[آل عمران : 154] ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً) أمناً (نعاساً) بدل (يغشى) بالياء والتاء (طائفةً منكم) وهم المؤمنون فكانوا يميدون تحت الحجف وتسقط السيوف منهم (وطائفةٌ قد أهمتهم أنفسهم) أي حملتهم على الهم فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي وأصحابه فلم يناموا وهم المنافقون (يظنون بالله) ظناً (غير) الظن (الحق ظن) أي كظن (الجاهلية) حيث اعتقدوا أن النبي قتل أو لا ينصر (يقولون هل) ما (لنا من الأمر) أي النصر الذي وعدناه (من) زائدة (شيء قل) لهم (إن الأمر كله) بالنصب توكيداً والرفع مبتدأ وخبره (لله) أي القضاء له يفعل ما يشاء (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون) يظهرون (لك يقولون) بيان لما قبله (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا) أي لو كان الاختيار إلينا لم نخرج فلم نقتل لكن أخرجنا كرها (قل) لهم (لوكنتم في بيوتكم) وفيكم من كتب الله عليه القتل (لبرز) خرج (الذين كتب) قضي (عليهم القتل) منكم (الى مضاجعهم) مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم قعودهم لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة (و) فعل ما فعل بأحد (ليبتلي) يختبر (الله ما في صدوركم) قلوبكم من الإخلاص والنفاق (وليمحص) يميز (ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) بما في القلوب لا يخفى عليه شيء وإنما يبتلي ليظهر للناس
قوله تعالى ثم أنزل عليكم الآيات أخرج ابن راهوية عن الزبير قال لقد رأيتني يوم أحد حين اشتد علينا الخوف وأرسل علينا النوم فما منا أحد إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها فأنزل الله في ذلك ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا إلى قوله والله عليم بذات الصدور
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : ثم أنزل الله ، أيها المؤمنون : من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله ، "أمنة"، وهي الأمان ، على أهل الإخلاص منكم واليقين ، دون أهل النفاق والشك.
ثم بين جل ثناوه ، عن الأمنة التي أنزلها عليهم ، ما هي؟ فقال ، "نعاسا"، بنصب النعاس على الإبدال من الأمنة.
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : "يغشى".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء : "يغشى".
وقرأ جماعة من قرأة الكوفيين بالتأنيث : تغشى بالتاء.
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتذكير، إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من المؤمنين دون الأمنة، فذكره بتذكير النعاس.
وذهب الذين قرأوا ذلك بالتأنيث ، إلى أن الأمنة هي التي تغشاهم فأنثوه لتأنيث الأمنة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، غير مختلفتين في معنى ولا غيره. لأن الأمنة في هذا الموضع هي النعاس ، والنعاس هو الأمنة. فسواء ذلك ، وبآيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته . وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله : "إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون" [الدخان: 43 - 45] و"ألم يك نطفة من مني يمنى" [القيامة: 37]، و "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط" [مريم: 25].
فإن قال قائل : وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما، فأمنت إحداهما بنفسها حتى نعست ، وأهمت الأخرى أنفسها حتى ظنت بالله غير الحق ظن الجاهلية؟ قيل : كان سبب ذلك فيما ذكر لنا، كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين ، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدراً من قابل ، فقال نعم ! نعم ! فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: انظر، فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم ، فإن القوم ذاهبون ، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم ، فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله واصبروا"، ووطنهم على القتال . فلما أبصرهم الرسول على الأثقال سراعاً عجالاً، نادى بأعلى صوته بذهابهم. فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي صلى الله عليه وسلم فناموا، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم . فقال الله جل وعز، يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا : "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من يأمن ، "يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية".
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أعد أمنة، حتى سقط من يدي مراراً، قال أبو جعفر: يعني سوطه ، أو سيفه.
حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا، حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن صب عليه النعاس يوم أحد.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال ، حدثنا أنس بن مالك : عن أي طلحة: أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس ، قال : كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه ، من النعاس.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا، والله أعلم ، عن أنس : أن أبا طلحة حدثهم : أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ويسقط ، والطائفة الأخرى المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم ، "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، الآية كلها.
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال ، حدثنا ضرار بن صرد قال ، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال : سألت عبد الرحمن بن عوفي عن قول الله عز وجل : "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا"، قال : ألقى علينا النوم يوم أحد.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا"، الآية، وذاكم يوم أحد، كانوا يومئذ فريقين ، فأما المؤمنون فغشاهم الله النعاس أمنة منه ورحمة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس نحوه.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "أمنة نعاسا"، قال : ألقى عليهم النعاس ، فكان ذلك أمنة لهم.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين قال ، قال عبد الله : النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا"، قال : أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به ، فهم نيام لا يخافون.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "أمنة نعاسا"، قال : أللى الله عليهم النعاس ، فكان أمنة لهم. وذكر أن أبا طلحة قال : ألقي في النعاس يومئذ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا حماد بن سلمة قال ، أخبرنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة، وهشام بن عروة، عن عروة، عن الزبير، أنهما قالا: لقد رفعنا رؤوسنا يوم أحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته، قال : وتلا هذه الآية: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا".
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : وطائفة منكم ، أيها المؤمنون ، "قد أهمتهم أنفسهم"، يقول : هم المنافقون ، لا هم لهم غير أنفسهم ، فهم من حذر القتل على أنفسهم وخوف المنية عليها في شغل ، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله ، شكاً في أمر الله ، وتكذيباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ومحسبة منهم أن الله خاذل نبيه ومعل عليه أهل الكفر به ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء! كالذي:-
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال : والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظنوناً كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله: "يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال : والطائفة الأخرى المنافقون ، ليس لهم همة إلا أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، "يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا". قال الله عز وجل : "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" الآية.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم"، قال : أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوف القتل ، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم"، إلى آخر الآية، قال : هؤلاء المنافقون.
وأما قوله : "ظن الجاهلية"، فإنه يعني أهل الشرك ، كالذي:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "ظن الجاهلية"، قال : ظن أهل الشرك.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "ظن الجاهلية"، قال : ظن أهل الشرك.
قال أبو جعفر: وفي رفع قوله : "وطائفة"، وجهان.
أحدهما، أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : "قد أهمتهم".
والآخر: بقوله : "يظنون بالله غير الحق"، ولو كانت منصوبة كان جائزاً، وكانت الواو ، في قوله : "وطائفة"، ظرفاً للفعل ، بمعنى : وأهمت طائفة أنفسهم ، كما قال "والسماء بنيناها بأيد" [الذاريات: 47].
قال أبو جعفر: يعني بذلك الطائفة المنافقة التي قد أهمتهم أنفسهم ، يقولون : ليس لنا من الأمر من شيء ، قل إن الأمر كله لله ، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا، كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قيل لعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم ! قال : وهل لنا من الأمر من شيء؟ قيل : إن الأمر كله لله ! وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين : "إن الأمر كله لله"، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحب.
ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين، فقال: "يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك"، يقول : يخفي ، يا محمد، هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم ، في أنفسهم من الكفر والشك في الله ، ما لا يبدون لك.
ثم أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم ، والحسرة التي أصابتهم على حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبراً عن قيلهم الكفر وإعلانهم النفاق بينهم : "يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا"، يعني بذلك ، أن هؤلاء المنافقين يقولون : لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا إليهم ، ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قتلوا فيه بأحد.
وذكر أن ممن قال هذا القول ، معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف.
ذكر الخبر بذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحاق ، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال : والله إني لأسمع قول معتب بن قشير، أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا!
حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثني أبي ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه بمثله.
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق : "قل إن الأمر كله"، بنصب الكل على وجه النعت لـ "الأمر" والصفة له.
وقرأه بعض قرأة أهل البصرة: قل إن الأمر كله لله برفع الكل ، على توجيه الكل إلى أنه اسم ، وقوله "لله" خبره ، كقول القائل : إن الأمر بعضه لعبد الله.
وقد يجوز أن يكون الكل في قراءة من قرأه بالنصب ، منصوباً على البدل.
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا، النصب في الكل ، لإجماع أكثر القرأة عليه ، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ في معنى أو عربية . ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القرأة، لكانت سواءً عندي القراءة بأي ذلك قرئ، لاتفاق معاني ذلك باقي وجهيه قرئ.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : قل ، يا محمد، للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين : لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم ، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين ، فيظهر للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم ، وتكتمونه من شككم في دينكم ، "لبرز الذين كتب عليهم القتل"، يقول : لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه ، من قد كتب عليه القتل منهم ، ولخرج من بيته إليه حتى يصرع في الموضع الذي كتب عليه أن يصرع فيه.
وأما قوله :"وليبتلي الله ما في صدوركم"، فإنه يعني به: وليبتلي الله ما في صدوركم، أيها المنافقون ، كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم.
ويعني بقوله : "وليبتلي الله ما في صدوركم"، وليختبر الله الذي في صدوركم من الشك ، فيميزكم -بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم - من المؤمنين.
وقد دللنا فيما مضى على أن معاني نظائر قوله: "ليبتلي الله" و"ليعلم الله" وما أشبه ذلك ، وإن كان في ظاهر الكلام مضافاً إلى الله الوصف به ، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته ، وأن معنى ذلك : وليختبر أولياء الله وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض ، فيعرفوكم ، [فيميزوكم] من أهل الإخلاص واليقين ، "وليمحص ما في قلوبكم"، يقول وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من العداوة أو الولاية.
"والله عليم بذات الصدور"، يقول : والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر، وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، سرائرها علانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ ، حتى يجازي جميعهم جزاءهم على قدر استحقاقهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال : ذكر الله تلاومهم -يعني تلاوم المنافقين - وحسرتهم على ما أصابهم، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل: "لو كنتم في بيوتكم"، لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم ، لأخرج الذين كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه ، حتى يبتلي به ما في صدوركم، "وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور"، أي : لا يخفى عليه ما في صدورهم ، مما استخفوا به منكم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا الحارث بن مسلم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال : سئل عن قوله : "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم"، قال : كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في سبيله ، وليس كل من يقاتل يقتل ، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل.
قوله تعالى : " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " الأمنة والأمن سواء ، وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف ، والأمن مع عدمه ، وهي منصوبة بـ( أنزل ) و ( نعاساً ) بدل منها ، وقيل : نصب على المفعول له ، كأنه قال : أنزل عليكم للأمنة نعاساً ، وقرئ ابن محيصن ( أمنة ) بسكون الميم ، تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم ، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام ، روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، " يغشى " قرئ بالياء والتاء الياء للنعاس ، والتاء للأمنة ، والطائفة تطلق على الواحد والجماعة ، " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " يعني المنافقين : معتب بن قشير وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ، ويقولون الأقاويل ، ومعنى " قد أهمتهم أنفسهم " حملتهم على الهم ، والهم ما هممت به ، يقال : أهمني الشيء أي كان من همي ، وأمر مهم : شديد : وأهمني الأمر أقلقني ، وهمني أذابني ، والواو في قوله " وطائفة " واو الحال بمعنى إذ ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل ، وأنه لا ينصر " ظن الجاهلية " أي ظن الجاهلية فحذف ، " يقولون هل لنا من الأمر من شيء " لفظه استفهام ومعناه الجحد ، أي ما لنا شيء من الأمر ، أي من أمر الخروج ، وإنما خرجنا كرهاً يدل عليه قوله تعالى إخباراً عنهم : " لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " قال الزبير : أرسل علينا النوم ذلك اليوم ، وإني لأسمع قوم معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، وقيل : المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء ، والله أعلم .
قوله تعالى : " قل إن الأمر كله لله " قرأ أبو عمرو و يعقوب ( كله ) بالرفع على الابتداء وخبره ( لله ) والجملة خبر ( إن ) ، وهو كقوله " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " [ الزمر : 60 ] ، والباقون بالنصب ، كما تقول : إن الأمر أجمع لله ، فهو توكيد ، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم ، وأجمع لا يكون إلا توكيداً ، وقيل نعت للأمر ، وقال الأخفش : بدل ، أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء ، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " يعني التكذيب بالقدر ، وذلك أنهم تكلموا فيه ، فقال الله تعالى : " قل إن الأمر كله لله " يعني القدر خيره وشره من الله ، " يخفون في أنفسهم " أي من الشرك والكفر والتكذيب ، " ما لا يبدون لك " يظهرون " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " أي ما قتل عشائرنا فقيل : إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة ، ولما قتل رؤساؤنا ، فرد الله عليهم فقال : " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز " أي لخرج ، " الذين كتب " أي فرض ، " عليهم القتل " يعني في اللوح المحفوظ ، " إلى مضاجعهم " أي مصارعهم ، وقيل : " كتب عليهم القتل " أي فرض عليهم القتال ، فعبر عنه بالقتل ، لأنه قد يؤول إليه ، وقرأ أبو حيوة ( لبرز ) بضم الياء وشد الراء ، بمعنى يجعل يخرج ، وقيل : لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين ، والواو في قوله " وليبتلي " مقحمة كقوله : " وليكون من الموقنين " [ الأنعام : 75 ] ، أي ليكون ، وحذف الفعل الذي مع لام كي ، والتقدير " الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم " فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم وقيل : معنى ( ليبتلي ) ليعاملكم معاملة المختبر ، وقيل : ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيباً ، وقيل : هو على حذف مضاف ، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى ، وقد تقدم معنى التمحيص ، " بذات الصدور " أي ما فيها من خير وشر ، وقيل : ذات الصدور هي الصدور ، لأن ذات الشيء نفسه .
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم, والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان, كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه" الاية, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج , حدثنا أبو نعيم وكيع , عن سفيان , عن عاصم , عن أبي رزين , عن عبد الله بن مسعود , قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان, وقال البخاري وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع , حدثنا سعيد عن قتادة , عن أنس , عن أبي طلحة , قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد, حتى سقط سيفي من يدي مراراً, يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, وهكذا رواه في المغازي معلقاً, ورواه في كتاب التفسير مسنداً عن شيبان , عن قتادة , عن أنس , عن أبي طلحة , قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد, قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة , عن ثابت , عن أنس , عن أبي طلحة , قال, رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس, لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح, ورواه النسائي أيضاً, عن محمد بن المثنى , عن خالد بن الحارث , عن أبي قتيبة , عن ابن أبي عدي , كلاهما عن حميد , عن أنس قال: قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه النعاس, الحديث, وهكذا روي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي : حدثنا أبوعبد الله الحافظ , أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب , حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي , حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي , حدثنا يونس بن محمد , حدثنا شيبان عن قتادة , حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" أي إنما هم كذبة أهل شك وريب في الله عز وجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال, فإن الله عز وجل يقول: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم" يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله, ولهذا قال: "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" يعني لايغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" كما قال في الاية الأخرى "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً" إلى آخر الاية, وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله, وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة, ثم أخبر تعالى عنهم أنهم "يقولون" في تلك الحال "هل لنا من الأمر من شيء" فقال تعالى: "قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك" ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير , عن أبيه , عن عبد الله بن الزبير , قال: قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره, قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " لقول معتب, رواه ابن أبي حاتم . قال الله تعالى: "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه, وقوله تعالى: "وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم" أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال "والله عليم بذات الصدور" أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر, ثم قال تعالى: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها, ثم قال تعالى "ولقد عفا الله عنهم" أي عما كان منهم من الفرار "إن الله غفور حليم" أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم, وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله " ولقد عفا الله عنهم " ومناسب ذكره ههنا, قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو , حدثنا زائدة , عن عاصم , عن شقيق , قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم حنين, قال عاصم : يقول يوم أحد: ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر , قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان , قال: فقال عثمان : أما قوله إني لم أفر يوم حنين, فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم" وأما قوله إني تخلفت يوم بدر, فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم, ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد, وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو, فأته فحدثه بذلك.
الأمنة والأمن سواء، وقيل: الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه، وهي منصوبة بأنزل. ونعاساً بدل منها أو عطف بيان أو مفعول له، وأما ما قيل من أن أمنة حال من نعاساً مقدمة عليه أو حال من المخاطبين أو مفعول له فبعيد. وقرأ ابن محيصن أمنة بسكون الميم. قوله 154- "يغشى" قرئ بالتحتية على أن الضمير للنعاس وبالفوقية على أن الضمير لأمنة، والطائفة الأخرى هم معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وجعلوا يناشدون على الحضور، ويقولون الأقاويل. ومعنى "أهمتهم أنفسهم" حملتهم على الهم، أهمني الأمر أقلقني، والواو في قوله "وطائفة" للحال، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال، وقيل: إن معنى "أهمتهم أنفسهم" صارت همهم لا هم لهم غيرها "يظنون بالله غير الحق" هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي: يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به، وظن الجاهلية بدل منه. وهو الظن المختص بملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر ولا يتم ما دعا إليه من دين الحق. وقوله "يقولون" بدل من يظنون أي: يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم "هل لنا من الأمر من شيء" أي: هل لنا من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد: أي ما لنا شيء من الأمر. وهو النصر والاستظهار على العدو، وقيل هو الخروج: أي إنما خرجنا مكرهين، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله "قل إن الأمر كله لله" وليس لكم ولا لعدوكم منه شيء، فالنصر بيده والظفر منه. وقوله "يخفون في أنفسهم" أي: يضمرون في أنفسهم النفاق ولا يبدون لك ذلك، بل يسألونك سؤال المسترشدين. وقوله " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " استئناف كأنه قيل: ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل: يقولون فيما بينهم أو في أنفسهم " لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " أي: ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" أي: لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بد من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها، فإن قضاء الله لا يرد. وقوله "وليبتلي الله ما في صدوركم" علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها، كأنه قيل: لعل ما فعل لمصالح جمة "وليبتلي" إلخ، وقيل: إنه معطوف على علة مطوية لبرز، والمعنى: ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان.
154-"ثم أنزل عليكم " ، يا معشر المسلمين ، " من بعد الغم أمنةً نعاساً" يعني: أمناً ، والأمن والأمنة بمعنى واحد ، وقيل: الأمن يكون مع زول سبب الخوف ، والأمنة مع بقاء سبب الخوف ، وكان سبب الخوف هنا قائماً،"نعاساً" ، بدل من الأمنة " يغشى طائفة منكم" قرأ حمزة و الكسائي "تغشى" بالتاء رداً إلى الأمنة ، وقرأ الآخرون بالياء رداً إلى النعاس.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم ، وإنما ينعس من يأمن ، والخائف لا ينام.
أخبرنا عبد الواحد المليحي انا احمد بن عبد الله النعيمي أخبرنامحمد بن يوسف أنامحمد بن إسماعيلأخبرنااسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أناحسين بن محمد أخبرناشيبان عن قتادة أخبرناانس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي فآخذه ويسقط وآخذه .
وقال ثابت عن انس عن ابي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس.
وقال عبد الله بن الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الحرب، أرسل الله علينا النوم، والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم، يقولون : لو كان لنا من الأمر شئ ماقتلنا ها هنا ، فذلك قوله تعالى:"يغشى طائفةً منكم" يعني: المؤمنين،"وطائفةً قد أهمتهم أنفسهم"،يعني: المنافقين: قيل: أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين ، فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا، ولم يوقع على المنافقين ، فبقوا في الخوف وقد أهمتهم أنفسهم ، أي: حملتهم على الهم يقال: أمر مهم.
"يظنون بالله غير الحق" أي: لا ينصر محمداً ، وقيل ظنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ،" ظن الجاهلية " أي: كظن اهل الجاهلية والشرك،"يقولون هل لنا" : مالنا، لفظه استفهام ومعناه:جحد، " من الأمر من شيء "يعني: النصر،"قل إن الأمر كله لله" قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في "الله" وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل: على النعت.
" يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا "، وذلك أن المنافقين ، قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم يقتل رؤساؤنا ، وقيل: لو كنا على الحق ما قتلنا ها هنا.
قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يعني: التكذيب بالقدر ، وهو قولهم " لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " ،"قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب": قضي،"عليهم القتل إلى مضاجعهم"، مصارعهم ، "و ليبتلي الله"، وليمتحن الله،"ما في صدوركم وليمحص"، يخرج ويظهر "ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور" بما في القلوب من خير وشر.
154" ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه. والأمنة الأمن نصب على المفعول ونعاساً بدل منها أو هو المفعول، و "أمنةً" حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة. وقرىء "أمنة" بسكون الميم كأنها المرة في الأمر "يغشى طائفةً منكم" أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء رداً على الأمنة والطائفة المؤمنون حقا. "وطائفة" هم المنافقون. "قد أهمتهم أنفسهم" أوقعتهم أنفسهم في الهموم، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها. " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " صفة أخرى لطائفة أو حال أو اسئناف على وجه البيان لما قبله، وغير الحق نصب على المصدر أي: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به، و "ظن الجاهلية" بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها. "يقولون" أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدل من يظنون. " هل لنا من الأمر من شيء " هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط. وقيل: أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك، والمعنة\ى إنا منعنى تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء " قل إن الأمر كله لله " أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض. وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الإبتداء. "يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك" حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإنكار والتكذيب. "يقولون" أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض، وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له. "لو كان لنا من الأمر شيء" كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره. " ما قتلنا هاهنا " لما غلبنا، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة. "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه. "وليبتلي الله ما في صدوركم" وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاد القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء، أوعلى لكيلا تحزنوا. " وليمحص ما في قلوبكم " وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس. " والله عليم بذات الصدور " بخفياتها قل إظهارها، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الإبتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين.
154. Then, after grief, He sent clown security for you. As slumber did it overcome a party of you, while (the other) party, who were anxious on their own account, thought wrongly of Allah, the thought of ignorance. They said: Have we any part in the cause? Say (O Muhammad): The cause belongeth wholly to Allah. They hide within themselves (a thought) which they reveal not unto thee, saying: Had we had any part in the cause we should not have been slain here. Say: Even though ye had been in your houses, those appointed to be slain would have gone forth to the places where they were to lie. (All this hath been) in order that Allah might try what is in your breasts and prove what is in your hearts. Allah is Aware of what is hidden in the breasts (of men).
154 - After (the excitement) of the distress, he sent down calm on a band of you overcome with slumber, while another band was stirred to anxiety by their own feelings, moved by wrong suspicions of God suspicions due to ignorance. they said: what affair is this of ours? say thou: indeed, this affair is wholly God's they hide in their minds what they dare not reveal to thee. they say (to themselves): if we had anything to do with this affair, we should not have been in the slaughter here. say: even if you had remained in your homes, those for whom death was decreed would certainly have gone forth to the place of their death; but (all this was) that God might test what is in your breasts and purge what is in your hearts. for God knoweth well the secrets of your hearts.