على طلب الولد وتندب إليه ، لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته . قال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث " فذكر " أو ولد صالح يدعو له " . ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية .
الرابعة : فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما و الهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخره ، ألا ترى قول زكريا " واجعله رب رضيا " وقال " ذرية طيبة " وقال : " هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ". ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال :
" اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه " . خرجه البخاري و مسلم ، وحسبك .
يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة, وأنه "أنبتها نباتاً حسناً", أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً, ويسر لها أسباب القبول, وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين, فلهذا قال "وكفلها زكريا" وفي قراءة: " وكفلها زكريا " بتشديد الفاء, ونصب زكريا على المفعولية, أي جعله كافلاً لها. قال ابن إسحاق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره: أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب, فكفل زكريا مريم لذلك, ولا منافاة بين القولين، والله أعلم. وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها, لتقتبس منه علماً جماً نافعاً وعملاً صالحاً, ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما, وقيل: زوج أختها, كما ورد في الصحيح فاذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً, فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب, وقال الخالة بمنزلة الأم " , ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها, فقال "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً". قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء, وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد "وجد عندها رزقاً" أي علماً, أو قال: صحفاً فيها علم, رواه ابن أبي حاتم , والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة, فإذا رأى زكريا هذا عندها "قال يا مريم أنى لك هذا" أي يقول من أين لك هذا ؟ "قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب". وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سهل بن زنجلة , حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا عبد الله بن لهيعة , عن محمد بن المنكدر , عن جابر , " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه, فطاف في منازل أزواجه, فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً, فأتى فاطمة فقال :يا بنية هل عندك شيء آكله, فإني جائع ؟ قالت: لا والله ـ بأبي أنت وأمي ـ, فلما خرج من عندها, بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم, فأخذته منها, فوضعته في جفنة لها, وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي, وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام, فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرجع إليها, فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك. قال :هلمي يا بنية . قالت: فأتيته بالجفنة, فكشف عنها, فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً, فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله, فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله, فلما رآه حمد الله وقال :من أين لك هذا يا بنية ؟ قالت: يا أبت " هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فحمد الله وقال :الحمد الله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل, فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه, قالت: هو من عند الله, إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي, ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً, قالت: وبقيت الجفنة كما هي, قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران, وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً " .
قوله 38- "هنالك" ظرف يستعمل للزمان والمكان، وأصله للمكان، وقيل: إنه للزمان خاصة، وهناك للمكان، وقيل: يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، واللام للدلالة على البعد، والكاف للخطاب. والمعنى أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم، أو في ذلك الزمان أن يهب الله له ذرية طيبة، والذي بعثه على ذلك ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقراً، فحصل له رجاء الولد وإن كان كبيراً وامرأته عاقراً أو بعثه على ذلك ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء عند مريم لأن من أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر، وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباطـ، والذرية والنسل يكون للواحد ويكون للجمع، ويدل على أنها هنا للواحد. قوله "فهب لي من لدنك ولياً" ولم يقل أولياء، وتأنيث طيبة لكون لفظ الذرية مؤنثاً.
38-قال الله تعالى :"هنالك" أي عند ذلك "دعا زكريا ربه" فدخل المحراب (واغلق الباب) وناجى ربه"قال رب" أي يا رب"هب لي" اعطني"من لدنك" أي من عندك "ذرية طيبة" أي ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً، والذرية تكون واحداً وجمعاً ، ذكراً وأنثى وهو ها هنا واحد ، بدليل قوله عز وجل " فهب لي من لدنك ولياً"(5-مريم) وانما قال : طيبة لتانيث لفظ الذرية " إنك سميع الدعاء"أي سامعه ، وقيل مجيبه ، كقوله تعالى :"إني آمنت بربكم فاسمعون " (25-يس )أي فأجيبوني.
38" هنالك دعا زكريا ربه " في ذلك المكان، أو الوقت إذ يستعار هنا وثم وحيث للزمان، لما رأى كرامة مريم ومنزلتها من الله تعالى. " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " كما وهبتها لحنة العجوز العاقر. وقيل لما رأى الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ، فسأل وقال هب لي من لدنك ذرية، لأنه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة. "إنك سميع الدعاء" مجيبه.
38. Then Zachariah prayed unto his Lord and said: My Lord! Bestow upon me of Thy bounty goodly offspring. Lo! Thou an the Hearer of Prayer.
38 - There did Zakariya pray to his lord, grant unto me from thee a progeny that is pure: for thou art he that heareth prayer