[الفرقان : 72] وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
72 - (والذين لا يشهدون الزور) الكذب والباطل (وإذا مروا باللغو) من الكلام القبيح وغيره (مروا كراما) معرضين عنه
اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه ، فقال بعضهم : معناه الشرك بالله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا يشهدون الزور " قال : الشرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " والذين لا يشهدون الزور " قال : هؤلاء المهاجرون ، قال : والزور قولهم لآلهتهم ، وتعظيمهم إياها .
وقال آخرون : بل عني به الغناء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن عبد الأعلى المحربي قال : ثنا محمد بن مروان ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله " والذين لا يشهدون الزور " قال : لا يسمعون الغناء .
وقال آخرون : هو قول الكذب .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " والذين لا يشهدون الزور " قال : الكذب .
قال أبو جعفر : وأصل الزور تحسين الشيء ، ووصفه بخلاف صفته ، حتى يخيل إلى من يسمعه او يراه ، أنه خلاف ما هو به ، والشرك قد يدخل في ذلك ، لأنه محسن لأهله ، حتى قد ظنوا أنه حق ، وهو باطل ، ويدخل فيه الغناء ، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت ، حتى يستحلي سامعه سماعه ، والكذب أيضا قد يدخل فيه ، لتحسين صاحبه إياه ، حتى يظن صاحبه أنه حق ، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور .
فإذا كان ذلك كذلك ، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله : أن يقال : والذين لا يشهدون شيئا من الباطل ، لا شركا ، ولا غناء ، ولا كذبا ولا غيره ، وكل ما لزمه اسم الزور ، لأن الله عم في وصفه إياهم ، أنهم لا يشهدون الزور ، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها ، من خبر أو عقل .
وقوله : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " اختلف أهل التأويل في معنى اللغو بالذي ذكر في هذا الموضع ،فقال بعضهم : معناه : ما كان المشركون يقولونه للمؤمنين ، ويكلمونهم به من الأذى ، ومرورهم به كراما : إعراضهم عنهم وصفحهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : صفحوا .
حدثنا القاسم ، قال : 4نا الحسين ، قال : ثني حجاج ،عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : إذا أوذوا مروا كراما ، قال : صفحوا .
وقال آخرون : بل معناه : وإذا مروا بذكر النكاح ، كفوا عنه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ،عن مجاهد " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : إذا ذكروا النكاح كفوا عنه .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الأشيب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن مجاهد ، " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : كانوا إذا أتو على ذكر النكاح كفوا عنه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبي مخزوم ، عن سيار " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : إذا مروا بالرفت كفوا .
وقال آخرون : إذا مروا بما كان المشركون فيه من الباطل مروا منكرين له .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : هؤلاء المهاجرون ، واللغو ما كانوا فيه من الباطل ، يعني المشركين وقرأ " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " الحج : 30 .
وقال آخرون : عني باللغو ههنا : المعاصي كلها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : اللغو كله : المعاصي .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، أن يقال : إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراما ، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل ، أو ما يستقبح ، فسب الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو وذكر النكاح بصريح اسمه مما يستقبح في بعض الأماكن ، فهو من اللغو ، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه ، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين ، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو ، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو ، أن يقال : : عني به بعض ذلك دون بعض ، إذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خير أو عقل . فإذا كان ذلك ، فتأويل الكلام : وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه ، مروا كراما ، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه ، وذلك كالغناء . وفي بعض ذلك : بأن يعرضوا عنه ويصفحوا ، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبيح من القول ، وفي بعضه : بأن ينهوا عن ذلك وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول . وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف ، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم ، فيستصرخهم المراد ذلك منهم ، فيصرخونهم ، وكل ذلك مرورهم كراما .
وقد حدثني ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن ميسرة ، قال : " مر ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أصبح ابن مسعود لكريما " .
وقيل : إن هذه الآية مكية .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمعت السدي يقول : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال : هي مكية ، وإنما عنى السدي بقوله هذا إن شاء الله ، أن الله نسخ ذلك بأمره المؤمنين بقتال المشركين بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة : 5 وأمرهم إذا مروا باللغو الذي هو شرك ، أن يقاتلوا أمراءه ، وإذا مروا باللغو ، الذي هو معصية لله أن يغيروه ، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة ، وهذا القول نظير تاويلنا الذي تأولناه في ذلك .
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : " والذين لا يشهدون الزور "أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه . والزور كل باطل زور وزخرف ، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد . وبه فسر الضحاك و ابن زيد وابن عباس . وفي رواية عن ابن عباس أنه اعياد المشركين . عكرمة : لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور ، مجاهد : الغناء ، وقاله محمد بن الحنفية أيضاً . ابن جريج : الكذب ، وروي عن مجاهد . وقال علي بن أبي طلحة و محمد بن علي : المعنى لا يشهدون بالزور ، من الشهادة لا من المشاهدة . قال ابن العربي : أما القول بأنه الكذب فصحيح ، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع ، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة ، أو أمر يعود إلى الكفر ، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد .
قلت : من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم ، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال ، أو يثير كامناً من حب اللهو ، مثل قول بعضهم :
ذهبي اللون تحسب من وجنتيه النار تقتدح
خوفوني من فضيحته ليته وافى وأفتضح
على ما بيناه في غير هذا الموضع . وأما من قال إنه شهادة الزور ، وهي : الثاني: فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ، وحلق رأسه ، ويطوف به في السوق . وقال أكثر العلم : ولا تقبل له شهادة أبداً وإن تاب وحسنت حاله قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة ( الحج ) فتأمله هناك .
قوله تعلى : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " قد تقدم الكلام في اللغو ، وهو كل سقط من قول أو فعل ، فيدخل فيه الغناء واللهو وغر ذلك مما قاربه ، ويدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر . وقال مجاهد : إذا أوذوا صفحوا . وروي عنه : إذا ذكر النكاح كنوا عنه . وقال الحسن : اللغو المعاصي كلها . وهذا جامع . و" كراما " معناه معرضين منكرين لا يرضونه ، ولا يمالئون عليه ، ولا يجالسون أهله . أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل . يقال : تكرم فلان عما يشينه ، أي تنزه وأكرم نفسه عنه . وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسع وذهب ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد أصبح ابن أم عبد كريماً " وقيل : من المرور كريماً أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور, قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام, وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل, وقال محمد بن الحنفية : هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هي أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس , هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري : شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه, كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر, فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" وقيل المراد بقوله تعالى: "لا يشهدون الزور" أي شهادة الزور, وهي الكذب متعمداً على غيره, كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثاً, قلنا: بلى يا رسول الله. قال :الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً, فجلس فقال :ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " . والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه, ولهذا قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً" أي لا يحضرون الزور, وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء, ولهذا قال "مروا كراماً".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سيعد الأشج , حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم , أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضاً, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً" وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي , حدثنا حبان , أخبرنا عبد الله , أخبرنا محمد بن مسلم , أخبرني ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً". ثم تلا إبراهيم بن ميسرة "وإذا مروا باللغو مروا كراماً".
وقوله تعالى: "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً" وهذه أيضاً من صفات المؤمنين "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون" بخلاف الكافر, فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله, كما قال تعالى: "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم" فقوله "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه, فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد قوله "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" قال: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة : قوله تعالى "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً" يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه, فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم , حدثنا عبد الله بن حمران , حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجوداً ولم يسمع ما سجدوا, أيسجد معهم ؟ قال: فتلا هذه الاية: يعني أنه لا يسجد معهم, لأنه لم يتدبر أمر السجود, ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين.
وقوله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس : يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والاخرة. قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً, ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الاية فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله, لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعا لله عز وجل. قال ابن جريج في قوله "هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمر بن بشر , حدثنا عبد الله بن المبارك , أخبرنا صفوان بن عمرو , حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً, فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت, فاستغضب المقداد , فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً, ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه, أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبياً من الأنبياء في فترة جاهلية, ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان, فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق بين الوالد وولده, إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار, فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار, وأنها التي قال الله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه.
وقوله تعالى: "واجعلنا للمتقين إماماً" قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس : أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير, فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم, وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع, وذلك أكثر ثواباً, وأحسن مآباً, ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له, أو علم ينتفع به من بعده, أو صدقة جارية".
فقال: 72- "والذين لا يشهدون الزور" أي لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور والزور، هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين. قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك. والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف: أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود الحضور كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية لا يحضرون اللهو والغناء وقال ابن جريح: الكذب. وروي عن مجاهد أيضاً والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً من كان " وإذا مروا باللغو مروا كراما " أي معرضين عنه غير ملتفتين إليه، واللغوا كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه: أي يتنزه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله.
72- "والذين لا يشهدون الزور"، قال الضحاك وأكثر المفسرين: يعني الشرك، وقال علي بن طلحة: يعني شهادة الزور. وكان عمر بن الخطاب: يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في السوق. وقال ابن جريج: يعني الكذب. وقال مجاهد: يعني أعياد المشركين. وقيل: النوح، قال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل/ على باطلهم. وقال محمد بن الحنفية: لا يشهدون اللهو والغناء. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع.
وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته. فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.
"وإذا مروا باللغو مروا كراماً"، قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، نظيره قوله: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" (القصص-55)، قال السدي: وهي منسوخة بآية القتال.
قال الحسن والكلبي: اللغو: المعاصي كلها، يعني إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراماً مسرعين معرضين. يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.
72ـ " والذين لا يشهدون الزور " لا يقيمون الشهادة الباطلة ، أ و لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل شركة فيه . " وإذا مروا باللغو " ما يجب أن يلقى ويطرح . " مروا كراماً " معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية فيما يستهجن التصريح به .
72. And those who will not witness vanity, but when they pass near senseless play, pass by with dignity.
72 - Those who witness no falsehood, and, if they pass by futility, they pass by it with honorable (avoidance);