[آل عمران : 193] رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ
(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي) يدعو الناس (للإيمان) أي إليه وهو محمد أو القرآن (أن) أي بأن (آمنوا بربكم فآمنا) به (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر) غطِّ (عنا سيئاتنا) فلا تظهرها بالعقاب عليها (وتوفنا) اقبض أرواحنا (مع) في جملة (الأبرار) الأنبياء الصالحين
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل المنادي الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية. فقال بعضهم : المنادي قي هذا الموضع ، القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب : "إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان"، قال : هو الكتاب ، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا منصور بن حكيم ، عن خارجة، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان"، قال : ليس كل الناس سمع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المنادى القرآن.
وقال آخرون : بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : "إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان": قال ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان"، قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول محمد بن كعب ، وهو أن يكون المنادي القرآن. لأن كثيراً ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات ، ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عاينه فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه ، ولكنه القرآن ، وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبراً عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا: "إنا سمعنا قرآناً عجبا * يهدي إلى الرشد" [الجن : 1 ،2 ]. وبنحو ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان" إلى قوله : "وتوفنا مع الأبرار"، سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها، وصبروا عليها. ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال ، وعن مؤمن الجن كيف قال. فأما مؤمن الجن فقال : "إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا" [الجن : 1 ، 2]، وأما مؤمن الإنس فقال "إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا"، الآية.
وقيل : "إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان"، يعني : ينادي إلى الإيمان ، كما قال تعالى ذكره : "الحمد لله الذي هدانا لهذا" [الأعراف: 43]، بمعنى : هدانا إلى هذا ، وكما قال الراجز:
أوحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت
بمعنى : أوحى إليها، ومنه قوله : "بأن ربك أوحى لها" [الزلزلة : 15]. وقيل: يحتمل أن يكون معناه : إننا سمعنا منادياً للإيمان ، ينادي أن آمنوا بربكم.
فتأويل الآية إذا : ربنا سمعنا داعياً يدعو إلى الإيمان ، يقول : إلى التصديق بك ، والإقرار بوحدانيتك ، واتباع رسولك ، وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه مما جاء به من عندك ، "فآمنا ربنا"، يقول : فصدقنا بذلك يا ربنا، "فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول : فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رؤوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا عليها ، ولكن كفرها عنا ، وسيئات أعمالنا ، فامحها بفضلك ورحمتك إيانا، "وتوفنا مع الأبرار"، يعني بذلك : واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك ، في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم. و"الأبرار" جمع بر وهم الذين بروا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له ، حتى أرضوه فرضي عنهم.
الحادية عشرة : قوله تعالى : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " أي محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين ، وقال قتادة و محمد بن كعب القرظي : هو القرآن ، وليس كلهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا : " إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد " [ الجن : 1 - 2 ] وأجاب الأولون فقالوا : من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا صحيح معنى و ( أن ) " أن آمنوا " في موضع على حذف حرف الخفض ، أي بأن آمنوا ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي سمعنا منادياً للإيمان ينادي ، عن أبي عبيدة : وقيل : اللام بمعنى إلى ، أي إلى الإيمان ، كقوله : " ثم يعودون لما نهوا عنه " [ المجادلة : 8 ] ، وقوله : " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة : 5 ] ، وقوله : " الحمد لله الذي هدانا لهذا " [ الأعراف : 43 ] ، أي إلى هذا ، ومثله كثير ، وقيل : هي لام أجل ، أي لأجل الإيمان .
الثانية عشرة : قوله تعالى : " ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا " تأكيد ومبالغة في الدعاء ، ومعنى اللفظين واحد ، فإن الغفر والكفر ، الستر ، " وتوفنا مع الأبرار " أي أبراراً مع الأنبياء ، أي في جملتهم واحدهم بر وبار وأصله من الاتساع ، فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله .
قال الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري , حدثنا يحيى الحماني , حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: أتت قريش اليهود, فقالوا: بم جاءكم موسى ؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين, وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص, ويحيي الموتى, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً, فدعا ربه, فنزلت هذه الاية " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " فليتفكروا فيها, وهذا مشكل فإن هذه الاية مدنية, وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة, والله أعلم, ومعنى الاية أن الله تعالى يقول: "إن في خلق السموات والأرض" أي هذه في ارتفاعها واتساعها, وهذه في انخفاضها و كثافتها واتضاعها, وما فيهما من الايات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات, وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات, وزروع وثمار, وحيوان ومعادن, ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص, "واختلاف الليل والنهار" أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر, فتارة يطول هذا ويقصر هذا, ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا, ويقصر الذي كان طويلا. وكل ذلك تقدير العزيز العليم , ولهذا قال تعالى " لآيات لأولي الألباب " أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها, وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون, الذين قال الله فيهم "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" ثم وصف تعالى أولي الألباب, فقال: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم". كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنبك" أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم, "ويتفكرون في خلق السموات والأرض" أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة, رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة, وقال الفضيل قال الحسن : الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك, وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبى لمن كان قيله تذكراً وصمته تفكراً, ونظره عبراً, قال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألهم للفكرة, وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة, وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرىء إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم, ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله عز وجل حسن, والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم, وشاهدوا الموقف بقلوبكم, وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار, وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبد الله بن المبارك : مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة, فناداه فقال: يا راهب, إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر: كنز الرجال, وكنز الأموال. وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين, فيقول: أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: "كل شيء هالك إلا وجهه" وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر, خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري : يا ابن آدم, كل في ثلث بطنك, واشرب في ثلثه, ودع ثلثه الاخر تتنفس للفكرة. وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة, انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس , قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر. وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت, وكن في الدنيا ضيفاً, واتخذ المساجد بيتاً, وعلم عينيك البكاء, وجسدك الصبر, وقلبك الفكر, ولا تهتم برزق غد. وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, أنه بكى يوماً بين أصحابه, فسئل عن ذلك, فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها, فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها, ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر. وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن :
نزهة المؤمن الفكر لذة المؤمن العبر
نحمد الله وحده نحن كل على خطر
رب لاه وعمره قد تقضى وما شعر
رب عيش قد كان فو ق المنى مونق الزهر
في خرير من العيو ن وظل من الشجر
وسرور من النبا ت وطيب من الثمر
غيرته وأهله سرعة الدهر بالغير
نحمد الله وحده إن في ذا لمعتبر
إن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبر
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته, فقال "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" ومدح عباده المؤمنين "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض" قائلين "ربنا ما خلقت هذا باطلاً" أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً, بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا, وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل, فقالوا "سبحانك" أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً "فقنا عذاب النار" أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل, يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث. قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا. ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم, وتجيرنا به من عذابك الأليم. ثم قالوا "ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته" أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع "وما للظالمين من أنصار" أي يوم القيامة لا مجير لهم منك. ولا محيد لهم عما أردت بهم "ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان" أي داعياً يدعو إلى الإيمان, وهو الرسول صلى الله عليه وسلم "أن آمنوا بربكم فآمنا" أي يقول آمنوا بربكم فآمنا, أي فاستجبنا له واتبعناه, أي بإيماننا واتباعنا نبيك, "ربنا فاغفر لنا ذنوبنا" أي استرها, "وكفر عنا سيئاتنا" فيما بيننا وبينك, "وتوفنا مع الأبرار" أي ألحقنا بالصالحين, " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " قيل: معناه على الإيمان برسلك, وقيل: معناه على ألسنة رسلك. وهذا أظهر ـ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان , حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد , عن أبي عقال , عن أنس بن مالك , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب عليهم, ويبعث منها خمسين ألفاً شهداء وفودا إلى الله, وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج أوداجهم دماً, يقولون " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد " فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضاً. فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا" وهذا الحديث يعد من غرائب المسند, ومنهم من يجعله موضوعاً, والله أعلم. "ولا تخزنا يوم القيامة" أي على رؤوس الخلائق, "إنك لا تخلف الميعاد" أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك, وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج , حدثنا المعتبر , حدثنا الفضل بن عيسى , حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عز وجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار" حديث غريب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الايات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده, فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم , حدثنا محمد بن جعفر , أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب , عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: " بت عند خالتي ميمونة , فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد, فلما كان ثلث الليل الاخر قعد فنظر إلى السماء, فقال " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " الايات, ثم قام فتوضأ واستن, فصلى إحدى عشرة ركعة, ثم أذن بلال فصلى ركعتين, ثم خرج فصلى بالناس الصبح " . وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني , عن ابن أبي مريم به. ثم رواه البخاري من طرق عن مالك , عن مخرمة بن سليمان , عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته, قال: " فاضطجعت في عرض الوسادة, واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها, فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل, استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده, ثم قرأ العشر الايات الخواتيم من سورة آل عمران, ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها, فأحسن وضوءه, ثم قام يصلي . قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقمت فصنعت مثل ما صنع, ثم ذهبت فقمت إلى جنبه, فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي, وأخذ بأذني اليمنى يفتلها, فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين, ثم أوتر, ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن, فقام فصلى ركعتين خفيفتين, ثم خرج فصلى الصبح " . وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً و أبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به.
(طريق أخرى) لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي , حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة , أنبأنا خلاد بن يحيى , أنبأنا يونس بن أبي إسحاق , عن المنهال بن عمرو , عن علي بن عبد الله بن عباس , عن عبد الله بن عباس , قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال: " فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الاخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره, قام فمر بي, فقال: من هذا ؟ عبد الله ؟ قلت: نعم, قال: فمه قلت أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة. قال: فالحق الحق فلما أن دخل قال: افرشن عبد الله ؟ فأتى بوسادة من مسوح. قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه, ثم استوى على فراشه قاعداً, قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ثم تلا هذه الايات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها " . وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً.
(طريق أخرى) رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه, عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل, فنظر إلى السماء وتلا هذه الاية " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " إلى آخر السورة ثم قال اللهم اجعل في قلبي نوراً, وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً, وعن يميني نوراً, وعن شمالي نوراً, ومن بين يدي نوراً, ومن خلفي نوراً, ومن فوقي نوراً, ومن تحتي نوراً وأعظم لي نوراً يوم القيامة" وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه, ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: أتت قريش اليهود, فقالوا: بم جاءكم موسى من الايات ؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً, فدعا ربه عز وجل, فنزلت " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " قال: فليتفكروا فيها, لفظ ابن مردويه . وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الاية, وهذا يقتضي أن تكون هذه الايات مكية, والمشهور أنها مدنية, ودليله الحديث الاخر. قال ابن مردويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل , حدثنا أحمد بن علي الحراني , حدثنا شجاع بن أشرس , حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جناب , عن عطاء قال: انطلقت أنا و ابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها, فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب, فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال: قول الشاعر: زر غباً تزدد حباً. فقال ابن عمر : " ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً, أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي, ثم قال :ذريني أتعبد لربي عز وجل قالت: فقلت والله إني لأحب قربك, وإني أحب أن تعبد لربك, فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء, ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته, ثم سجد فبكى حتى بل الأرض, ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يارسول الله, ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ؟ فقال: ويحك يا بلال, وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء . قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها, فسلمنا عليها, فقالت: من هؤلاء ؟ قال: فقلنا: هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير . قالت: يا عبيد بن عمير . ما يمنعك من زيارتنا, قال: ما قال الأول: زر غباً تزدد حباً. قالت إنا لنحب زيارتك وغشيانك. قال عبد الله بن عمر : دعينا من بطالتكما هذه, " أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجباً, أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي, حتى لصق جلده بجلدي, ثم قال: يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قالت: إني لأحب قربك وأحب هواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء, ثم قام فقرأ القرآن, ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه, قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه, ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره, قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده, قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر, ثم قال: الصلاة يا رسول الله, فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله, تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ومالي لا أبكي وقد نزل علي الليلة " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " إلى قوله "سبحانك فقنا عذاب النار" ـ ثم ـ قال ويل لمن قرأ هذه الايات ثم لم يتفكر فيها" وهكذا رواه أبي حاتم ابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى , عن عثمان بن أبي شيبة , عن يحيى بن زكريا , عن إبراهيم بن سويد النخعي , عن عبد الملك بن أبي سليمان , عن عطاء , قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبد العزيز : سمعت سنيداً يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه, قال "من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله" يعد بأصابعه عشراً ـ قال الحسن بن عبد العزيز : فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن ؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن. قال ابن أبي الدنيا : وحدثني قاسم بن هاشم , حدثنا علي بن عياش , حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هنية ثم قال: يقرؤهن وهو يعقلهن.
(حديث آخر) فيه غرابة. قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير , حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي (ح) قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد , حدثنا أحمد بن عمرو قال: أنبأنا هشام بن عمار , أنبأنا سليمان بن موسى الزهري , أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي , أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة , قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة " . مظاهر بن أسلم ضعيف.
قوله 193- "ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان" المنادي عند أكثر المفسرين هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو القرآن، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء لأنه قد وصف المنادي بما يسمع، وهو قوله "ينادي للإيمان أن آمنوا". وقال أبو علي الفارسي: إن ينادي هو المفعول الثاني وذكر ينادي مع أنه قد فهم من قوله "منادياً" لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به، واللام في قوله "للإيمان" بمعنى إلى، وقيل: إن ينادي يتعدى باللام وبإلى، يقال: ينادي لكذا وينادي إلى كذا، وقيل: اللام للعلة: أي لأجل الإيمان. قوله "أن آمنوا" هي إما تفسيرية أو مصدرية وأصلها بأن آمنوا فحذف حرف الجر. قوله "فآمنا" أي: امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا، وتكرير النداء في قوله "ربنا" لإظهار التضرع والخضوع، قيل: المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيئات الصغائر. والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين، والآخر بالآخر، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحداً، والتكرير للمبالغة والتأكيد، كما أن معنى الغفر والكفر الستر. والأبرار جمع بار أو بر، وأصله من الاتساع، فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته، قيل هم الأنبياء، ومعنى اللفظ أوسع من ذلك.
193-"ربنا إننا سمعنا منادياً"، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، وأكثر الناس ، وقال القرظي : يعني القرآن، فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم ، " ينادي للإيمان " ، أي إلى الأيمان،" أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار"،أي: في جملة الأبرار.
193" ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه، والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل القرآن، والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص. " أن آمنوا بربكم فآمنا " أي بأن آمنوا فامتثلنا. " ربنا فاغفر لنا ذنوبنا " كبائرنا فإنها ذات تبعة. " وكفر عنا سيئاتنا " صغائرنا فإنها مستقبحة، ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر. " وتوفنا مع الأبرار " مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم، وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب.
193. Our Lord! Lo! we have heard a crier calling unto Faith: "Believe ye in your Lord!" So we believed. Our Lord! Therefor forgive us our sins, and remit from us our evil deeds, and make us die the death of the righteous.
193 - Our lord we have heard the call of one calling (us) to faith, believe ye in the lord, and we have believed. our lord forgive us our sins, blot out from us our iniquities, and take to thyself our souls in the company of the righteous.