[آل عمران : 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ
(لتبلون) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين ، لتختبرن (في أموالكم) بالفرائض فيها والجوائح (وأنفسكم) بالعبادات والبلاء (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) اليهود والنصارى (ومن الذين أشركوا) من العرب (أذى كثيرا) من السب والطعن والتشبيب بنسائكم (وإن تصبروا) على ذلك (وتتقوا) الله (فإن ذلك من عزم الأمور) أي من معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها
قوله تعالى ولتسمعن الآية روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بسند حسن عن ابن عباس انها نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص من قوله أن الله فقير ونحن أغنياء وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الشعر
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره : "لتبلون في أموالكم"، لتختبرن بالمصائب في أموالكم ، "وأنفسكم"، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم ، "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني : من اليهود وقولهم : "إن الله فقير ونحن أغنياء"، وقولهم : "يد الله مغلولة" [المائدة: 64]، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله ، "ومن الذين أشركوا"، يعني النصارى، "أذى كثيرا"، والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : "المسيح ابن الله" [التوبة : 35]، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله ، "وإن تصبروا وتتقوا"، يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته ، "وتتقوا"، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته ، "فإن ذلك من عزم الأمور"، يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به.
وقيل : إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي ، سيد بني قينقاع ، كالذي:
حدثنا به القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال: قال عكرمة في قوله : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا"، قال : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع. قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمده ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر: لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع. فجاء أبو بكر وهو متوشح السيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : قد احتاج ربكم أن نمده ! فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع ، فكف ، ونزلت : "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم" آل عمران:80]. وما بين الآيتين إلى قوله : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم"، نزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله : "فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك"، قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم، قال : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم"، قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم ، فينظر كيف صبرهم على دينهم. ثم قال "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني اليهود والنصارى، "ومن الذين أشركوا أذى كثيرا"، فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : "عزير ابن الل" [التوبة :30]، ومن النصارى : "المسيح ابن الله" [التوبة : 30]، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم ، فقال الله : "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"، يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به.
وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبب بنساء المسلمين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله : "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا"، قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار، فيهم محمد بن مسلمة، ورجل يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي ، فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة! قال : فليدن إلي بعضكم فليحدثني بحاجته. فجاءه رجل منهم فقال جئناك لنبيعك أدراعاً عندنا لنستنفق بها. فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس ، فأتوه فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب ! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم.
قال معمر: فأخبرني أيوب ، عن عكرمة : أنه أشرف عليهم فكلمهم فقال : أترهنوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمراً. قال ، فقالوا : إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال : هذا رهينة وسق ، وهذا رهينة وسقين ! فقال : أترهنوني نساءكم ؟ قالوا: أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك ! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ! ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم. قالوا : فأنزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينزل ، فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال : لو وجدني هؤلاء نائماً ما أيقظوني ! قالت : فكلمهم من فوق البيت. فأبى عليها، فنزل إليهم يفوح ريحه. قالوا : ما هذه الريح يا فلان؟ قال : هذا عطر أم فلان! امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عبس في خاصرته، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قتل سيدنا غيلة! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ويحرض في قتالهم ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحاً، قال : فكان ذلك الكتاب مع علي رضوان الله عليه.
هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع ، والإبتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب ، وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها " ولتسمعن " إن قيل : لم ثبتت الواو في ( لتبلون ) وحذفت من ( ولتسمعن ) فالجواب أن الواو في ( لتبلون ) قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين ، وخصت ، بالضمة لأنها واو الجمع ، ولم يجز حذفها لأنها ليس قبلها ما يدل عليها ، وحذفت من ( ولتسمعن ) لأن قبلها ما يدل عليها ، ولا يجوز همز الواو في ( لتبلون ) لأن حركتها عارضة ، قاله النحاس وغيره ، ويقال للواحد من المذكر : لتبلين يا رجل ، وللاثنين : لتبليان يا رجلان ، ولجماعة الرجال : لتبلون ، ونزلت بسبب أن أبا بكر رضي الله عنه سمع يهودياً يقول : إن الله فقير ونحن أغنياء ، رداً على القرآن واستخفافاً به حين أنزل الله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " [ البقرة : 245 ] ، فلطمه ، فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، قيل : إن قائلها فنحاص اليهودي ، عن عكرمة ، الزهري : هو كعب بن الأشرف ، نزلت بسببه ، وكان شاعراً ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويؤلب عليه كفار قريش ، ويشبب بنساء المسلمين حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة وأصحابه فقتله القتلة المشهورة في السير وصحيح الخبر ، وقيل غير هذا ، وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون ، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيراً وفي الصحيحين : " أنه عليه السلام مر بابن أبي وهو عليه السلام على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي ، إن كان ما تقول حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا ! ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه ، وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار ، فقال ابن رواحة نعم يا رسول الله ، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك ، واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون ، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكنوا ، ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض ، فقال : ألم تسمع ما قال فلان ، فقال سعد : اعف عنه واصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل ، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة ، على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به ، فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت هذه الآية " .
قيل : هذا كان قبل نزول القتال ، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور ، وكذا في البخاري في سياق الحديث ، أن ذلك كان قبل نزول القتال ، والأظهر أنه ليس بمنسوخ ، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبداً مندوب إليها ، وكان عليه السلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم ، ويصفح عن المنافقين ، وهذا بين ومعنى " عزم الأمور " شدها وصلابتها وقد تقدم .
يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت, كقوله تعالى: " كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت, والجن والإنس يموتون, وكذلك الملائكة وحملة العرش, وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء, فيكون آخراً كما كان أولاً, وهذه الاية فيها تعزية لجميع الناس, فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت, فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية, أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها, كثيرها وقليلها, كبيرها وصغيرها, فلا يظلم أحداً مثقال ذرة, ولهذا قال تعالى: "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة" قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز الأويسي , حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين , عن أبيه, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية, جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه, فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفا من كل هالك, ودركاً من كل فائت, فبالله فثقوا, وإياه فارجوا, فإن المصاب من حرم الثواب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام. وقوله: "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, اقرؤوا إن شئتم "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز"" هذا حديث ثابت في الصحيحين, من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة, وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم , وابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه , ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر, فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم , حدثنا محمد بن يحيى , أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم , عن سهل بن سعد , قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها قال: ثم تلا هذه الاية "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" " وتقدم عند قوله تعالى: "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" ما رواه الإمام أحمد عن وكيع بن الجراح عن الأعمش , عن زيد بن وهب . عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة , عن عبد الله بن عمرو بن العاص , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الاخر, وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه". وقوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" تصغير لشأن الدنيا, وتحقير لأمرها, وأنها دنيئة فانية, قليلة زائلة, كما قال تعالى: " بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى " وقال تعالى "وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى" وفي الحديث "والله ما الدنيا في الاخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر بم ترجع إليه" وقال قتادة في قوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" قال: " هي متاع هي متاع متروكة أوشكت ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ أن تضمحل عن أهلها, فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم, ولا قوة إلا بالله " , وقوله تعالى: "لتبلون في أموالكم وأنفسكم" كقوله تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" إلى آخر الايتين, أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شي من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله, ويبتلى المؤمن على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً" يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسلياً لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين, وآمراً لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله, فقال تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو اليمان , حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري , أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره, قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله, ويصبرون على الأذى, قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم " , هكذا ذكره مختصراً, وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الاية مطولاً, فقال: حدثنا أبو اليمان , أنبأنا شعيب عن الزهري , أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد , حدثه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية, وأردف أسامة بن زيد وراءه, يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر, قال: حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول, وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي, وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين, وفي المجلس عبد الله بن رواحة , فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة, خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا, فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم وقف, فنزل, ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرأن, فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء, إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه, فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: بلى يا رسول الله, فاغشنا به في مجالسنا, فإنا نحب ذلك, فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون, فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا, ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي, قال: كذا وكذا, فقال سعد : يا رسول الله, اعف عنه واصفح, فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك, ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة, فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله, شرق بذلك, فذلك الذي فعل به ما رأيت, فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله, ويصبرون على الأذى ", قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" الاية وقال تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " الاية, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن له فيهم, فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً, فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا فكل من قام بحق أو أمر بمعروف, أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله, والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عز وجل.
قوله 186- "لتبلون في أموالكم وأنفسكم" هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة والفسقة ليوطنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره. والابتلاء الامتحان والاختبار، والمعنى: لتمتحنن ولتخبرن في أموالكم بالمصائب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال. والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحباب، والقتل في سبيل الله. وهذه الجملة جواب قسم محذوف دلت عليه اللام الموطئة "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" وهم اليهود والنصارى "ومن الذين أشركوا" وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب "أذى كثيراً" من الطعن في دينكم وأعراضكم، والإشارة بقوله "فإن ذلك" إلى الصبر والتقوى المدلول عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها، يقال عزم الأمر: أي شده وأصلحه.
186-"لتبلون في أموالكم وأنفسكم" الآية، قالعكرمةومقاتلوالكلبيوابن جريج : نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء ، وذلك "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمده ، وكتب إليه كتاباً وقال لأبي بكر رضي الله عنه لا تفتاتن علي بشئ حتى ترجع فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : قد احتاج ربك إلى أن نمده فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تفتاتن علي بشئ حتى ترجع فكف فنزلت هذه الآية."
وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ، ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في شعره ويشبب بنساء المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله.
فقال محمد مسلمة الأنصاري: أنا لك يارسول الله ، أنا أقتله ، قال : فافعل إن قدرت على ذلك.
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه ، وقال له : لم تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله قلت قولاً ولا أدري هل أفي به أم لا ، فقال: إنما عليك الجهد.
فقال: يا رسول الله إنه لابد لنا من أن نقول ، قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك ، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلام وأبو نائلة ، وكان أخا كعب من الرضاعة ، وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جبير ، فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ، قال: انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك في ليلة مقمرة.
فاقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدموا أبا نائلة فجاءة فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر، وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال: ويحك يابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة اريد ذكرها لك فاكتم علي ، قال: أفعل ، قال: كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاءً، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس، فقال كعب: انا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا ، فقال أبو نائلة:/ إن معي أصحاباً أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك ، قال: أترهنوني أبناءكم، قال: إنا نستحي أن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وسق، وهذا رهينة وسقين، قال: ترهنوني نساءكم ، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك ، وأية امرأة تمتنع منك لجمالك؟ ولكنا نرهنك الحلقة ، يعني: السلاح، وقد علمت حاجتنا إلى السلاح ، قال: نعم، وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فاخبرهم خبره.
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلاً، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب من ملحفته ، فقالت امرأته :أسمع صوتاً يقطر منه الدم ، وإنك رجل محارب، وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلمهم من فوق الحصن ، فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائماً ما أيقظوني، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، فنزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا: يا بن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه ؟ قال: إن شئتم؟ فخرجوا يتماشون ، وكان أبو نائلة قال: لأصحابه إني فاتل شعره فاشمه فإذا رأيتموني إستمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه ، ثم إنه شام يده في فود رأسه ثم شم يده ، فقال: ما رأيت كالليلة طيب عروس قط، قال: إنه طيب ام فلان يعني امرأته ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال: اضربوا عدو لله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً، قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته ، وقد صاح عدو الله صيحةً لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، ووقع عدو الله ، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحرث ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ثم اتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه ، وتفل على جرح صاحبنا.
فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله ، جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
قال محيصة: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ، قال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، قال والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب ؟ فأسلم حويصة ، وأنزل الله تعالى في شأن كعب: "لتبلون" لتخبرن، اللام للتأكيد ، وفيه معنى القسم، والنون لتأكيد القسم " في أموالكم" بالجوائح والعاهات والخسران "وأنفسكم" بالأمراض، وقيل: بمصائب الأقارب والعشائر، قال عطاء:هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورباعهم وعذبوهم ، وقالالحسن : هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة،" ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " يعني: اليهود والنصارى، " ومن الذين أشركوا" ، يعني : مشركي العرب، "أذى كثيراً وإن تصبروا" على أذاهم "وتتقوا" ، الله،"فإن ذلك من عزم الأمور"، من حق الأمور وخيرها، وقال عطاء: من حقيقة الإيمان.
186" لتبلون " أي والله لتختبرن. " في أموالكم " بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات. " وأنفسكم " بالجهاد والقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب. " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها. " وإن تصبروا " على ذلك. " وتتقوا " مخالفة أمر الله. " فإن ذلك " يعني الصبر والتقوى. " من عزم الأمور " من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه. والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه.
186. Assuredly ye will be tried in your property and in your persons, and ye will hear much wrong from those who were given the Scripture before you, and from the idolaters. But if ye persevere and ward off (evil), then that is of the steadfast heart of things.
186 - Ye shall certainly be tried and tested in your possessions and in your personal selves; and ye shall certainly hear much that will grieve you, from those who received the book before you and from those who worship many gods. but if ye persevere patiently, and guard against evil, then that will be a determining factor in all affairs.