[آل عمران : 180] وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(ولا يحسبن) بالياء والتاء (الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) أي بزكاته (هو) أي بخلهم (خيراً لهم) مفعول ثان والضمير للفصل والأول بخلهم مقدراً قبل الموصول على الفوقانية وقبل الضمير على التحتانية (بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به) أي بزكاته من المال (يوم القيامة) بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما ورد في الحديث (ولله ميراث السماوات والأرض) يرثهما بعد فناء أهلهما (والله بما تعملون) بالتاء والياء (خبير) فيجازيكم به
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق : ولا تحسبن الذين يبخلون بالتاء من تحسبن.
وقرأته جماعة آخر: "ولا يحسبن" بالياء .
ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك .
فقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك : لا يحسبن الباخلون البخل هو خيراً لهم ، فاكتفي بذكر "يبخلون" من البخل، كما تقول : قدم فلان فسررت به ، وأنت تريد: فسررت بقدومه . وهو، لا عماد.
وقال بعض نحويي أهل البصرة: إنما أراد بقوله : "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم"، لا يحسبن البخل هو خيراً لهم، فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان به ، هو البخل ، لأنه قد ذكر الحسبان وذكر "ما آتاهم الله من فضله"، فأضمرهما إذ ذكرهما. قال : وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا، قال : "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل" [الحديد: 10] ولم يقل : ومن أنفق بعد الفتح، لأنه لما قال : "أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد" [الحديد: 10]، كان فيه دليل على أنه قد عناهم.
وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة : إن (من) في قوله : "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح" [الحديد:10] في معنى جمع . ومعنى الكلام : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم ، فكيف من أنفق من بعد الفتح ؟ فالأول مكتف. وقال : في قوله : لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم محذوف ، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف ، لأن "هو" عائد البخل ، و"خيرا لهم" عائد الأسماء، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين ، واكتفي بقوله : "يبخلون" من البخل.
قال : وهذا إذا قرئ ب التاء، ف البخل قبل "الذين"، وإذا قرئ ب الياء، ف البخل بعد "الذين"، وقد اكتفي ب "الذين يبخلون"، من البخل ، كما قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف
كأنه قال : جرى إلى السفه ، فاكتفى عن السفه ب السفيه ، كذلك اكتفى بـ "الذين يبخلون"، من البخل .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي ، قراءة من قرأ: ولا تحسبن الذين يبخلون بالتاء، بتأويل : ولا تحسبن ، أنت يا محمد، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ، ثم ترك ذكر البخل ، إذ كان في قوله : "هو خيرا لهم" دلالة على أنه مراد في الكلام ، إذ كان قد تقدمه قوله : "الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله".
وإنما قلنا: قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، أن المحسبة من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله : "ولا يحسبن الذين يبخلون" بالياء : لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله : "هو خيرا لهم" خبراً عنه . وإذا قرئ ذلك بالتاء، كان قوله : "الذين يبخلون" اسماً له قد أدى عن معنى البخل الذي هو اسم المحسبة المتروك ، وكان قوله : "هو خيرا لهم" خبراً لها، فكان جارياً مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح . فلذلك اخترنا القراءة ب التاء في ذلك على ما بيناه ، وإن كانت القراءة ب الياء غير خطأ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب .
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك : ولا تحسبن ، يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال ، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات ، هو خيراً لهم عند الله يوم القيامة، بل هو شر لهم عنده في الآخرة، كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ولا تحسبن الذين ببخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم، هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدوا زكاتها.
وقال آخرون : بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" إلى "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، يعني بذلك أهل الكتاب أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ، قال : هم يهود، إلى قوله : "والكتاب المنير" [آل عمران : 184].
وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية، التأويل الأول ، وهو أنه معني بـ البخل في هذا الموضع ، منع الزكاة، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تأول قوله : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : البخيل الذي منع حق الله منه ، أنه يصير ثعباناً في عنقه ، ولقول الله عقيب هذه الآية "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء"، فوصف جل ثناؤه قول المشركين من اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة، أن الله فقير.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "سيطوقون"، سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة، طوقاً في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة، كالذي :
حدثني الحسن بن قزعة قال ، حدثنا مسلمة بن علقمة قال ، حدثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالك العبدي قال : ما من عبد يأتيه ذو رحم له ، يسأله من فضل عنده فيبخل عليه ، إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعاً أقرع. قال : وقرأ ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة إلى آخر الآية.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود، عن أبي قزعة، ؟عن رجل ، "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه".
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم قال ، حدثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه. ثم قرأ ولاتحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ، حتى انتهى إلى قوله : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"".
حدثني زياد بن عبيد الله المري قال ، حدثنا مروان بن معاوية، وحدثني عبد الله بن عبد الله الكلابي قال ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد، واللفظ ليعقوب ، جميعاً، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده ، فيمنعه إياه ، إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود: "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم ، يقول : أنا مالك الذي بخلت به!.
حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال : سمعت أبا وائل يحدث : أنه سمع عبد الله قال في هذه الآية: "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : شجاع يلتوي برأس أحدهم .
حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة قال ، حدثنا خلاد بن أسلم قال ، أخبرنا النضر بن شميل قال ، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل ، عن عبد الله بمثله - إلا أنهما قالا: قال : شجاع أسود.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : يجيء ماله يوم القيامة ثعباناً فينقر رأسه فيقول : أنا مالك الذي بخلت به! فينطوي على عنقه.
حدثت عن سفيان بن عيينة قال ، حدثنا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثل له شجاع أقرع يطوقه. ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، الآية".
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : أما "سيطوقون ما بخلوا به"، فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع يطوقه ، فيأخذ بعنقه ، فيتبعه حتى يقذفه في النار.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي وائل قال : هو الرجل الذي يرزقه الله مالاً فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية فيطوقها، فيقول : ما لي ولك! فيقول : أنا مالك .
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال : سألت ابن مسعود عن قوله : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : يطوقون شجاعاً أقرع ينهش رأسه.
وقال آخرون : معنى ذلك : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، فيجعل في أعناقهم طوقا من نار.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : طوقاً من النار.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية: "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : طوقاً من نار.
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم في قوله : "سيطوقون"، قال : طوقاً من نار.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : طوقاً من نار.
وقال آخرون : معنى ذلك : سيحمل الذين كتموا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار الجهود، ما كتموا من ذلك.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، ألم تسمع أنه قال : "يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" [النساء : 37 - الحديد : 24]، يعني أهل الكتاب ، يقول : يكتمون ، ويأمرون الناس بالكتمان .
وقال آخرون : معنى ذلك : سيكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، قال : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به ، إلى قوله : "والكتاب المنير".
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "سيطوقون"، سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية، التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله : "سيطوقون ما بخلوا به"، للأخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد أعلم بما عنى الله تبارك وتعالى بتنزيله ، منه عليه السلام .
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : أنه الحي الذي لا يموت ، والباقي بعد فناء جميع خلقه .
فإن قال قائل : فما معنى قوله : له ميراث السماوات والأرض ، و الميراث المعروف ، هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ، ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده؟
قيل : إن معنى ذلك ما وصفنا، من وصفه نفسه بالبقاء، وإعلام خلقه أنه كتب عليهم الفناء. وذلك أن ملك المالك إنما يصير ميراثاً بعد وفاته ، فإنما قال جل ثناؤه : "ولله ميراث السماوات والأرض"، إعلاماً بذلك منه عباده أن أملاك جميع خلقه منتقلة عنهم بموتهم ، وأنه لا أحد إلا وهو فان سواه ، فإنه الذي إذا أهلك جميع خلقه فزالت أملاكهم عنهم ، لم يبق أحد يكون له ما كانوا يملكونه غيره.
وإنما معنى الآية: لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، بعد ما يهلكون وتزول عنهم أملاكهم ، في الحين الذي لا يملكون شيئاً، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل وغيرهم من سائر خلفه ، ذو خبرة وعلم ، محيط بذلك كله ، حتى يجازي كلاً منهم على قدر استحقاقه ، المحسن بالإحسان ، والمسيء على ما يرى تعالى ذكره.
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " ولا يحسبن الذين " ( الذين ) في موضع رفع ، والمفعول الأول محذوف ، قال الخليل و سيبويه و الفراء : المعنى البخل خيراً لهم ، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم ، وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل ، وهو كقوله : من صدق كان خيراً له ، أي كان الصدق خيراً له ، ومن هذا قول الشاعر :
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
فالمعنى : جرى إلى السفه ، فالسفيه دل على السفه ، وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيد جداً ، قاله النحاس : وجوازها أن يكون التقدير : لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم ، قال الزجاج : وهي مثل " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] ، و(هو) في قوله : " هو خيرا لهم " فاصلة عند البصريين ، وهي العماد عند الكوفيين ، قال النحاس : ويجوز في العربية ( هو خير لهم ) ابتداء وخبر .
الثانية : قوله تعالى : " بل هو شر لهم " ابتداء وخبر ، أي البخل شر لهم ، والسين في " سيطوقون " سين الوعيد ، أي سوف يطوقون ، قاله المبرد ، وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله ، وأداء الزكاة المفروضة ، وهذه كقوله : " ولا ينفقونها في سبيل الله " ، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم ابن مسعود وابن عباس و أبو وائل و أبو مالك و السدي و الشعبي قالوا : ومعنى " سيطوقون ما بخلوا به " هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية : " ولا يحسبن الذين يبخلون " " ، أخرجه النسائي ، وخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود ، " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه " ، ثم قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى : " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عند فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه " ، وقال ابن عباس أيضاً : إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم ، ومعنى ( سيطوقون ) على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة كما قال تعالى : " وعلى الذين يطيقونه " [ البقرة : 184 ] وليس من التطويق ، وقال إبراهيم النخعي : معنى ( سيطوقون ) سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار ، وهذا يجري مع التأويل الأول أي قول السدي ، وقيل : يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق ، يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة ، أي ألزم عمله ، وقد قال تعالى : " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " [ الإسراء : 13 ] ، ومن هذا المعنى قول عبد الله بن جحش لأبي سفيان :
أبلغ أبا سفيان عن أمر عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها تقضي بها عنك الغرامه
وحليفكم بالله رب الناس مجتهد القسامه
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامه
وهذا يجري مع التأويل الثاني ، والبخل والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه ، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل ، لأنه لا يذم بذلك ، وأهل الحجاز يقولون : يبخلون وقد بخلوا ، وسائر العرب يقولون : بخلوا يبخلون ، حكاه النحاس ، وبخل يبخل بخلاً وبخلاً ، عن ابن فارس .
الثالثة : في ثمرة البخل وفائدته ، وهو ما روي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : من سيدكم قالوا الجد بن قيس على بخل فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : واي داء أدوى من البخل ، قالوا : كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : إن قوماً نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا : ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء ، وتعتذر النساء ببعد الرجال ، ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء " ، ذكره الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين ، والله أعلم .
الرابعة : واختلف في البخل والشح ، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ، فقيل : البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك ، والشح : الحرص على تحصيل ما ليس عندك وقيل : إن الشح هو البخل مع حرص ، وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " ، وهذا يرد قول من قال : إن البخل منع الواجب ، والشح منه المستحب ، إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم ، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة ، ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبداً ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداً "، وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل ، إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله : وقد سئل : أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : لا وذكر الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : من سيدكم ، قالوا : الجد بن قيس على بخل فيه " ، وقد تقدم .
قوله تعالى : " ولله ميراث السماوات والأرض " أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين ، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم ، فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها ، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق ، وليس هذا بميراث في الحقيقة ، لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن ملكه من قبل ، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض ، وما بينهما ، وكانت السموات وما فيها ، والأرض وما فيها له ، وأن الأموال كانت عارية عند أربابها ، فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " [ مريم : 40 ] ، والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثاً لله تعالى ن ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" وذلك من شدة حرصه على الناس, كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق, فقال تعالى: لا يحزنك ذلك " إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة " أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيباً في الاخرة "ولهم عذاب عظيم", ثم قال تعالى مخبراً عن ذلك إخباراً مقرراً: "إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان" أي استبدلوا هذا بهذا "لن يضروا الله شيئاً" أي ولكن يضرون أنفسهم "ولهم عذاب أليم", ثم قال تعالى, " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " كقوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وكقوله "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" وكقوله "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" ثم قال تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة, يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه, يعرف به المؤمن الصابر, والمنافق الفاجر, يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين, فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, وهتك به ستر المنافقين. فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد, وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة, وقال السدي : قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر, فأنزل الله تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" أي حتى يخرج المؤمن من الكافر, روى ذلك كله ابن جرير ـ ثم قال تعالى: "وما كان الله ليطلعكم على الغيب" أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى: "ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء" كقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً" ثم قال تعالى: "فآمنوا بالله ورسله" أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم "وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم". وقوله تعالى: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم " أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه, وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة, فقال "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة", قال البخاري : حدثنا عبد الله بن منير , سمع أبا النضر , حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه , عن أبي صالح , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة, يأخذ بلهزمتيه ـ يعني بشدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك, أنا كنزك " ثم تلا هذه الاية "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم" إلى آخر الاية, تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان , عن القعقاع بن حكيم , عن أبي صالح به .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا حجين بن المثنى , حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار , عن ابن عمر , عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان, ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك" وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة به. ثم قال النسائي : ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن دينار , عن أبي صالح عن أبي هريرة (قلت) ولا منافاة بين الروايتين, فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين, والله أعلم, وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح , عن أبي هريرة . ومن حديث محمد بن أبي حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن جامع , عن أبي وائل , عن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه, يفر منه وهو يتبعه, فيقول: أنا كنزك" ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة", وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد , زاد الترمذي : و عبد الملك بن أعين , كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود به, وقال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري , كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي , عن أبي وائل , عن ابن مسعود به, ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفاً.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بسطام , حدثنا يزيد بن زريع , حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد , عن معدان بن أبي طلحة , عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال من ترك بعده كنزاً مثل له شجاعاً أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه, ويقول: من أنت ؟ ويلك, فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك, فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها, ثم يتبع سائر جسده" إسناده جيد قوي, ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي , ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع" لفظ ابن جرير , وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى , حدثنا عبد الأعلى , حدثنا داود عن أبي قزعة , عن رجل, عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده, فيبخل به عليه, إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه" ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجير بن بيان , عن أبي مالك العبدي موقوفاً, ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلاً. وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها, رواه ابن جرير , والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه, وقد يقال:إن هذا أولى بالدخول, والله سبحانه وتعالى أعلم, وقوله تعالى "ولله ميراث السموات والأرض" أي " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل. فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم "والله بما تعملون خبير" أي بنياتكم وضمائركم.
قوله 180- "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم" الموصول في محل رفع على أنه فاعل الفعل على القراءة من قرأ بالياء التحتية، والمفعول الأول محذوف: أي لا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم. قاله الخليل وسيبويه والفراء. قالوا: وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه، ومن ذلك قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه، فالسفيه دل على السفه. وأما على قراءة من قرأ بالفوقية فالفعل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمفعول الأول محذوف: أي لا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم. قال الزجاج: هو مثل "واسأل القرية" والضمير المذكور هو ضمير الفصل. قال المبرد: والسين في قوله "سيطوقون ما بخلوا به" سين الوعيد، وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله "بل هو شر لهم" قيل: ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم، وقيل: معناه أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة وليس من التطويق، وقيل المعنى: أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة: أي ألزم جزاء عمله، وقيل: إن ما لم تؤد زكاته من المال يمثل له شجاعاً أقرع حتى يطوق به في عنقه كما ورد ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل. قوله "ولله ميراث السموات والأرض" أي: له وحده لا لغيره كما يفيده التقديم. والمعنى: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم وإنما كان عندهم عارية مستردة، ومثل هذه الآية قوله تعالى "إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" وقوله "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه". والميراث في الأصل هو ما يخرج من مالك إلى آخر ولم يكن مملوكاً لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد "إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان" قال: هم المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة إن كان براً فقد قال الله "وما عند الله خير للأبرار" وإن كان فاجراً فقد قال "ولا يحسبن الذين كفروا" الآية. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي برزة أيضاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: قالوا إن كان محمداً صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن به منا ومن يكفر، فأنزل الله "ما كان الله ليذر المؤمنين" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: يميز بينهم في الجهاد والهجرة، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله "وما كان الله ليطلعكم على الغيب" قال: ولا يطلع على الغيب إلا رسول. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد "ولكن الله يجتبي" قال: يختص. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك قال: يستخلص. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا يحسبن الذين يبخلون" قال: هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: هم يهود. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله لم يؤدوا زكاتها. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمته: يعني بشدقه، فيقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية" وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها.
180-"ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " ،أي: ولا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم ،"بل هو" ، يعني: البخل،"شر لهم سيطوقون"، أي: سوف يطوقون "ما بخلوا به يوم القيامة"، يعني: يجعل ما منعه من الزكاة حيةً تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه ، وهذا قول ابن مسعودوابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي.
اخبرنا عبد الواحد المليحي أنا احمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا علي بن عبد الله المديني أنا هاشم بن القاسم أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح السمان عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ، يعني شدقيه ، ثم يقول :أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا:" ولا يحسبن الذين يبخلون " الآية".
اخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنامحمد بن إسماعيل أنا عمرو بن حفص بن غياث أنا أبي أنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إليه ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال"والذي نفسي بيده أو والذي لا إله غيره أو كما حلف ، ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس".
قال إبراهيم النخعي: معنى الآية بجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من النار، قال مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم.
وروى عطية عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء" الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " (النساء -37).
ومعنى قوله " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة"، أي: يحملون وزره وإثمه، كقوله تعالى :" وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم"(الأنعام-31).
"ولله ميراث السموات والأرض" ، يعني: أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم ، نظيره قوله تعالى :" إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " (مريم-40) "والله بما تعملون خبير" قرأ اهل البصرة ومكة يعملون بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء.
180" ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم " القراءات فيه على ما سبق. ومن قرأ بالتاء قدر مضافاً ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفاً لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيراً لهم. " بل هو " أي البخل. " شر لهم " لاستجلاب العقاب عليهم. " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " بيان لذلك، سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق، وعنه عليه الصلاة والسلام: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله شجاعاً في عنقه يوم القيامة". " ولله ميراث السموات والأرض " وله ما فيهما مما يتوارث، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة. " والله بما تعملون " من المنع والإعطاء. " خبير " فمجازيهم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الإلتفات وهو أبلغ في الوعيد.
180. And let not those who hoard up that which Allah hath bestowed upon them of His bounty think that it is better for them. Nay, it is worse for them. That which they hoard will be their collar on the Day of Resurrection. Allah's is the heritage of the heavens and the earth, and Allah is Informed of what ye do.
180 - And let not those who covetously withhold of the gifts which God hath given them of his grace, think that it is good for them: nay, it will be the worse for them: soon shall the things which they covetously withheld be tied to their necks like a twisted collar, on the day of judgment. to God belongs the heritage of the heavens and the earth; and God is well acquainted with all that ye do.