[آل عمران : 173] الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
(الذين) بدل من الذين قبله أو نعت (قال لهم الناس) أي نعيم بن مسعود الأشجعي (إن الناس) أبا سفيان وأصحابه (قد جمعوا لكم) الجموع ليستأصلوكم (فاخشوهم) ولا تأتوهم (فزادهم) ذلك القول (إيماناً) تصديقاً بالله ويقيناً (وقالوا حسبنا الله) كافينا أمرهم (ونعم الوكيل) المفوض إليه الأمر هو ، وخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فوافوا سوق بدر وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه فلم يأتوا وكان معهم تجارات فباعوا وربحوا قال الله تعالى:
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره : "وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"، "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم".
و"الذين" في موضع خفض مردود على "المؤمنين"، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول.
و"الناس" الأول ، هم قوم - فيما ذكر لنا - كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد.
و"الناس" الثاني ، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش ، الذين كانوا معه بأحد.
ويعني بقوله : "قد جمعوا لكم"، قد جمعوا الرجال للقائكم والكرة إليكم لحربكم ، "فاخشوهم"، يقول : فاحذروهم ، واتقوا لقاءهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم ، "فزادهم إيمانا"، يقول : فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين ، يقيناً إلى يقينهم ، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه ، وقالوا، ثقة بالله وتوكلاً عليه ، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين : "حسبنا الله ونعم الوكيل"، يعني بقوله : "حسبنا الله"، كفانا الله ، يعني : يكفينا الله ، "ونعم الوكيل"، يقول : ونعم المولى لمن وليه وكفله .
وإنما وصف تعالى نفسه بذلك ، لأن "الوكيل"، في كلام العرب ، هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره . فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات ، قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله ووثقوا به ، وأسندوا ذلك إليه ، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك ، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة فقال : ونعم الوكيل الله تعالى لهم .
واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الناس قد جمعوا لكم".
فقال بعضهم : قيل ذلك لهم في وجههم الذين خرجوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد إلى حمراء الأسد، في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين .
ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك ، ومن قائله :
حدثنا محمد بن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : مر به - يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم - معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة، مسلمهم ومشركهم ، عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه ، لا يخفون عليه شيئاً كان بها- ومعبد يومئذ مشرك - فقال : والله يا محمد، أما والله لصد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا! حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟! لنكرن على بقيتهم ، فلنفرعن منهم . فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم في شيء لم أر مثله قط ! قال : ويلك ! ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ! قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ! قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حطني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً من شعر! قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا خرق معازيل
فظلت عدواً، أظن الأرض مائلةً لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت : ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل البسل ضاحيةً لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد، لا وخش قنابله، وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر به ركب من عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة. قال : ولم ؟ قالوا: نريد الميرة . قال : فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها، وأحمل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم . قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : "حسبنا الله ونعم الوكيل".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال : فقال الله : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"، و"الناس" الذين قالوا لهم ما قالوا - النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال -: إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم ! يقول الله تبارك وتعالى : "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" الآية.
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ندموا - يعني أبا سفيان وأصحابه - على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا، فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً، فقالوا له : إن لقيت محمداً وأصحابه فاخبرهم أنا قد جمعنا لهم ! فأخبر الله جل ثناؤه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد . فلقوا الأعرابي في الطريق ، فأخبرهم الخبر، فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل"! ثم رجعوا من حمراء الأسد. فأنزل الله تعالى فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حبال، فقال : إن لكم علي رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ،إن أنتم وجدتموه في طلبي ، وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة. فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل! فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً، وقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تبارك وتعالى : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم" الآية.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعد ما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون لهم : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس ! فقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزل الله تعالى فيهم : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
وقال آخرون : بل قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له ، في غزوة بدر الصغرى، وذلك في مسير النبي صلى الله عليه وسلم عام قابل من وقعة أحد للقاء عدوه أبي سفيان وأصحابه ، للموعد الذي كان واعده الالتقاء بها.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم"، قال : هذا أبو سفيان قال لمحمد: موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : عسى! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا، فذلك قوله تبارك وتعالى : "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء"، وهي غزوة بدر الصغرى.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه -وزاد فيه : وهي بدر الصغرى- قال ابن جريج : لما عبى النبي صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم! يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : "حسبنا الله ونعم الوكيل"، حتى قدموا بدراً، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. قال: وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه السلام ، وقال في ذلك :
نفرت قلوصي عن خيولى محمد وعجوة منثورة كالعنجد
واتخذت ماء قديد موعدي
قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ، وإنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمد وعجوة من يثرب كالعنجد
تهوي على دين أبيها الأتلد قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد
حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، كن عكرمة قال : كانت بدر متجراً في الجاهلية، فخرج ناس من المسلمين يريدونه ، ولقيهم ناس من المشركين فقالوا لهم : "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"! فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التجارة، وقالوا : "حسبنا الله ونعم الوكيل"! فأتوهم فلم يلقوا أحداً، فأنزل الله عز وجل فيهم : "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، قال ابن يحيى ، قال عبد الرزاق ، قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، فقال : "حسبنا الله ونعم الوكيل".
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن الذي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا فاخشوهم ، كان في حال خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش ، منصرفهم عن أحد إلى حمراء الأسد . لأن الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم : "حسبنا الله ونعم الوكيل"، لما قيل لهم : "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم بقوله : "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح"، ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جرحى أصحابه باحد إلى حمراء الأسد.
وأما الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى، فإنه لم يكن فيهم جريح إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه وبرأ كلمه . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى بدر الثانية إليها، لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها، بعد سنة من غزوة أحد، في شعبان سنة أربع من الهجرة . وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث ، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع ، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه ، ولكن قد كان قتل في وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى. وكانت وقعة الرجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي صلى الله عليه وسلم بدراً الصغرى.
اختلف في قوله تعالى : " الذين قال لهم الناس " فقال مجاهد و مقاتل و عكرمة و الكلبي : هو نعيم بن مسعود الأشجعي ، واللفظ عام ومعناه خاص ، كقوله : " أم يحسدون الناس " يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، السدي : هو أعرابي جعل له جعل على ذلك وقال ابن إسحاق وجماعة : يريد بالناس ركب عبد القيس ، مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم ، وقيل : الناس هنا المنافقون ، قال السدي : تجهز النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا : نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا ، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا ، فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع فلا يرجع منكم أحد : فقالوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " وقال أبو معشر : دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة ، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا : " قد جمعوا لكم " جموعاً كثيرة " فاخشوهم " أي فخافوهم واحذروهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم ، فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع ، الله أعلم .
قوله تعالى : " فزادهم إيمانا " أي فزادهم قول الناس إيماناً ، أي تصديقاً ويقيناً في دينهم ، وإقامة على نصرتهم ، وقوةً وجراءة واستعداداً ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال ، وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال ، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان الذي هو تاج واحد ، وتصديق واحد بشيء ما ، إنما هو معنى فرد ، لا يدخل معه زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته ، فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه ، لا سيما أن كثيراً من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون باباً فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ، أخرجه الترمذي ، زاد مسلم " والحياء شعبة من الإيمان " ، وفي حديث علي رضي الله عنه ، إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب ، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة ، وقوله ( لمظة ) قال الأصمعي : اللمظة مثل النكتة ونحوها من البياض ، ومنه قيل : فرس المظ ، إذا كان بجحفلته شيء من بياض ، والمحدثون يقولون ( لمظة ) بالفتح ، وأما كلام العرب فبالضم ، مثل شبهة ودهمة وخمرة ، وفيه حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص ، ألا تراه يقول : كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة حتى يبيض القلب كله ، وكذلك النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق اسود القلب حتى يسود القلب كله ، ومنهم من قال : إن الإيمان عرض ، وهو لا يثبت زمانين ، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب ، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن ، وباعتبار دوام حضوره ، وينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن ، أشار إلى هذا أبو المعالي ، وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة ، حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم ، وفيه : " فيقول المؤمنون يا ربنا إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدً ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه " ، وذكر الحديث ، وقد قيل : إن المراد بالإيمان في هذا الحديث أعمال القلوب ، كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك ، وسماها إيماناً لكونها في محل الإيمان أو عني بالإيمان ، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب ، دليل هذا التأويل قول الشافعين بعد إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير : " لم نذر فيها خيراً " ، مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعاً كثيرة من يقول لا إله إلا الله ، وهم مؤمنون قطعاً ، ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم ، ثم إن عدم الوجود الأول الذي يركب عليه المثل لم تكن زيادة ولا نقصان ، وقدر ذلك في الحركة ، فإن الله سبحانه إذا خلق علماً فرداً وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات فقد زاد علمه ، فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص ، أي زالت الزيادة ، وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها ، وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هو من طريق الأدلة ، فتزيد الأدلة عند واحد فيقال في ذلك : إنها زيادة في الإيمان ، وبهذا المعنى على أحد الأقوال فضل الأنبياء على الخلق ، فإنهم علموه من وجوه كثيرة ، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها ، وهذا القول خارج عن مقتضى الآية ، إذ لا يتصور أن تكون الزيادة فيها من جهة الأدلة وذهب قوم إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفرائض والأخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر ، وهذا إنما هو زيادة إيمان ، فالقول فيه إن الإيمان يزيد قول مجازي ، ولا يتصور فيه النقص على هذا الحد ، وإنما يتصور بالإضافة إلى من علم ، فاعلم .
قوله تعالى : " وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " أي كافينا الله ، وحسب مأخوذ من الإحساب ، وهي الكفاية ، قال الشاعر :
فتملأ بيتنا إقطاً وسمناً وحسبك من غنى شبع وري
روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " إلى قوله : " وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم ، والله أعلم .
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار, فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار. قال محمد بن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق , حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة , حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة , حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة, قال: لا أدري أربعين أو سبعين, وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري, فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غاراً مشرفاً على الماء فقعدوا فيه, ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال ـ أراه ابن ملحان الأنصاري ـ: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج حتى أتى حياً منهم فاختبأ أمام البيوت, ثم قال: " يا أهل بئر معونة, إني رسول رسول الله إليكم, إني أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, فآمنوا بالله ورسوله, فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح, فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الاخر, فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة " , فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل, وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآناً: "بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه " , ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً, وأنزل الله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" وقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير , حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة , عن مسروق , قال: سألنا عبد الله عن هذه الاية "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أرواحهم في جوف طير خضر, لها قناديل معلقة بالعرش, تسرح من الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً ؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات, فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا, قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة, تركوا" وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا حماد , حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد, فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة" تفرد به مسلم من طريق حماد .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني , حدثنا سفيان عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي , عن عبد الله بن محمد بن عقيل , عن جابر , قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعلمت أن الله أحيا أباك, فقال له: تمن علي. فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى. قال: إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون". تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن أبا جابر وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه, قتل يوم أحد شهيداً. قال البخاري : وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر : سمعت جابراً قال لما قتل أبي: جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه, فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه, وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تبكه ـ أو ما تبكيه ـ ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع " وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة , عن محمد بن المنكدر , عن جابر , قال: لما قتل أبي يوم أحد, جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي, وذكر تمامه بنحوه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب , حدثنا أبي عن ابن إسحاق , حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي , عن ابن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أصيب إخوانكم بأحد, جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر, ترد أنهار الجنة, وتأكل من ثمارها, وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم, وحسن متقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد, ولا ينكلوا عن الحرب, فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم, فأنزل الله عز وجل هذه الايات "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" وما بعدها" هكذا رواه أحمد , وكذا رواه ابن جرير عن يونس , عن ابن وهب , عن إسماعيل بن عياش , عن محمد بن إسحاق به. ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس ـ وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري , عن سفيان , عن إسماعيل بن أبي خالد , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: نزلت هذه الاية في حمزة وأصحابه "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, وكذلك قال قتادة والربيع والضحاك : أنها نزلت في قتلى أحد.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه , حدثنا عبد الله بن جعفر , حدثنا هارون بن سليمان , أنبأنا علي بن عبد الله المديني , أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري , سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري , قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال "يا جابر مالي أراك مهتماً ؟ قال قلت: يا رسول الله, استشهد أبي وترك ديناً وعيالاً, قال: فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب, وإنه كلم أباك كفاحاً , قال علي :الكفاح المواجهة قال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية, فقال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني القول: أنهم إليها لا يرجعون. قال: أي رب فأبلغ من ورائي, فأنزل الله "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً" الاية". ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري , عن أبيه عن جابر , به نحوه. وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به. وقد رواه البيهقي أيضاً من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبد الرحمن إن شاء الله عن الزهري , عن عروة , عن عائشة, قالت: " قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر :يا جابر ألا أبشرك قال: بلى, بشرك الله بالخير, قال شعرت أن الله أحيا أباك, فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطكه, قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك, أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى, قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب , حدثنا أبي عن ابن إسحاق , حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد , عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء على بارق نهر بباب الجنة, في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" تفرد به أحمد . وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به, وهو إسناد جيد. وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة, ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة, وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر, فيجتمعون هنالك, ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح, والله أعلم ـ وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها, وتأكل من ثمارها, وترى ما فيها من النضرة والسرور, وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة, وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم, اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة, فإن الإمام أحمد رحمه الله, رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله, عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله, عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك , عن أبيه رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" قوله "يعلق" أي يأكل, وفي هذا الحديث "إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة" وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر, فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين, فإنها تطير بأنفسها, فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان ـ وقوله تعالى: "فرحين بما آتاهم الله" إلى آخر الاية, أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم, وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة, ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم, وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم, نسأل الله الجنة. قال محمد بن إسحاق "ويستبشرون" أي ويسرون بلحوق من خلفهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم, ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا, ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا, فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم, وقال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء, قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة, فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة, وأخبرهم, أي ربهم, أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه, فاستبشروا بذلك, فذلك قوله: "ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الاية, وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة, وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم, قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع "أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا".
ثم قال تعالى: "يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" قال محمد بن إسحاق : استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الاية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم, وقلما ذكر الله فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه, إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم. وقوله تعالى: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" هذا كان يوم حمراء الأسد, وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين, كروا راجعين إلى بلادهم, فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة, فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً, ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه, لما سنذكره, فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد , حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو , عن عكرمة , قال: لما رجع المشركون عن أحد, قالوا: لا محمداً قتلتم, ولا الكواعب أردفتم, بئس ما صنعتم, ارجعوا, فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فندب المسلمين, فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد ـ أو بئر أبي عيينة ـ الشك من سفيان ـ فقال المشركون: نرجع من قابل, فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانت تعد غزوة, فأنزل الله تعالى: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم" ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة , عن عمرو , عن عكرمة , عن ابن عباس فذكره ـ وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال, فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال, أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو, وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس, فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام , فقال: يا رسول الله, إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع, وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن, ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك, فتخلفت عليهن, فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه, وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو, وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة, وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل, كان قد شهد أحداً, قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو, قلت لأخي ـ أو قال لي ـ: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها, وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله, وكنت أيسر جراحاً منه, فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة, حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام , حدثنا أبو معاوية عن هشام , عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها "الذين استجابوا لله والرسول" الاية, قلت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد, وانصرف عنه المشركون, خاف أن يرجعوا, فقال "من يرجع في أثرهم" فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهما, هكذا رواه البخاري منفرداً به بهذا السياق, وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم , عن عباس الدوري , عن أبي النضر , عن أبي سعيد المؤدب , عن هشام بن عروة به, ثم قال: صحيح, ولم يخرجاه, كذا قال. ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار, وهدية بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة . عن هشام بن عروة به, وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به. وقد رواه الحاكم أيضاً من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن البهي , عن عروة , قال: قالت لي عائشة : يا بني إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه ـ وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه, أنبأنا سمويه , أنبأنا عبد الله بن الزبير , أنبأنا سفيان , أنبأنا هشام عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها, قالت: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير رضي الله عنهما " , ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه, ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة , وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير , لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم, وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد , حدثني أبي , حدثني عمي , حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان, فرجع إلى مكة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً, وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب", وكانت وقعة أحد في شوال, وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة, فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة, وإنهم قدموا بعد وقعة أحد, وكان أصاب المؤمنين القرح, واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين, وقال "إنما يرتحلون الان فيأتون الحج, ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل" فجاء الشيطان فخوف أولياءه, فقال: إن الناس قد جمعوا لكم, فأبى عليه الناس أن يتبعوه, فقال " إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلاً, فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ", فأنزل الله تعالى: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" الاية, ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد, وهي من المدينة على ثمانية أميال, قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم , فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء, ثم رجع إلى المدينة, وقد مر به ـ كما حدثني عبد الله بن أبي بكر ـ معبد بن أبي معبد الخزاعي , وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها, ومعبد يومئذ مشرك, فقال: يا محمد, أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك, ولوددنا أن الله عافاك فيهم, ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء, وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ لنكرن على بقيتهم ثم فلنفرغن منهم, فلما رأى أبو سفيان معبداً, قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم, يتحرقون عليكم تحرقاً, قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا, فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط, قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم, قال: فإني أنهاك عن ذلك, فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتاً من شعر, قال: وما قلت ؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدواً أظن الأرض مائلة لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه, ومر به ركب من بني عبد القيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم ؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم, فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد, فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه, فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب" وقال الحسن البصري في قوله "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب, فمن ينتدب في طلبه ؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاتبعوهم, فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه, فلقي عيراً من التجار فقال: ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا, وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعاً وأني راجع إليهم, فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل " . فأنزل الله هذه الاية, وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد: إن هذا السياق نزل في شأن حمراء الأسد, وقيل: نزلت في بدر الموعد, والصحيح الأول. وقوله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً" الاية, أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء, فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به, "وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". قال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس , قال: أراه قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حصين , عن أبي الضحى , عن ابن عباس "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار, وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيماناً, وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله , كلاهما عن يحيى بن أبي بكير , عن أبي بكر وهو ابن عياش به, والعجب أن الحاكم أبا عبد الله رواه من حديث أحمد بن يونس به, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل , عن إسرائيل , عن أبي حصين عن أبي الضحى , عن ابن عباس , قال : كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: "حسبنا الله ونعم الوكيل". وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا عن الشعبي , عن عبد الله بن عمرو , قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار, رواه ابن جرير . وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر , حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري , حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري , أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل , عن أنس بن مالك , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فأنزل الله هذه الاية. وروى أيضاً بسنده عن محمد بن عبيد الله الرافعي , عن أبيه, عن جده أبي رافع : أن النبي صلى الله عليه وسلم, وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان , فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم, فقالوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" فنزلت فيهم هذه الاية. ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد , حدثنا الحسن بن سفيان , أنبأنا أبو خيثمة مصعب بن سعيد , أنبأنا موسى بن أعين , عن الأعمش , عن أبي صالح , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل"" هذا حديث غريب من هذا الوجه ـ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس , قالا: حدثنا بقية , حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان , عن سيف , عن عوف بن مالك أنه حدثهم " أن النبي صلى الله عليه وسلم, قضى بين رجلين, فقال: المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فقال: ما قلت ؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز, ولكن عليك بالكيس, فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بحير عن خالد , عن سيف وهو الشامي , ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ـ وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط , حدثنا مطرف عن عطية , عن ابن عباس في قوله: "فإذا نقر في الناقور", قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما نقول ؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا" وقد روي هذا من غير وجه, وهو حديث جيد, وروينا عن أم المؤمنين زينب وعائشة رضي الله عنهما, أنهما تفاخرتا, فقالت زينب : زوجني الله وزوجكن أهاليكن, وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن, فسلمت لها زينب, ثم قالت: كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل ؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. قالت زينب : قلت كلمة المؤمنين, ولهذا قال تعالى: "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم "بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" مما أضمر لهم عدوهم "واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم" وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ , حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد , حدثنا محمد بن نعيم , حدثنا بشر بن الحكم , حدثنا مبشر بن عبد الله بن رزين , حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم , عن عكرمة , عن ابن عباس في قول الله تعالى " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " قال: النعمة أنهم سلموا, والفضل أن عيراً مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" قال: هذا أبو سفيان, قال لمحمد صلى الله عليه وسلم, موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وسلم "عسى", فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً, فوافقوا السوق فيها, فابتاعوا, فذلك قول الله عز وجل: "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" الاية, قال: وهي غزوة بدر الصغرى, رواه ابن جرير , وروى أيضاً عن القاسم , عن الحسين , عن حجاج , عن ابن جريج , قال: لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش, فيقولون: قد جمعوا لكم, يكيدونهم بذلك, يريدون أن يرعبوهم, فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل, حتى قدموا بدراً, فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد, قال: رجل من المشركين أخبر أهل مكة بخيل محمد, وقال في ذلك:
نفرت قلوصي من خيول محمد وعجوة منثورة كالعنجد
واتخذت ماء قديد موعدي
قال ابن جرير: هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ, وإنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمد وعجوة من يثرب كالعنجد
فهي على دين أبيها الأتلد قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد
ثم قال تعالى: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" أي يخوفكم أولياءه, ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة, قال الله تعالى: "فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين" أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إلي, فإني كافيكم وناصركم عليهم, كما قال تعالى: "أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه" إلى قوله "قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون" وقال تعالى: "فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" وقال تعالى: "أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" وقال تعالى "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" وقال "ولينصرن الله من ينصره" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم" الاية, وقال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ".
قوله 172- "الذين قال لهم الناس" المراد بالناس هنا نعيم بن مسعود كما سيأتي بيانه، وجاز إطلاق لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم، وقيل: المراد بالناس ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان، وقيل: هم المنافقون. والمراد بقوله "إن الناس قد جمعوا لكم" أبو سفيان وأصحابه، والضمير في قوله "فزادهم" راجع إلى القول المدلول عليه، بقال أو إلى المقول، وهو "إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" أو إلى القائل، والمعنى: أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه، بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة ويقيناً. وفيه دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. قوله "وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" حسب مصدر حسبه: أي كفاه وهو بمعنى الفاعل: أي محسب بمعنى كافي. قال في الكشاف: والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول: هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية انتهى. والوكيل هو من توكل إليه الأمور، أي: نعم الموكول إليه أمرنا، أو الكافي، أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف: أي نعم الوكيل الله سبحانه.
173-"الذين قال لهم الناس" ومحل" الذين" خفض أيضاً مردود على الذين الأول وأراد بالناس: نعيم ابن مسعود، في قول مجاهدوعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى:" أم يحسدون الناس"يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم وحده ، وقال محمد بن إسحاق وجماعة: أراد بالناس الر كب من عبد القيس، "إن الناس قد جمعوا لكم" ، يعني أبا سفيان وأصحابه،"فاخشوهم"، فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم ، "فزادهم إيماناً" تصديقاً ويقيناً وقوة " وقالوا حسبنا الله" أي: كافينا الله ، "ونعم الوكيل"، أي: الموكول إليه الأمور، فعيل بمعنى مفعول.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف انا محمد بن إسماعيل اخبرنا أحمد بن يونس اخبرنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:" إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
173" الذين قال لهم الناس " يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " يعني أبا سفيان وأصحابه روي: أنه نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام والسلام: إن شاء الله تعالى، فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين. وقيل: لقي نعيم ابن مسعود وقد قدم معتمراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففتروا، فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون حسبنا الله. "فزادهم إيماناً" الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله أن أريد به نعيم وحده، والبارز للمقول لهم والمعنى: إنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده، وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص وعضده قول ابن عمر رضي الله عنهما "قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص، قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار" وهذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإيمان وكذا إن لم تجعل فان اليقين يزداد بالإلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج. "وقالوا حسبنا الله" محسبنا وكافينا، من أحسبه إذا كفاه ويدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإضافة تعريفاً في قولك هذا رجل حسبك. "ونعم الوكيل" ونعم الموكل إليه وهو فيه.
173. Those unto whom men said: Lo! the people have gathered against you, therefor fear them. (The threat of danger) but increased the faith of them and they cried: Allah is sufficient for us! Most Excellent is He in Whom we trust!
173 - Men said to them: a great army is gathering against you: and frightened them: but it (only) increased their faith: they said: for us God sufficeth, and he is the best disposer of affairs.